الشاب الذي أخطأ الطريق

عبد الرحمن أقريش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

ينزل مطر خفيف.
يمشي (الرجراجي) مستسلما لزخات المطر، يبدو هادئا، بطيئا ومصمما، يغرق في عالمه الداخلي، يغيب، يفكر، يمضغ هواجسه، ثم في لحظة ما يعود إلى نفسه، ينتبه إلى (زينب) أخته الصغيرة وهي تمشي بجانبه.
يفتح ممطرته، يمدها للفتاة، تشكره بابتسامة صامتة.

رفاقه في الحي يحتفظون له بصورة مشرقة، شاب وسيم، ذكي، لبيب، أنيق، متعدد المواهب، منطلق، شغوف، يحب كرة القدم، يتودد للفتيات، يرسم، يكتب الشعر، صوته جميل، يغني، يجود القرآن…
تغير كل ذلك فجأة.
لا أحد يعرف الأسباب والتفاصيل.
تعرض (الرجراجي) لصدمة نفسية قوية قلبت شخصيته رأسا على عقب، في البداية انسحب من الحياة الاجتماعية، ولزم غرفته بين الكتب وركام المجلات والأشرطة الدينية المسموعة، لا يخرج منها إلا للصلاة في المسجد، ثم تدريجيا، تعقدت حالته، تلبسته فكرة رهيبة مفادها أن الله غاضب عليه بسبب خطاياه، وأن مصيره في العالم الآخر لن يكون غير الجحيم الأبدي، وبدأ يدخل في نوبات هستيرية، بكاء ونحيب عنيف يرجه من الداخل، كآبة قاسية، حالات صمت وذهول ممتدة، حالات انتشاء وفرح عابرة، وساوس، تهيآت، هلاوس، كوابيس ومخاوف غير مفهومة…
آزرته أسرته، تكلف والده بكل التفاصيل، تكاليف السفر، الطبيب، العلاج والأدوية…
ولكن ذلك لم يجد نفعا.

ما حدث بعد ذلك كان تتمة لقصة حزينة وغامضة.
كانت العلامات الأولى للتشدد ترسم معالم شخصيته الجديدة، أعفى لحيته، قاطع الرفاق والأصدقاء الذكور منهم والإناث، انتقل من الملابس العصرية التي تناسب عادة الشباب والمراهقين، إلى الجلباب المغربي، وانتهى به الأمر إلى اللباس بطريقة غريبة يمتزج فيها الزي الخليجي بالأفغاني…
أوقف مساره الدراسي، غادر الثانوية بحجة أن المدرسات متبرجات كاسيات عاريات، وأن الأساتذة ملاحدة وكفرة ملاعين…
بعدها تقمص دور الواعظ، ابتدأ بالحلقة الأضعف في أسرته، أمه وأخواته البنات، أشهر في وجوههن قائمة طويلة بما يجوز وما لا يجوز لهن فعله، الحجاب إلزامي، ممنوع التبرج والماكياج والملابس العصرية، ممنوع التلفزة والمسلسلات، ممنوع الإطلالات من النوافذ، وممنوع الخروج من البيت…
ولكن القرار الخطير كان هو محاولته منع البنات من مواصلة الدراسة.
والده كان هناك، وقف له بالمرصاد.
– شوف يا ولدي، ربما لست مسلما مثاليا في نظرك، ولكنني أرفض وصايتك على أمك وعلى البنات…هن أسرتي ومسؤوليتي، وعندما تتزوج ويكون لك بنات وأولاد إن شاء الله فلك أن تحدد لهم حياتهم بالطريقة التي تعجبك…ولك أن تصحبهم معك إلى أفغانستان أو السعودية أو اليمن أو الصومال أو أية بقعة أخرى فأرض الله واسعة…

