وإذا كان السِّياق هو المُؤسِّس لمنظور الرَّاوي في النَّصِّ الشِّعريِّ فإنَّه يتجلَّى كثيرًا في الحكاية عن الآخَر، أو الحكاية عن الذَّات؛ على اعتبار أنّ الرَّاوي فاعل الحكاية يقدِّم صورةً سرديَّةً، أو على سبيل الالتفات، أو الاتِّحاد مع ضمير المخاطب؛ ليبدو ضمير المتكلِّم في صورة منفصلةٍ عن الحكاية، سواء كان السِّياق الحكائيُّ رمزيًّا أم كان تخييليًّا حرًّا .
وفي خطاب “حيوات مفقودة” تقوم بلاغة الموقف والصّورة الكلِّيَّة والسِّياق المُؤسّس لهما مقام الصُّورة الشِّعريَّة في النُّصوص التَّقليديَّة؛ التي تتناثر هيَ الأخرى بشكلٍ أو بآخر، مكوِّنة صورًا سرديَّة تتوازى مع الصِّور الكُليَّة؛ فالشَّاعر على وعي واضحٍ بالمفاهيم البلاغيَّة في ذاكرة الشَّاعر العربيِّ، وقد استفاد منها استفادةً توحي بعمليَّة التَّجاوز التي نطرحها في البحث، يقول الشَّاعر:
” وَمِنْ عَادتِي، أنْ أتطلَّعَ إلى تقاطيعِ وَجْهِي، في كُلِّ صَبَاحٍ ، وَأنْ أتخلَّلَ، بأصَابعِي، شَعْري الطَّويْلَ، وَأنْ أتهيَّأَ لِحِلاقَةِ ذقنِي، هَكَذَا، دَائمًا، في كلِّ صباحٍ، غيرَ أنَّني، في هَذا الصَّبَاحِ، تنبّهتُ إلى أنَّني لسْتُ في الَّذي في المِرْآةِ، وَمِنْ ذهولي، إلى أمِّي خَرَجْتُ، بلا غايَةٍ، مُتمَاسِكًا، وَمَشْطُورًا، مَعًا، مَعًا، غيرَ أنَّها وَاصَلَتْ انْهِمَامَهَا بشَاي الصَّبَاحِ، وَوَاصَلْتُ، في مَيَادينِ الجَسَدِ الغَريْبِ، الصُّرَاخَ، وَلمْ أزَلْ، فيْمَا أواصِلُ أدَاءَ الدَّورِ المُحَتَّمَ، هَادِئًا، في كلِّ مَكَانٍ، وَالحَقيقَةُ الَّتي لا لَبْسَ فيْهَا هِيَ أنَّني الآنَ لا أحَدَ، الـ لا أحَدُ الأكيدُ، وَأنَّني أتقبَّلُ، بمُنْتَهَى الآليَّةِ وَالاسْتسَلامِ، هَذَا الوَضْعَ الألِيْمَ، وَعليَّ، إلى النِّهَايَةِ، مُوَاصَلةَ أدَاءِ الدَّورِ باقتدَارْ.”
ويقول:
“على حينِ بغتَةٍ رأيتُهُ، بينَ أسْرَتِي؛ بشرودِهِ المُسْتديمِ وَأوْرَاقِهِ، بعينيْهِ المُتَحيِّرتينِ خَلْفَ نظارتِهِ وَإرْهَاقِهِ، بملابسِهِ المنزليَّةِ الرَّثَّةِ، وَخُطواتِهِ المُتكرِّرَةِ بينَ المَكتبَةِ وَالأريكَةِ ، شَايهِ وتوتُّرِهِ، كَانَ طيفُهُ على الأرْجَحِ، في جَسَدٍ مُطابقٍ، زَلْزَلَنِي، لِلَحْظَةٍ، وَتوَلَّى، هُوَ الَّذي لمْ أعُدْ واثقًا بوجودِهِ تمامًا أوْ غيابِهِ.
بوجودِي بينَهُمْ أوْ غيابِي
لمْ أعُدْ أرَاهُ بينَهُمْ
وَلمْ أعُدْ بينَهُمْ على الأرْجَحِ.”
