هاني القط
رواية “السمندل” للكاتب فوزي صالح، هي نص أدبي متعدد الأبعاد، يأخذ القارئ في رحلة استكشافية داخل الذات. يتميز هذا النص بتداخل مستوياته بين الحكي والتأمل، بين الواقع والرمز، وبين الذات الفردية والهم الجمعي. لعل الكاتب هنا أراد أن يجعل من “السمندل” ليس فقط كائنًا روائيًا، بل بوابة إلى فهم أعمق لحالة الإنسان في هذا العالم.
الرواية تفتتح بمشهدية نفسية مكثفة، حيث يتقاطع السرد مع حالة تأملية عميقة. الشخصيات لا تقدم نفسها ببساطة، بل تتكشف تدريجيًا عبر طبقات متعددة من الصراعات والتفاعلات. الشخصية الرئيسة هي أكثر من مجرد بطل؛ إنها تمثل الإنسان في مواجهته لمآزقه الكبرى. فالشخصية هنا ليست اسمًا أو مهنة، بل مرآة تعكس صراعات الهوية والانتماء، تلك الأسئلة الأبدية التي تلاحق الإنسان، أينما كان وأيًا كان.
تشابك مستويات الحكي. يجعل الرواية لا تسير في خط مستقيم، بل تتقاطع أزمنتها وأماكنها، في سرد أشبه بما يعيشه الإنسان في أحلامه أو ذكرياته. الماضي والحاضر هنا ليسا مجرد زمنين متعاقبين، بل هما عنصران متشابكان في نسيج معقد، حيث يصبح الحاضر امتدادًا طبيعيًا للماضي، والماضي يتداخل مع اللحظة الآنية، ليخلق النص حالة من التوتر السردي المستمر. هذا البناء يثير القارئ ويدفعه لإعادة قراءة النص مرة بعد مرة، محاولاً الإمساك بخيوط الحكاية المتناثرة.
الأماكن في الرواية ليست مجرد مواقع جغرافية أو فضاءات محايدة؛ إنها شخصيات بحد ذاتها. الأزقة الضيقة تنقل شعور الاختناق، بينما النوافذ المفتوحة تفتح أبوابًا للحرية أو الخلاص. كل مشهد مكاني يحمل دلالاته الخاصة، ليصبح المكان جزءًا لا يتجزأ من القصة، بل أحيانًا بطلها المستتر. الكاتب لا يكتفي بوصف المكان، بل يمنحه صوتًا خاصًا به، وكأن الأماكن تشارك في الحوار السردي بطريقتها.
السمندل، هذا الكائن الأسطوري، هو رمز الرواية المحوري. السمندل الذي يعبر النار دون أن يحترق هو استعارة واضحة عن الإنسان وقدرته على تجاوز الصعاب. لكنه أيضًا رمز للتجدد والاستمرارية، حيث يعبر عن تلك الفكرة العميقة بأن الإنسان، رغم ما يمر به من ألم أو دمار، يمكنه أن ينهض من جديد. هذا الرمز ليس فقط جزءًا من العنوان، بل هو فكرة تسري في كل زوايا النص، من الشخصيات التي تواجه مصاعبها إلى اللغة التي تتجدد مع كل مشهد.
اللغة في “السمندل” تتجاوز كونها أداة نقل أو وسيلة للتعبير، لتصبح في حد ذاتها فنًا. الكاتب يتعامل مع اللغة كما يتعامل الفنان مع ألوانه، حيث الكلمات ليست مجرد وسيلة للإخبار، بل هي مادة خام لبناء عوالم فنية نابضة بالحياة. الصور المجازية والاستعارات تخلق طبقة إضافية من الجمال، تجعل النص يتجاوز مستوى الحكي إلى مستوى التأمل الشعري. هذه اللغة المكثفة، التي تبدو أحيانًا وكأنها قصيدة طويلة، تضيف للنص بُعدًا فلسفيًا، حيث تصبح كل جملة فرصة للقارئ للتأمل وإعادة التفكير.
الشخصيات الثانوية في الرواية لا تقل أهمية عن الشخصية الرئيسة. إنها ليست مجرد أدوات لخدمة الحبكة، بل هي عناصر قائمة بذاتها، تحمل دلالاتها الخاصة. كل شخصية تمثل جانبًا من المجتمع أو النفس البشرية، مما يضفي على النص تعددية في الرؤى والتأويلات. الشخصيات الثانوية ليست شخصيات بسيطة أو مسطحة؛ بل هي شخصيات مليئة بالتفاصيل والعمق، تجعل القارئ يتوقف عندها كما يتوقف عند الشخصية الرئيسة.
الرواية تتناول موضوعات تتجاوز الزمان والمكان، لتصبح صالحة للتأمل في أي سياق إنساني. الهوية والانتماء هما المحوران الأساسيان للنص، لكنهما يفتحان أبوابًا لموضوعات أخرى مثل الحب، والموت، والتحول. الموت هنا ليس نهاية، بل هو نقطة تحول، والهوية ليست ثابتة، بل هي رحلة مستمرة من البحث والتشكل. النص لا يقدم إجابات جاهزة لهذه الأسئلة، بل يدعو القارئ للتفكير والتأمل.
التوتر السردي هو أحد أعظم إنجازات هذه الرواية. القارئ يشعر دائمًا بشيء قادم، بشيء غير متوقع. الكاتب يحافظ على هذا الإحساس بالتوتر حتى في أكثر اللحظات هدوءًا، مما يجعل النص مشحونًا بطاقة خاصة، تجذب القارئ إلى النهاية. لكن حتى عند النهاية، النص لا يتركك مرتاحًا؛ بل يثير المزيد من الأسئلة، وكأن النهاية هي بداية جديدة.
“السمندل” ليست رواية عادية؛ إنها نص يعيش معك حتى بعد أن تغلق الكتاب. إنها تجربة شعورية وفكرية عميقة، تجعل القارئ يعيد التفكير في ذاته وفي العالم. الرواية تحمل في طياتها تأملات في الإنسانية، في الألم، في الفقد، وفي القدرة العجيبة على التجدد. إنها عمل أدبي يستحق أن يُقرأ، وأن يُعاد قراءته، وأن يبقى في ذاكرة الأدب طويلاً.