ثم ذات يوم.
حضر مناسبة حزينة، مجلس عزاء لشخص يعتبره عزيزا وغاليا.
مجلس عزاء بتفاصيل باذخة، مأدبة حقيقية، موائد طافحة، أكل كثير، فواكه، حلويات، شاي ومياه معدنية…
تفاعلت بداخله مشاعر متناقضة، مزيج من الحزن والحرج، فهو لم يعد يطيق المناسبات الاجتماعية أيا كانت، التفت يمينا ويسارا، تأمل الوجوه واكتشف أنه لا يعرف أحدا هنا، فتعمق شعوره بالغربة والعزلة.
في قلب المجلس، يجلس رجل في حدود الخمسين أو يزيد قليلا، يقدم درسا دينيا حول (الفريضة الغائبة)، الفريضة التي أهملتها الأمة، فريضة الجهاد والخروج في سبيل الله، الجهاد بالنفس والمال…
ينظر إليه (الرجراجي)، يتأمله، يتوقف كثيرا عند التفاصيل، اللحية المشذبة بعناية، الوجه المدهون الصقيل، اللباس الفاخر، الخاتم الثمين، السبحة والساعة الغالية…
ثم أخيرا هذا المزيج من العطور والروائح التي تملأ المكان…
يتكلف رجل أكبر سنا، يعرف بالضيف ويقدمه للحضور.
يفتتح الشيخ درسه، يتوجه للحضور، يطلب منهم الهدوء والصمت والكف عن الأكل والشرب والعبث بالكؤوس، لأن ذلك لا يستقيم وقدسية مجلس يحضر فيه الذكر، يتلى فيه القرآن والأحاديث النبوية، وتحفه أرواح شهداء الأمة الأوائل الذين خرجوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله تاركين ورائهم الأهل والمال والولد…
وراح الرجل يستحضر النماذج والأسماء والوقائع…
ثم يحدث أمر عجيب.
يعترض (الرجراجي)، يقف منتصبا، يقاطع الشيخ.
– النماذج التي قدمتها لا تمثل الإسلام، هذا مفهوم خاطئ للجهاد، الرجل الذي يترك وراءه أهله وأبناءه، يهجرهم لسنوات، ويجعلهم عرضة للضياع والفتنة والانحراف، هذا شخص مجرم ولا يستحق التشريف ولا لقب الشهادة…
أين حقوق الزوجة؟ أين حقوق الأبناء؟ من يرعى مصالحهم في غيابه الطويل؟
يسود الصمت للحظات، صمت ضاغط، قوي ورهيب.
تبدأ الهمهمات، ثم تتعالى أصوات الاستنكار والرفض.
– أعوذ بالله…
– أستغفر الله العظيم…
– هذا كلام منكر وغريب، ولا يليق أن يصدر عن شخص مسلم سليم العقيدة…
– ينبغي أن تسحب هذا الكلام، وتعتذر، وتستغفر، وتثوب إلى الله…
استجمع (الرجراجي) شجاعته، أصر على موقفه ورفض أن يعتذر.
عاد الصمت للحظة، للحظات.
كان (الرجراجي) ينظم أفكاره ويستعد لإتمام السجال وتوضيح فكرته.
ولكن إشارة خفية من الشيخ حسمت الأمر بسرعة.
قام أربعة رجال أشداء بالمهمة، حملوا (الرجراجي) مثل كيس بطاطس، ألقوه خارجا، أغلقوا الباب، وراح الشيخ يستكمل درسه الديني…

المدينة ليلا.
مشى تائها لساعات، ينتظم وقع خطواته على إيقاع هواجسه، يكاد يسمع صوته الداخلي، يعود بذاكرته إلى الوراء، يسترجع شريط حياته في صور سريعة ومتلاحقة، يفكر في ذاته، في أسرته، في علاقته بوالده التي انتهت بالقطيعة، في الماضي والحاضر والمستقبل، في أوهامه ومعتقداته، في تصوره للدين والحياة والسعادة، في علاقاته العاطفية الأولى التي بائت كلها بالفشل، وفي كل مرة، يشعر بالذنب، يمزقه الألم يدافع عن نفسه أمام نفسه، يلوذ بالنكران والمقاومة والتبرير والانفصال عن الواقع، يلقي باللوم على الحياة والظروف، على حظه السيء، على المجتمع وعلى الآخرين.