السَّرد يأخذ عند الشَّاعر شكل الدَّائرة من النَّاحية الخطِّيَّة؛ فليس هناك حدٌّ للأفعال التي تمارسُها الذَّات، وليس هناك حدثٌ يجمع الواحدات السَّرديَّة المُختلفة؛ فالأفعال كلّها سرديَّة؛ أيّ أنّ الذَّات (الكائنة في زمانٍ ومكانٍ محدَّدين) هيَ التي تقوم بأداء الدَّور؛ ولذلك يتشكَّل السَّرد بالحالة التي تتّحد الذَّات بها، والذي يُميِّز الحكاية (وهيَ تمزج الرَّمز بالواقع بالفعل) أنَّها تُقدِّم فضاءً نصِّيًا واضحًا؛ وبالأخصِّ عندما يتحدَّث عن العلاقات التي تحكم وجودَه، ويمكن أن نلتمسَ فيها عددًا من الأبعاد السَّرديَّة التي تتَّصل بتشغيل الدَّلالة والحكاية:
– وجود الذَّات والحركة النَّاتجة عن هذا الوجود في حالة السّكون.
– وجود الذَّات والحركة النَّاتجة عن هذا الوجود في حالة الحركة.
– الإحالات المصاحبة لحركة الذَّات (مثل حركة الأم .(
– حركة الآخر والمفارقة النَّاتجة عنها .
فالسَّرد ينساب مع حركة الذَّات بشكل يمنح معاني التَّوتر والقلق الإنسانيّ، ومحاولة التَّشبُّث بالوجود، في هذا الزَّمن الذي تتماهى فيه الحقائق، وتتلاشى ومحاولة التَّشبُّث بالوجود، في هذا الزَّمن الذي تتماهى فيه الحقائق، وتتلاشى الذَّوات بحيويَّةٍ فائقه، ولا يمكن هنا أن نحفل بالوحدة السَّردية الصَّغيرة (الإحالة / الكلمة) ولا بالتَّركيب السَّرديِّ؛ لأنَّه لا يعني في سياق النَّصِّ إلاَّ حركة واحدة ، وإنَّما على المُتلقِّي أن يحتفيَ بالنَّصِّ كلِّه، على الأقلِّ بالحركات الكُليَّة المُمتدة التي تُشكِّل الدَّلالة منه لتنجليَ أبعاد الموقف، بمعناه الصَّادر من ذاتٍ في زمانٍ ومكانٍ، وتنجلي في الوقت نفسِه أبعاد الرُّؤية المُشكِّلة للموقف المُصاحب لهذا الموقفِ، وهو سياقٌ حكائيٌّ ذاتيٌّ تتغلَّبُ فيه ذاكرةُ الأفعال البدنيَّة على ذاكرة الأفعال الحَدَثيَّة؛ لأنَّه هو الفعل الوحيد في السِّياق .
الَّنصُّ يحفل أيضًا بالأدوات التي تُشكِّل هذا السِّياق؛ إذ تتخلَّق بلاغة الخطاب من أدوات سياقيَّة في المقام الأوَّل، ترتبط بمكونات الدّلالة أكثر ممَّا ترتبط بمكوِّنات الصِّياغة المُصاحبة للدَّلالة، أو لنقل التَّبادل بين الصِّياغة والدّلالة؛ فالسَّرد عند شريف رزق ينتج عن سياق حكائيٍّ موحَّد يخرج من الذَّات وفي أحايين كثيرة، يخرج عنها ليصنعَ سياقًا نصيًّا داخليًّا؛ عبارة عن مركز دلاليِّ، واحد وأنماط تركيبيَّة متعدِّدة، بالإضافة إلي مركز دلاليٍّ يتَّصل بالصِّور المجازيَّة داخل التَّركيب السَّرديّ العامّ، التي تمنح الخطاب قدرته على التَّواصُل مع أجزائه المكوِّنة له، والتي تخلو من المجاز البلاغيِّ أو الرَّمز أو التَّخييل، وفي الوقت نفسه تقدّم هذه الصِّور المفردة / وهيَ في سياقها مايشبه مفاتيح الرَّبط بين أجزاء الصُّورة المادية للخطاب، التي تتشكَّل من مفردات مركّبة المعنى.
