حسن هند
تجلس كاترين بفستانها الأبيض بدون اكمام مثل فساتين الأطفال علي كرسي علي سطح السفينة التي تمخر عباب البحر.
كم من الروايات ستتحدث عن السفينة، إنها سفينة نوح التي تنقلك من عالم الموت والنوم الي عالم الأحياء، إنها الإبحار في الذات، في القلب، في الشرايين، في الكبد كما يقول الصوفية.
نعم إنه البحر، نون والقلم ومايسطرون. هل يعتبر البحر بعوالمه الخفية مدادا للقلم الذي يكتب من مستودع الذات. البحر والذات التي لايعلمهما إلا الله. نعم مازلت اعتقد أنه يوجد إله لهذا الكون، إنه فوق السماوات ويرانا، الله ناظر إلي، الله مطلع علي، الله معي. يقول الشيخ محمد الذي خصصه ابي لقراءة الورد اليومي من القرآن وتعليمي القراءة والكتابة وتحفيظي القرآن. كان يردد هذه العبارة.
تجلس جدتي في ركن الحجرة الواسعة علي كرسي كبير تسمع وتردد عبارتها الأثيرة ” ياستر الله”
كنت انام في حجرتها فتسألني ” هل صليت العشاء قبل النوم ؟”
فلا ارد، فتدق علي خشب السرير وتقول ” أجب ياستر الله”
فأجري سريعا قبل أن يكشفني ستر الله لأتوضأ وأصلي.
حفظت القرآن، والتحقت بالأزهر الشريف، وعشقت أبا حنيفة لأنه يعمل العقل ويفترض فروضا ويراعي زمان ومكان الأحداث فإذا اختلف الزمان والمكان من العراق الي مصر يختلف الحكم. قابلته مرة اخري في صورة الفقهاء الألمان. كان كلام ابو حنيفه ضخما وعظيما مثل مباني الألمان الشاهقة العظيمة.
مع الانفجار العظيم الذي أحدثته ثورة 1919، انطلقت قافلة من المثقفين القانونيين تدافع عن قضية استقلال مصر مثل سعد زغلول ومكرم عبيد وغيرهم. منهم من شغل منصب في الحكومة ومنهم من فضل المعارضة حتي تاتيه الفرصة.
حينها قرر أبي أن يلحقني بالمدرسة السعيدية الثانوية بالتعليم العام، وبواسطة صديقه وزير التعليم تم الحاقي بهذه المدرسة وقال لي ابي ” إذا تفوقت في هذه المدرسة ستخرج من باب المدرسة الي باب البحر “
ـ أبي ماباب البحر؟ “قلت متسائلا”
ـ فرنسا يا حلمي، هل انت اقل من مصطفي كامل الذي حصل علي ليسانس الحقوق في سنة واحدة.؟
قلت لنفسي ” ولكني سأحصل علي الليسانس في سنوات، من منا لايغتنم فرصة العيش في باريس ” مدينة النور” إنها عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر. وبعد خروج فرنسا منتصرة في الحرب العالمية الأولي، كانت مدينة النور تعيش ازدهارا، اقارن بين شارع فؤاد وسليمان باشا وشورارع فرنسا كانت قاهرة الخديو اسماعيل التي تمتد من ميدان سليمان باشا حتي شارع فؤاد مدينة بناها الخواجات الذين كانوا يعيشون في مصر، تجد فيها شوارع مرصوفة يتم تنظيفها يوميا بالمياه، مقاهي فاخرة مثل جروبي، مسارح كالأوبرا، نوادي للنخبة مثل نادي الجزيرة ونادي السيارات. ميدان سليمان باشا يشبه الشانزليزيه وقهوة مون مارت تشبه قهوة البورصة وأجراس كنيسة العذراء مريم ومارجرجس مثل اجراس كنيسة نوتردام
كان الانجليز قد تركوا الملك فؤاد علي سدة الحكم، نصف ملك هكذا كان القانون الحاكم يترك الشعب يناضل الملك للحصول علي حقوقه الدستورية حتي يظل الملك نصف ملك، محصورا بالشعب من تحت قدميه ويري من فوقه في تصرفات الإنجليز عبارة ” أنت نصف ملك”، يتعرض طوال الوقت لتآكل هيبته كملك شرقي.
