عباس بيضون
أريد أن أسرّ إليكم بأنني كنت أيضاً شاباً رغم ان ابنيّ يظنان أن الآباء لا يكونون أبداً شباناً. أريد أن اسرّ إليكم أيضاً بأن الشعراء يبقون على الدوام شباناً كما تبقى الرغبات التي لا تتحقق والخطط العظيمة للمستقبل والطوباويات والقيم التي لا نتنازل عنها وحقوق البشر في العدل والحرية والسلم والحب، اقرأوا القصائد التي كتبها شعراء في شيخوختهم تجدونها لا تشكو من وجع المفاصل ولا نضوب الدم. إذ لا توجد على حد علمي قصيدة عجوز، الشعراء يبقون شباناً والشعر هو العقار السحري للشباب الدائم إذ ليس مسموحاً للشعراء أن يشيخوا ولا توجد بالنسبة لهم السن التي لا يفكر فيها الناس إلا بأمراضهم ونهايتهم. ويغدو فيها كل أمل وكل حلم بل تغدو الحياة نفسها وراءهم.
الشعراء لا يشيخون لأنهم لا يتوقفون عن الأمل، ليس الأمل بشيء ما، بل الأمل الذي هو غريزة وإحساس ولا يحتاج حتى الى موضوع: مع ذلك فإن الشعراء لا يبيعون الوهم، انهم يجدون ذلك في دمهم، يجدون أيضاً فيه موهبة الانتظار لما لا يعرف له اسم، الحماسة لما لا يعرف له وجه ويسمعون نداء الأقاصي. لا يبيعون الوهم لكنهم يعرفون أن دمهم مليء بالحقائق ومليء بالصور وأن على المرء فقط أن يجيد الإصغاء إذ لا يحتاج الشعر الى أكثر من ذلك. إنه فن أن لا نقتل الأشياء لنقدر على استعمالها بحرية ولا نهدر كلماتنا وأقاصيصنا لنصل بسرعة مجنونة الى أهدافنا. إنه فن أن نحتفظ الى أبعد مدى بكلماتنا وقصصنا المفضلة كما يحتفظ البعض بدمى طفولتهم على الدوام. فن أن تبقى للكلمات والأشياء سلطتها الأولى وسحر أسمائها وقدرتها على التحول والمفاجأة. فن أن نكبر ببطء ونترك الأشياء تكبر معنا من دون أن ندمرها في استعجالنا لنصبح أكبر منها.
الشعراء يتقنون الانتظار ولا يخسرون شيئاً أبان ذلك. إنهم يكنزون الأشياء في داخلهم وعليهم أن لا يستعجلوا. النجمة التي آن أوانها ستشرق في أوانها. الثمرة ستسقط حين يحين ذلك وسيجدونها فجأة أمامه. باستدعاء بسيط سيجدونها فجأة. القصيدة ستأتي في حينها أيضاً، انهم ينتظرون بسعادة تارة وبسأم قاتل تارة أخرى لكنهم يربون في الانتظار رؤاهم وصورهم، ليس فقط في المخيلة ولكن في الجلد واللحم فالشعر لا يصنع الأحلام ولكنه يظهر الأحلام ويجعلها مرئية ومجسدة. يجعلها أكيدة لا ريب فيها فقد <<حدثت>> في القصيدة وغدت فيها حقيقة واقعة.
الشعراء لا يبيعون الوهم. إنهم يوسعون الحقيقة ويمنحون وجوداً فعلياً لما لم يكتمل بعد. أو لما يزال مجرد ظن أو فكرة. لا يحتاجون إلى كثير ليفعلوا ذلك. بأول كلمة يصنعونه. بأول قافية، فالجمال أيضاً بسيط وسهل. ما نحتاجه فقط إيمان بالكلمات. أن ننظر اليها وكأنها حشراتنا المدللة. أن نتعلم كيف نداعبها ونلمسها لنصنع منها أشياء رائعة. نحتاج لأن نحبها ولا نسحقها من فرط استعجالنا. أيها الشبان أنهم يستعجلونكم كثيراً يقولون إن عليكم ان تقتلوا ذاكرتكم وكاتالوغاتكم الرائعة وفراشاتكم لتنضجوا بسرعة ولتكونوا مبكراً نصب أهدافكم. يرمونكم بسرعة في سوق العمل والإنتاج وسوق النزاعات والوطنيات والعصبيات. يقولون إن عليكم ان تقتلوا لغتكم، ان تتكلموا لغة ليست جلداً لأحد ولا تشبه أحداً. أن تقولوا الكلمات كما يعرفها الكومبيوتر. أسوأ ما في العولمة هو لغة اللاأحد التي يقترحها أسوأ مبشريها. لم يحدث أن عاش ناس خارج لغتهم ويريدون أن يجربوا هذا بكم وعليكم أن تقاوموا.
إن قتل اللغة هو قتل الذاكرة، فالكلمات هي أيضاً تاريخ، ونحن بها نؤكد اننا عشنا قبلاً وما زلنا نسمع أسلافنا في كلامهم. إن موت كلمة موت كائن حي وعلينا أن نحمي كلماتنا كما نحمي الأجناس النادرة. فأسوأ ما في العولمة اليوم هو قتل الذاكرة والعيش بلا ماض. لم يحدث ان عاش أناس من قبل بلا ذاكرة ويريدون أن يجربوا هذا بكم وعليكم أن تقاوموا.