الدّلالات في السَّرد مناطقُ جذب تعمل في النَّصِّ بشكل مُكثَّفٍ، وتقدّم فاعليَّة التَّراكيب المصاحبة لها، ومن هنا يمكن أن نتساءل: أين تكمن بلاغة الخطاب السَّرديّ في هذه الكتابة ؟
وأين يمكن أن نبحث عن الصُّورة الشِّعريَّة في النَّصِّ؟
ولأنَّ الصُّورة الشِّعريَّة هيَ المُكوِّن المُهيمن على النَّصِّ، وهيَ التي تعطي له أداة بقائه وتقوم بتحويله من داخل سياق الجمل النَّثريَّة المُتشابهة الإيقاع في الكثير منها، والتي تعتمد علي قوانين داخليَّة غير منتظمة حتَّى الآن، فإنَّ البحث عنها (الصورة) في سياقها الجزئيِّ لن يصل بنا إلي إطارٍ غير قاعديٍّ لبناء نصٍّ شعريٍّ يكون السَّرد فيه هو المُوجِّه الأساسيُّ لعمليَّة التَّركيب إنَّ السِّياق الشِّعريَّ لدى العديد من الشُّعراء، رغم اعتماده على المزْج بين السَّرد الذَّاتيِّ والتَّرميز السَّرديّ، فإنَّه مازال يحتفظ بمكوِّنات البلاغة الجزئيَّة؛ لأنَّ الموجّه للتَّراكيب سياق حكائيٌّ يحتفظ بمركز دلاليٍّ، يرتبط بالذَّات؛ ولكنَّه ، في الوقت نفسه، يتحوَّل إلى سياقات حكائيَّة جزئيَّة، ذات دلالات مفتوحة، أمَّا عند الشَّاعر شريف رزق- وهو أحد الذين يؤسِّسون لهذا النَّوع من السِّياقات الحكائيَّة المنصهرة بالذَّات، حتَّى أصبحت لديه يقينًا راسخًا لا يتحوَّل عنه إلاَّ في القليل- فقد تخطَّى الانهمام بالمجاز الجزئيّ، في أعماله الشعرية التي تسهم في صياغة بلاغة سرديَّة خاصَّة، لا تعتمد على المفردة الحكائيَّة، بقدر ما تعتمد على التَّركيب السَّرديِّ المتدفِّق، النَّابع من سياق الذَّات؛ فهو يحكي عن ذاته، من خلال تحوُّلات هذه الذَّات وعلاقاتها المجازيَّة بالأشياء داخل دوائر سرديَّة ثلاث:
الدَّائرة الأولى:
يُحوِّل الموضوع المسرود عنه إلى إطار الذَّات، سواء كان هذا الموضوع ذات حالة أو ذات فعل، من خلال الإحالات التي يقدِّمها؛ أي بين القيمة المطلقة والقيمة الذَّاتية.
الدَّائرة الثَّانية:
تحويل الذَّات إلى موضوع قيمة داخل المفردات التي ترتبط بالخطاب الذَّاتيِّ، وكأنَّ الإحالة إلى الذَّات هيَ محاولةٌ للخروج منها إلى عالمٍ آخر.
الدَّائرة الثَّالثة :
اللغة عبارة عن صيغ لذات الفاعل في النَّصِّ، وإذا وردت إشاراتٌ إلي ذات المفعول فإنَّها صورة أخرى من الصِّور التي عليها ذات الفاعل.
من هذه المُعادلات في بناء السَّرد في القصيدة يُمكن البحث عن الأسس البلاغيَّة التي ترفع الخطاب من تشابه النَّثر إلى صياغة الشِّعر، وفي هذا الإطار لن نبحث عن صور المجاز والاستعارات، وإنَّما سنبحث عن مفردات السِّياق والمواقف والتَّأويلات؛ التي تُردُّ إلى ما يُحرِّر الخطاب، ويُسلمه إلي سياق بلاغيٍّ، يقول الشَّاعر في يوميَّة: (20 يونيه2001):
“الليْلَةَ، فَجْأةً، صَحَوتُ، على ظَمَأٍ وَسُعَالٍ،
وَخَطَوْتُ
– مُتَعَثِّرًا – إلى زُجَاجَةِ المِيَاهِ
غَيْرَ أنَّهَا بَاغَتتْنِي
قادِمَةً في الهَوَاءِ
كَأنَّ يدًا، في الخَفَاءِ، تَحْمِلُهَا
حَتَّى استقرَّتْ على فَمِي
في هدوءٍ شَربْتُ
دُونَمَا ارْتِجَافَةٍ وَاحِدَةٍ
كُنْتُ أعْلَمُ أنَّهُ بلا شَكَّ هُنَا
وَلكنَّنِي وَاصَلْتُ نَوْمِي العَمِيْق..”