آمنت حينها بمقولة “يحيا سعد ـ فريد” نصف افكار سعد زغلول عن الأستقلال ومحمد فريد عن الدولة المدنية ورفض التبعية للخلافة العثمانية
قالت لي كاترين لن يبقي من الملوك إلا ملكة إنجلترا وملك الشطرنج
كاترين التي قدم جدودها الأوائل من جنوب روسيا ذات الوجه الكبير وافر اللحم والصحة، الأنف المعقوف، والشفاه الدقيقة والذقن المرسومة، والعيون الواسعة والتي لا تحتاج أي كحل لإظهارها، إنها ملامح الجمال الأوروبي التي لاتخطئها العين، وحين كنت أدخل معها فيما بعد اي نادي من نوادي القاهرة كان رجل أمن النادي يناديني ” ياباشا هل المدام مصرية “
ـ مصرية جدا ” ارد ولسان حالي يقول تعالي يا أخي واختلف معها ستسمع مالاأذن سمعت من شتائم النساء الشعبيات في كل المجتمعات، شتائم كوزموبوليتان”
التقيت بكاترين فارتفع صوت ضربات القلب مثل سيمفونية بيتهوفن ” ضربات القدر ت تا تتا ” وضعت يدي علي جبهتي كي امسح عرقي، قطرات من العرق، وبرودة في الجبهة، لابد انها لاحظت. كانت ندوة رائعة عن أنظمة الحكم وكانت لي مداخلة شفوية تكلمت فيها عن ” الخلافة”
كانت تزدان بفستان قصيرالأكمام واسع ذي لون كحلي كأنهاخرجت من جبال النوم والأحلام،كسندريلا تتمخطروتسيرراقصة دون أن تدري كانت علاقتي بالنساء محدودة في أمي وأقاربي اللاتي يتشحن بالسواد واذاارتدت اي منهن ملابس حديثة تلبس فوقهاالبالطو وتجلس منكمشة حتي في حضورالاطفال حتي لايظهرمنها امام المراهقين في العائلة اي شيءوكأن الجسد محرم. نعم لمدة طويلة اعتقدت انه محرم حتي علي قاطنيه،لم اشعرلمرة واحدة أن ايامنهن تلمس جسدهاأوتري تناغما بين الجسد والروح.
رأيت كاترين تتمخطر كراقصة باليه محترفة وعبارات الغزل تنهال عليهاويحاول الطلبة التقرب اليهالأنها منظم الندوة كنت اتأبط كتاب علي عبدالرازق ” الاسلام واصول الحكم” باللغةالفرنسية الذي قال فيه أن الخلافة ليست من اصول الحكم في الإسلام وعاقبه الأزهربفصله من الخدمة. مددت يدي بالكتاب لها فالتقطته وهمهمت بمالم اسمعه ثم ابتسمت وقالت “ستكون لك كلمة في الموضوع “
انتهت كلمة المحاضرالرئيس ولم أركزفيهاكنت مع كاترين اهبط من جبال الموت والنوم من بلدي التي ترزح تحت حكم أجنبي ولم أصادف فيهاروحا تلمسني وتجمع شتاتي.
قلت لهافي حلمي واناأحدق فيهابجوارالمحاضر”اناديك بكل الأسماء واهديك كل الزهور. “
استفقت علي كلمات المحاضر عن العقد الإجتماعي عنوان الندوة سمعته يردد بأنه عقد ثقة بين الحاكم والمحكوم يتنازل بمقتضاه الأخير عن بعض حقوقه للأول ويفقد المواطن حريته الطبيعية في أن يحصل علي مايريد بالقوة والفوضي ويكسب حريته المدنية فيعيش في نظام ويأمن علي نفسه واسرته…… كنت أسمع نهايات الكلمات وأجاهد في تجميع المعني لأن خيالي طار في عالم كاترين قلت لها وانا أراقصها في الخيال “
“أيتُها المضيئةُ كتفاحةٍ… أيتها الجنية لم لاتردي ” أغمض عيناي ولم أر سواها ” استفقت علي صوتها يناديني وتلكزني لأصحو واتكلم فهذه مداخلتي تلعثمت وقلت للمحاضر ” انت تدافع عن الملك أم الطبقة الناشئة Middle Class “لا اعرف كيف فتح الله علي بهذه الكلمات ولكنها بركة دعاء الوالدين التي تلاحقني دوما وتنفذني في اللحظات الأخيرة قبل فوات الأوان
انبري الرجل يدافع عن وجهة نظره ويقول ” أدافع عن الشعب سلطة الإرادة العامة، فهى لا تُباع ولا تُشترى، وغير قابلة للتقسيم، كما أنها لا تُخطئ، إذ أنها معصومة من الخطأ……..”