الشعر هو أيضاً عنصر مقاومة. قصيدة صغيرة تملك قدرة هائلة على أن تقاوم. إنها مصنوعة من لغة وذاكرة لا يمكن تفكيكهما بسهولة. قد تكون هزيلة وضئيلة كخيط لكن من يقدر على قتل خيط. قد تكون الأضعف فهي حساسية وتوتر ومن يقدر على تدمير حساسية ما. من يقدر على إبادة الطاقة الكامنة في هذه البقعة الصغيرة من الكلمات.
ربما تظنون ان الشعراء رعاة من زمن آخر أو عشاق في زمن لا يحبذ كثيرا العاطفية. ربما تظنون ان الشعر بات من زمن شيعة سرية ونشاطا تحت الأرض. ماذا تقولون إذا علمتم ان الشعراء أيضا ينتظرون الوحي من الكومبيوترات أو ان وحيهم تغيّر بعد كشوفات الفضاء. ماذا تقولون إذا علمتم ان الأرقام شعرية كالكلمات والسيارات جميلة كالأشجار وكل ما يوجد. وبأي إرادة كانت، كائن شعري.
يظنون ان هذا العصر لا يصلح للشعر فماذا تقولون إذا علمتم اننا لا نعرف فتوحا للمخيلة كما نعرف في هذا العصر. يكفي ان نعود الى علم الفلك لنرى كم من كتاب السماء أعظم من أي كتاب شعري وملحمة الفضاء كبرى الملاحم. العالم يغدو مع التطور العلمي مليئا بالحدوس والاحتمالات والحسابات المستقبلية. أي انه يغدو بالطبع أكثر شعرية، بل وأكثر خيالية من الشعر نفسه. ان العجيب والخارق هما اليوم صنعة العلم أكثر من الشعر، والشعر لا يربح في مباراة خيال مع العلم. هل تجاوز الواقع الشعر فبدأ بطيئا مقصرا. أم ان على الشعر ان يتحقق في مجاله الحقيقي الذي لا يحتاج الى صواريخ وأقمار صناعية، مجال الذات الإنسانية المرضوضة والمعزولة التي يتجاوزها العلم كما يتجاوزها الواقع نفسه. ان العالم يغدو افتراضيا الى حد اننا ننسى الحقيقة، ننسى الألم البشري ننسى الحاجة البسيطة للحب والتضامن. أي كل ما يتطلب ملامسة متأنية عطوفا هي فن الشعر وغايته. صحيح ان العالم المعاصر يكره الشعر، لنقل انه يحتقره فالعالم المعاصر المبهور بعجيب الكون ينحدر الى احتقار الذات البشرية التي يراها بطيئة ومتخلفة عن اكتشافاته، ان الإنسان، حتى في نظر نفسه، أقل أهمية من طموحه ومعرفته. ربما لهذا لا نزال بحاجة الى الشعر أو اننا أحوج اليوم اليه، إذ لا بد من معالجة صور للذات التي تهان كلما طلب منها ان تكون فقط طاقة في سوق العمل والإنتاج. وكلما اعتبرت آلة مشكوك في فعاليتها ومشكوك أكثر في تلك الرواسب العاطفية والوجدانية التي حملتها معها من عصور ما قبل ثورة الأدمغة الصناعية.
أكتب الآن من مدينة عانت عشرين عاما ونيفا من الحرب الأهلية. رأيت كيف يتحول الإنسان لمجرد حصوله على بندقية الى قاتل. كيف يغدو أقل اختلاف في الاسم واللهجة والسكن سببا كافيا للاعتداء. رأيت كيف تتحول المبادئ والمثل والوطنيات الى برامج لتصفية الآخر، وكيف يتحول أناس عاديون في غمرة العنف الى جامعي أعضاء من الجسم البشري. ان البشرية قادرة على ان تكون عديمة الرحمة وعلى ان تدمر بعنفها مُثلها. ذلك يتطلب فنا بريئا لا يتحول، مهما كان الظرف، الى آلة دموية. قد تكون الموسيقى هذا الفن، قد يكون الشعر. حين تحدث هولدرلين عن براءة الشعر ربما كان يقصد شيئا كذلك، اننا نحتاج الى فن لا يعتدي. الى فن ضعيف وحساس ولا يقدر على ان يتحول بوقا للعداء. قد يكون الشعر ضروريا لحياتنا، قد تكون جرعة منه مع حليب الرضاعة. ملعقة منه مع دواء المرض، قليل منه كل يوم ضرورية لمداواة غرائز القسوة والعنف والاعتداء عند البشر.
الشعراء يبقون شبانا كالرغبات التي لا تتحقق والقصيدة قبل كل شيء رغبة حارة وجسدية وربما تتحقق، على نحو ما، في كلمات. القصيدة غالبا لهفة، حماسة، شغف وأغنية للآخر، للصديق، للقرين. قسوتها، حتى قسوتها، تطهّرٌ من العنف وسوداويتها، إذا وجدت، تطهّرٌ من الكراهية. انها تبقى، وفي كل الأحوال، فعل حب وفعل براءة. أهم من ذلك انها وعد ببداية، يمكن ان نبدأ في أي سن ومع أي قصيدة، وأنتم أيها الشباب يمكنكم هكذا ان تبدأوا.