وفي يوميَّة ( 21 يونيه 2001 ) يقول:
“الليْلةَ، أيْضًا صَحَوتُ، على ظَمَأٍ وَسُعَالٍ، وَتوجَّهتُ إلى الزُّجَاجَةِ، كَمَا في كلِّ مَرَّةٍ، على يقيْنٍ بأنَّهَا سَترتَفِعُ، وَحْدَهَا، كَمَا منْ قبْلُ، وَأنَّنِي لنْ أرتجِفَ أيْضًا، وَرَفَعْتُ يدِي ، كإشَارَةٍ سَيَعْقُبُهَا ارْتفَاعُ الزُّجَاجَةِ، وَحْدَهَا، غَيْرَ أنَّ يدِي لمْ تَرْتَفِعْ، وَحَاولْتُ مُسْرِعًا، مَرَّةً أخْرَى، فلمْ أجِدْهَا ..
وبشكلٍ عرْضيٍّ تأتي يوميَّة (أربعاء) على هذا النَّحو:
” لاشَكَّ أنَّ كثيرينَ، منْ قبلي، عَاشُوا في هَذا الجَسَدِ، وَأنَّني، بالتَّأكيدِ، عِشْتُ قبْلَ هَذا الجَسَدِ في كائناتٍ أخْرَى، مِنْ قبْلُ، صَحِيْحٌ أنَّني لا أسْتَطيعُ أنْ أتذكَّرَ مِنْ حَيَواتي المَفقودَةِ ، على وَجْهِ الدِّقةِ، أشْيَاءَ، وَلكنَّني على يقيْنٍ بأنَّ عديديْنَ مِنِّي ذَهَبُوا، على التَّوالِي، وَبقيْتُ وَحْدِي، وَأنَّهُمْ يتوافدونَ عَليَّ وَلا أرَاهُمْ، وَمَعَ هَذا فلَمْ أزَلْ قادرًا على الحَيَاةِ، وَأحْيَانًا أتطلَّعُ إلى صورٍ قديمَةٍ لي، في مُناسَبَاتٍ مُختلفَةٍ ، وَأسْتغرِبُهَا، مُتأكِّدًا منْ أنَّهَا لأشْخَاصٍ وَهْميِّينَ، وَيُخيَّلُ إليَّ في كثيْرٍ أنَّني لمْ أظْهَرْ في أيِّ صورَةٍ لي، وَالغَريْبُ أنَّني كُلَّمَا عَثرْتُ على كتابَةٍ لشَريْفٍ منِّي، تأكَّدتُ أكثرَ أنَّ حَرَائقِي لمْ تزَلْ هيَ هيَ، وَأنَّ حَرَائقِي الحَاليَّةَ تتطوَّرُ، تدريجيًّا، صُعودًا إلى مَا بَدَّدَنِي، مِرَارًا، منْ عهودٍ، بائدَةٍ، شَريفًا، بَعْدَ شَرَيْف.”
وهناك أيضا مسافات بيضاء بين المقطع الأول ص:30، والمقطع الثاني ص:31.
الدّلالة في خطاب “حيوات مفقودة” تُوزَّع على عدد من المحاور:
الأوَّل:
محور السَّرد الخالي من الأفعال الكبرى التي تُشكِّل سياقًا مُوحَّدًا .
الثَّاني:
محورالسَّرد الذي ينمِّي حركة السياق، في إطار فعل حَدَثيٍّ عام، يقود من موقف حكائيٍّ إلي موقف أخر، وينتميان إلى السِّياق السَّرديِّ العام .
الثَّالث:
محور السَّرد عن الآخر، القيمة، ويُمثِّل سرودًا متناثرة بين المحورينِ الأوَّل والثَّاني .
ففي السِّياق الأوَّل تتمحور الدّلالة حوْل الذَّات في سياق حكائيٍّ واحدٍ، يُعطي صورةً عن موقفٍ بين الواقعيَّة والمجازيَّة، تحتل فيه المفردات البلاغيَّة جزءًا يسيرًا من مساحة النَّصِّ ( ثماني مفردات بين إحدي وأربعين مفردة، تُمثِّل الدّلالة العامّة)، كلّ المفردات الأخرى مفردات ذات مدلولٍ حكائيٍّ تتَّصل بالذَّات وبحركة الذَّات:
“باغتتني قادمة في الهواء” (إشارة إلي الزجاجة).
“كأنَّ يدًا في الخفاء تحملها” (إشارة إلي الزجاجة) .
