أقدّر جيّدًا شعوري العارم بالاشمئزاز من ثقل ضغط الجمهور الجاهل، ورغبتي المُلحّة في مضايقتهم و الفرجة بسخرية مغموسة في الشماتة العنيفة و الاشمئزاز؛ على مستوى استجاباتهم لأطروحاتي المدفوع بضغط البلاسيبو ، برغبة خفيّة؛ لكنها طاغية لا تُقاوَم؛ في إذلالهم بشكل خفيّ، ضجرًا من فكرة الاستمتاع الذاتي “الخالص” بما يكتبه المرء، وتوقًا إلي قانون المُتعة الأساسي الذي يحتّم أن يكون مصدرها واقعًا خارج تخوم الذات، المتعة بحكم تعريفها هي عمليّة خروج من نطاق الذات و انتهاك لحدودها و لقوانينها أيضًا، يحركها ضجرٌ مقيم من المثاليّة المُتعالية، توقًا إلى مثاليّة متباسطة، تخترق الفرد إلى أعمق أعماقه بنظرة نافذة مُتفهّمة تراهُ على ما هو عليه، عبر فعل غرائبي مُستعار مغرق في السخرية من خطاب سائد شديد الرّواج؛ على تفاهة و ابتذال و تفكك منطقه، والغوص في هذا الخطاب حتى آخر مداه مما يسهل عمليّة فهمه و من ثمّ اختراق قشرته الجادّة؛ بالغة الهشاشة حقيقةً؛ إلى ما تحتها. أنا محبطةٌ من ردود أفعال الجماهير، لكن عليّ أن أعترف أن هذا الإحباط يستبطن شيئًا من الغبطة الشيطانيّة ربما، وشماتة في غباء الآخرين واستغراقهم شبه الكامل في أوهامهم و كليشيهاتهم رغم عنف وقسوة الضربات التي يتلقونها على أمّ رؤوسهم على مدار السّاعة. مصدر المُتعة الجديد كما خبرتهُ لن يتأتى عبر التعالي القديم، و إنّما عبر السُّقوط، نعم السقوط، ذلك السقوط الواعي المُتعمَّد بأعين متسعة على آخرها، يحركه شبقٌ وجداني لا معرفي، في الاستمتاع بتجربة الدنوّ المقصود، الذوبان المحسوب في العقل الجمعي الجاهل الذاهل الغائب المُغيّب؛ حتى تسهل عليّ قراءته ومن ثمّ توجيهه و قيادته، ثم سحقه و تدميره بخبث مَرَضي مشبِع لذاتي الخلاقة ومُرضٍ بشكلٍ كافٍ لنزعاتي التعبيرية القائمة بالأساس على الهدم، عبر فعل ثوريّ مكتمل الأركان تقريبًا موجع في استهزائه الرهيب بكليشيهات الإدراك الجمعي، و قبح و توحّد طريقة التلقي لدى قطاع ضخم من الدهماء.
ليس في الأمر من استراتيجية مدروسة ومحددة المراحل، و ليس هناك من عمليّة قصديّة أو مسار غائي، ولكنه استمتاع ذاتي خالص بتجربة السقوط انتقامًا من وعي مثالي سابق، إلى وعي جماهيري معاصر؛ تافه ومُتدنّ حدّ الوحل؛ لإذلاله و تعريه سوءاته أمام الذات. لا جدية كذلك في الأمر، المسألة أقرب إلى اللعب والمناوشات السّريعة الخاطفة، والمتعة المُتحصّلة من كل ذلك هي متعة المُفاجأة من نتيجة غير مُتوقّعة، هناك متعة ما في اكتشاف جوهر الأشياء التي تبدو من الخارج عظيمة ومصقولة وفاتنة حتى نجدها وقد هبطت على لاشيء، الوهم الذي يغرق فيه الجميع حدّ الجنون المودي إلى الانتحار، التلاعب بالوعي المبتسر للدهماء بفعل البلاسيبو، التلذذ بتأمل حقيقة الإنسان ككائن تافه دوديّ عفِن، حينما ترى مؤخرة جميلة رشيقة من الصعب أن تتصوّر كيف يخرج منها الخراء، أو حين ترى ابتسامة ناصعة لامعة لا تستطيع أن تتخيل كيف يستيقظ صاحبها من نومه صباحًا ورائحة فمه لا تُطاق، أو الصعود للجبل لتكتشف أن نقص الأوكسجين بالأعلى يسبب الهلاوس، أو كما تتكشف قدسيّة الحب عن نتانة السوائل، عبثٌ يُتوّجُهُ التهوين من فظاعة الموت تلبية لنداء الحريّة
وهل هناك ميتة مشرفة حقًا؟ أليس الموت “النبيل” أو الموت “الجميل” كما أسمته حنا أرندت، هو أفدح الأوهام و أشدها خطرًا بالمناسبة، التى اخترعها الإنسان لكى يضفى معنى وجلالا على ما هو فى جوهره عبث محض: الموت؟ لا أريد أن أكون من القسوة أو أبخس من دافع حب الحياة عند من خرجوا فى تلك الحشود؛ الغالبية العظمى منهم خرجوا مدفوعين برغبة ليس فى حياة أجمل أو أنظف؛ كثيرون منهم كانوا يتمتعون بحياة كريمة؛ لكنهم خرجوا تلبية لنداء غامض؛ نداء هذا الوهم العتيد والخبيث؛ نداء المعنى المطلق والموت الجميل، الإنسان هو ذلك الكائن الأعمى العنيد، الذي يصرّ على التماس اكتمال المعنى في الحياة، بالضبط في موطن غيابه المُطلق؛ لحظة الموت!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة ومترجمة وفنانة تشكيلية مصرية