لم اكمل كلامي ولمحت كاترين تداري ضحكتها جلست أستعيد بهجة العيش في الخيال مع كاترين قلت لها في سري ” شكرًا لضحكتِكِ التي تجلبُ السعادة “
لكزتني لأجد البروفيسور الفرنسي يمد يده ليصافحني وكأن المحاضرة انتهت وأنا مازلت في الغيبوبة ويقول لي ” ادعوك الي المسرح “
شرف لي ” قلت بامتنان”
ـ ألأ تريد أن تعرف عنوان المسرحية ؟
أومأت رأسي بالموافقة فقال ” طرطوف لموليير “
صافحته فقال لي ” لاتنسي في الثامنة مساء بالضبط، ولاتنسي أن تقرأ في الحرية الفردية”
أعادت علي كاترين ملخص المحاضرة وكأني كنت في عالم آخر سرت بجوارها فزعا من هذاالشيخ الذي يضربني في عقيدتي الأثيرة مثل شيوخ الأزهرحين اوقفهم نابليون ممسكين بأيدي بعضهم البعض ثم أسري تياركهربائي 12 فولت فقط ” حجر بطارية راديوصغير” لتسري رعشة فيهم جميعا ويرتعدوا صارخين ” جن”
الآن أطلق الشيخ الفرنسي الماردمن القمقم حين قال ” أن الدولةغيرالأمة ولايوجد شكل ثابت للحكم وأن أوروبا ستتقدم بالدولة المدنية.” تذكرت كلام الأستاذالفرنسي المستفيض بعدأن وأد كلمتي وقال ” أن الحريات التي ناضلوامن اجلهاووضعت في دساتيرهم ستنتقل الي مواثيق حقوق الإنسان وستكون إيذانا بميلادالمواطن العالمي.”
ولأن الله لطيف بعباده فقدخرجت من الندوة مهزوما فكريا وبيدي كاترين التي ارادت ان تهون علي فقالت لي ” لماذاتكتئب ياأخي الجنوبي “
ابتسمت مغصوباوقلت لهانعم ” أنا من زنوج الجنوب “
ـ وماصفات الزنجي ” ردت بابتسامة رائعة”
ـ شعور دائم بالإضطهاد، وتلعثم في الكلام والتلميح للحبيبة بالحب
ـياإلاهي ” نطقتهابالفرنسية mon dieu ” في البدءكانت الكلمة، أنت شاعر ” اضافت متسائلة ؟”.
كانت بعد الندوة متوهجة كزهرة تتفتح حين مدت يدها لي بجراة شديدة لتعطيني الأوديسا وتقول لي ” عندنا اساطير مثلكم ”
لم ارد وتلعثمت فعاجلتني بسرعة ” مثل الف ليلة وليلة “
” قالت ذلك بابتسامة مشرقة كالشمس “
ومن يومهابدأ بينناحوارفكري لاينتهي وأظن ان هذاالزاد الذي عشت عليه حياتي وصورتها التي انطبعت في ذهني كانت الشمعةالتي انارت لي كهفا كنت أعيش فيه ولااري إلاذاتي ووطني المحتل.