النَّصُّ في الظَّاهر لا يحمل دلالة تُشكِّل موضوعًا شعريًّا، ولكنَّ ما وراء السِّياق الحكائيّ ينقل صورة الشِّعر النَّمطيَّة القارة في ذاكرة المُتلقِّي، والتي تتأثَّر بها الموضوعات ذات التَّوجُّه الخطابي، الذي يقدِّم صورة عن الواقع أو القيمة أو ما يتَّصل بهما، أو حتَّى عن الذَّات بمفهوم الرُّومانسيَّة، إلى صورة ماديَّة عن هذه الذَّات، تقدِّم نفسها على أنَّها هيَ الواقع – وهيَ كذلك – وتطرح، من خلال هذه الصُّورة التي تبدو بسيطةً، مجموعةً من التَّساؤلات حول الإنسان والوطن والقهر وغيرها ممَّا يمكن أن يُؤوَّل في سياق مسكوتٍ عنه، إنَّنا أمام ذات لا تُعبِّر إلاَّ عن ظاهرها، أو حتَّى باطنها بقدر ما تبتعد عمَّا يربطها بالآخر بصورة مباشرةٍ، نوع من محاولة البحث عن اليقين من خلال الذَّات فقط .
وفي المقطع الثَّالث الشَّاعر يسرد عمَّا وراء الصُّورة المادية للذَّات منفصلاً عن ذاته ومتَّحدًا بها في آن، وفي الانفصال يتعلَّق بهذه الذَّات أكثر من صورة الاتِّحاد بها، مشيرًا إلى أنَّ السِّياق الحكائيَّ الذَّاتيَّ يُشكِّل الدّلالة الأولى والأخيرة، ولا يُمكن أن نعثرَ على بلاغة الخطابِ إلاَّ من خلال التَّضام الكامل لمعطياته، سواء في جانب التَّشكيل أم في جانب الدَّلالة، بعيدًا عن السِّياق الجزئيّ للصّور البلاغيَّة؛ إذْ يتكوَّن المقطع من مائة واثنتي عشرة مفردة، تخلو كلُّها من صورةٍ بلاغيَّة جزئيَّة، ممَّا يجعلنا أمام بداية طريق للبحث عن بلاغة الخطاب الشِّعري المعاصر، في جزءٍ مهمٍّ يفرضُ واقعًا لغويًّا وسرديًّا وتصويريًّا غيرَ نمطيٍّ، ويُعطينا ذلك فرصةً للتَّأمُّل في المفردات البلاغيَّة الجديدة، التي يُمكن أن يُعبِّر عنها هذا النَّوع من السِّياقات السَّرديَّة المفتوحة .
ففي إشارةٍ إلي الاعتماد علي لغة الاستعارةِ في تركيب سرديٍّ واحدٍ، لا يُمثِّل إلا إشارة في سياق نصيٍّ موسَّعٍ، يمكن القولُ إنَّ هذا التَّركيب الاستعاريَّ البسيط يدعمُ قوَّة الرَّبط والارتباط داخل السِّياق ، ويجعل الانسجام في النَّصِّ شيئًا متحقّقًا؛ لأنَّ الاستعارة تُمثِّل لبَّ الموقف، وهو يتمحور حولها، ولأنَّها جاءت جزءًا مؤسّسًا من أجزائه التي تُمثّل دائرة معنويَّة واحدةً، وهذا يعني أنَّ الخطاب البلاغيَّ الجديد الذي نبحث عنه في الشِّعر يمكن أن يطرح نفسَه من داخل البلاغة المؤسّسة للغة العربية، ومن جانب آخر يمكن أن نبحثَ عن مُعطيات جديدة للصِّور البلاغيَّة القديمة من خلال السِّياقات التي تقدم فيها، ولنأخذ السِّياق السِّرديَّ بما فيه من فيه من إمكاناتٍ فنيَّة صورة لهذا التَّحوُّل والبحث.
هذه المُعطياتُ يُمكنُ أن تتحدَّد وِفْق السِّياقينِ الخارجيِّ والدَّاخليِّ للنَّصِّ على النَّحو التَّالي:
– الملامح العامَّة لذات الشَّاعر، وتقدُّم الباعث على مواصلة السَّرد.
– الصُّورة التَّمثيليَّة التي تعامل معها.
– المسكوت عنه فيما يتَّصل بإدراك هذه الذَّات .
– اعتماد الرَّمز على صورة واقعيَّة / مُحتمَلة / غير مُحتمَلة.