في البيت.
استسلم (الرجراجي) لقوة الرشاش، أغمض عينيه، يستشعر خيوط الماء باردة وقوية تنزل على جسده، تطفئه، تغسله، تطهره…
يرفع بصره إلى المرآة، يحلق دقنه في حركات بطيئة وحاسمة، مرر شفرة الحلاقة على لحيته جيئة وذهابا، ألقى نظرة أخيرة على شاربه، بدا مترددا للحظة وكأنه يفكر أو يتخذ قرارا، ثم عندما حسم أمره مرر عليه الموسى.
ينظر للشعيرات وهي تتساقط، تمتزج بالماء والصابون وتنجرف بعيدا.
مرر كفه المبتلة على صفحة المرآة، مسحها ببطء وكأنه خائف، ومن وراء سحابة البخار أطل عليه وجهه الجديد، وراح ينظر إليه، يتأمله، بدا وكأنه قادم من مكان بعيد، بدا وكأنه يراه لأول مرة، أحس أن روحا كئيبة تطل عليه من الداخل، ينظر للخطوط التي انحفرت على جبهته، يقطب حاجبيه، يرفعهما، يحركهما، يضغط على عضلات وجهه، يحاول أن يبتسم.
أخيرا، ارتسمت على الجهة اليسرى من شفتيه الخطوط الأولى لما يشبه الابتسامة، تعبير غريب يشبه الألم أو الامتعاض.
تملكته مشاعر غامضة تستعصي على التصنيف، خليط من الندم والشفقة ورثاء الذات.
يخاطب نفسه.
– أخطأت الطريق…

الخيوط الأولى للصباح.
فتح النافذة، دفع الستائر يمينا ويسارا، تسرب هواء بارد إلى غرفته، ينظر أمامه، يفكر ويحاول ألا يفكر، في الخلفية يرتفع صوت الآذان، يردده بداخله، يتعالى، يخترق سماء المدينة، تحمله الريح، يسافر، يتلاشى، ثم يعود رجعا بعيدا.

(مدرسة فاطمة الفهرية الإعدادية المختلطة)
توقف المطر، تشرق الشمس، تخترق أشعتها خيوط سترته الصوفية.
يقدر أنه يوم جميل.
ينتظر صامتا، بجانبه تقف (زينب)، تمسك بيدها اليمنى ملفا ورقيا يضم الوثائق التي تخول لها التسجيل برسم موسمها الدراسي الجديد، تبدو هادئة، خجولة ومترددة، تمور بداخلها عواطف وانفعالات قوية، تنظر إلى عالمها الجديد الذي يعج بالحركة، تلتفت بحذر، تبتسم وتلوح خفية لأصدقائها وصديقاتها، في قرارة نفسها تشعر بالكثير من السعادة، هي سعيدة بنفسها، بتفوقها المدرسي، بملابسها الأنيقة، بتنورتها الملونة، بضفائرها المجدولة بعناية، بحذائها الجديد، سعيدة بخطواتها الأولى في عالم الكبار…
ولكن (زينب) تشعر بالسعادة لسبب آخر، هي سعيدة لأنها استعادت أخيرا أخاها الكبير، الأخ الذي افتقدته لسنوات، الأخ الذي تغير فجأة لأسباب يعجز عقلها الصغير عن فهمها، كان يعيش إلى جانبها على بعد خطوات، كانت تراه يوميا وفي كل مرة تشعر أنه يبتعد، تكلمه، يكلمها أحيانا، تنظر إليه، تتأمله، وتشعر أنها تكاد لا تعرفه.
انفتحت البوابة الحديدية الضخمة عن آخرها، وراح التلاميذ يدخلون، يندفعون على شكل جماعات صغيرة، في حركة مليئة بالحماس والضجيج وفرحة الاكتشاف…
– هل تذهب معي؟
تسأل (زينب).
يبتسم ويجيب.
– لا، اذهبي وحدك، أنت الآن كبيرة، وتستطيعين الاعتماد على نفسك…

ينظر إليها (الرجراجي) وهي تخترق حشد التلاميذ، تذوب وسط الزحمة وتختفي…
ترتسم ابتسامته مرة أخرى، تنمحي، ويحل محلها تعبير حزين وغامض.
يخاطب نفسه بصوت مسموع.
– لم يفت الوقت بعد، إنها فرصتك لتصحح أخطائك.

مقالات من نفس القسم

محمد فيض خالد
تراب الحكايات
محمد فيض خالد

أربع قصص