في المساء لبينا دعوة الأستاذ الفرنسي للمسرح الذي استقبلنا بترحاب وجلسنا بجواره بدأت المسرحية بالخادمة الجميلة والذكية دورين وهي تجرب قبعة جديدة في أوضاع مختلفة أمام المرآة. تضع القبعة وتقول: هكذا؟ لا! هكذا يصبح وجهي طويلا مثل وجه الحصان. هكذا؟ لا! إنه يجعل وجهي مدورا مثل وجه ابن عرس. إن سيدي أورغون عديم الذوق. فرض علي هذا الفستان الذي يجعلني أبدو مثل البرميل والآن يريدني أن ألبس هذه القبعة! تكز على أسنانها وتقول: إنه طرطوف! يالها من مهزلة! تخلصنا من طغيان الملوك ووقعنا في قبضة رجال الدولة والكنيسة. اذا كان رب العائلة سعيدا بهذه المهزلة، لماذا ترهقين نفسك وأنت خادمة!؟ لكن رب العائلة لا يملك نصف عقل الخادمة، وطرطوف يخدعه بأساليب ماكرة! هل أسكت عن هذا؟”
تململت لألمح الاستاذ الفرنسي يشاهد المسرحية باندماج ولم يعقب علي أي مشهد ولم يوجه نظري لأي حوار استمرت المسرحية لتحكي عن طرطوف، رجل الدين الذي يؤثر على اورغون ” رب المنزل ” بأساليب غير قويمة ويهيمن على عقله وقراره، وأورغون المؤمن الساذج الذي يعتقد أنه يتقرب من الله عز وجل، بتقربه من رجال الكنيسة، ” فهمت رسالة المسرحية ولم أعقب حتي اسدلت ستار النهاية ثم ودعنا الرجل كصديق ولم يوجه نظري لشيء ولم يجر أي حوار وكأنه ترك المسرحية تقول مايريد وأخذتني الي منزلها
لن أنسي ابداأول مرةأدخل منزل كاترين الفقيرعلي أطراف باريس،منزل بسيط مكون من طابقين،يتكون الطابق الأرضي من صالة واسعة وحمام ومطبخ وحجرة مكتب،والطابق الثاني ثلاث غرف ونوم.تسائلت كثيرا كيف لعالم فيزياء أن يمتلك كل هذه المكتبة المكدسة بالكتب الأدبية وتزدان جدرانه بكل هذه اللوحات الفنية.
أهداني والدها يوم ان ذهبت لزيارتهم أول مرة كتاب ” العهدالقديم ” وقال لي وابتسامته لاتفارق شفتيه ” لابدان تقرأثلاث كتب ” فأومأت برأسي علامةالموافقة فأضاف ” الكتب المقدسة ورأس المال والالياذة والاوديسا”
وعندماوجدني صامتا لم يتوقف عن الحديث طوال السهرة وكل ماأتذكره من كلامه أنه حين قرأكتاب رأس المال لكارل ماركس خرج الي الشارع يغني ويريد أن يعانق كل من يراه وشعركأنه يطيرفي الهواء،ياسلام لوطبقت المساواة في المأكل والملبس والإقامة إنهاجنة الأرض ” قال هذه الكلمات وسرح بخياله بعيدابعيدا كأنه سافربعيدابعيدا فاحترمناصمته وخياله واخذتني ابنته الي الصاله وخرجت بعدنا زوجته وتركناه لأحلامه.
وخبطتني في كتفي وقالت ” مارايك في المسرحية “
فرددت عليها ممازحا ” أنا أحببت طرطوف “
. كانت بداية النقاش ثم السفر الي ايطاليا لزيارة منتدي المدينة الذي كان الرومان يتنناقشون فيه مع الحاكم.
قالت ” هنا كانت تقام جلسات مجلس الشيوخ لمناقشة الحاكم واتخاذ القرارات
رأيت في عينيها إشارة واضحة إلي مغزي كلامها في روما القديمة اجدادهم الذين كانوا يتكلمون ويتناقشون أما نحن فنتشاجر ولانصل الي نتيجة.
في منتدي المدينة في روما كان يجلس 300 شيخا يرشحون تعيين الملك، ولايتخذ قرار الحرب إلا بعد موافقتهم نعم الفرق شاسع بين السماء والأرض بيننا وبينهم. تعلموا الحق في الكلام والإختلاف، ونحن تربينا علي السمع والطاعة. لابد للمشايخ أن تقبل يد شيخ الأزهر ورئيس الوزراء يقبل يد الملك ويسحب الملك يده وينصرف رئيس الوزراء بظهره مطأطأ الرأس ويقول ” شكرا يامولاي “
انتبهت علي يد رقيقة، كانت كاترين تنظر الي مستفهمة. نظرت اليها وربت علي يدها، وقلت لنفسي ” تعالي ياامي شوفي إبنك”
كانت أمي ترتدي طوال الوقت ملابس واسعة محتشمة، وتضع علي راسها شالا. صحيح انه ليس محبوكا وينزلق علي كتفيها وتتركه غير عابئة وتكمل اعمالها المنزلية.
هذا هنا وذاك هناك. ذات مرة ضحكت معها وقلت لها ” ياأمي العمل مستقر لاتحملي نفسك الهموم “
فنظرت لي نظرة شك، وقطبت جبينها وقالت ” لو تركتهم ستغرق المركب ” ابتسمت لورود الذكري في رأسي والمقارنة المستمرة بين أمي وكاترين التي قالت لي ” مالذي يضحكك ” قلت لها لو لم نذهب الي الغداء ستغرق المركب فضحكت.وقد بدات تتفهم نكاتي التي كانت تطلق عليها ” النكات البغيضة.”
فأرد عليها فقط “الدماغ مختلفة “
فتنظر لي ولاترد. ربت علي يدها وشبكت يدها في ذراعي ونزلنا الي الغداء.
العهد الجديد”2″
صورة من بؤرة الكاميرا لايستطيع القبض عليها او الامساك بها قاض أو محقق أو ضابط مهما أوتي من قوة او حنكة، مزيج من الحزن والإنكسار،دفعات من الألم تتصاعد في اعصاب الوجه كتيار كهربائي، يرتعش الوجه ويتقلص ليطرد الألم، الحيرة، احتقار الذات.. إنه الحلم اليومي الذي يحلم به أحمد عطية يوميا، صور تتسارع في العرض علي شاشة عرض سينمائي.
يصحو من نومه مبكرا في الصباح ليذهب للعمل في حقل السنهوتي باشا، يمر مع ابيه علي بيوت العمال الذين يجمعون القطن في حقل السنهوتي، يوقف العمال أمام الحقل وينزلون بخطوة منتظمة ليتسلم كل منهم خط القطن الذي يجمع القطن منه ويضعه في جلبابه الواسع الذي يربطه من وسطه بحبل يتسع من اعلي مثل الممثل عزت العلايلي في فيلم الأرض لكنه يتميز بالسرعة الشديدة في الإنتهاء من خط القطن الذي يجمعه ثم يكبس كل القطن الذي يتم تجميعه في أجوله ويحملها إلي مخزن القطن
إنه النائب الفعلي لأبيه الذي يعمل كمقاول انفار في شهور إجازة المدارس الصيفية.لايجيد احمد التعامل مع العمال مثل أبيه الذي تتراوح تصرفاته بين الشدة المفرطة مع العامل الذي يتباطيء في العمل ثم اللين والحنو علي العامل كبير السن فيثوب المتباطيء من رشده ويردد الجميع ” إنه مع الغلبان”.
نوبات من العصبية يواجهها العمال بالصمت ومن يجرؤ علي الوقوف امام مقاول الأنفار يتم طرده فورا حتي يصير عبرة لغيره ويردد العمال في أذن احمد ” أبوك مدرسة ” وفي المنزل لايفعل شيئا سوي أنه يحرك الجميع مثل عرائس المارونيت.
ـ لماذا يصحو فزعا علي هذا الحلم علي صورة وجهه متقلصا من الألم منذ قابل مها حفيدة السنهوتي باشا في ميدان التحرير، عرفها للوهلة الأولي انها صورة طبق الأصل من جدها الباشا الذي كانت صورته تتصدر جدار منزل السنهوتي باشا بالقرية.
هذه البراءة كطفلة مرسومة في لوحات القرن التاسع عشر، بياض الوجه مشرب بالحمرة، عيون خضراء وشعر أصفر واستدارة الوجه وجمال مثل بنات القوقاز الذي يستغرب المرء في تصنيفهن هل هن اسيويات ام اوروبيات.لمحها من بعيد واقترب، اخذ يقترب رويدا كمن يسير في حلم وكأنه لايصدق إنها كالقمر المنير الذي يضيء الكون، نورها انعكاس الشمس والقمر، التقطها من الزحام والتحرش، اصطحبها لتجلس علي مقعد حجري وأعطاها زجاجة الماء. تحمل غطرستها والتعالي في تصرفاتها. كل ذلك ذكره بتعالي الشيخ الذي كان يعمل لديه بالخليج
طريقة تقول بها انها السيد فلاتقترب كأميرة وضعت صورتها خلف كرسي العرش مكتوب عليها ” رفعنا بعضكم فوق بعض درجات “
جلس أمامها يستمع لكلامها عن الحريات وتمر في ذهنه صورته وهو يعمل تحت إمرة الشيخ الخليجي الذي قال له ” انا سيد من النسل الشريف”
كان قد سئم العمل في حقول الناس في الإجازة الصيفية واعتاد ان يري في الأعين نظرات التأسي علي حاله وهو الشاب المتعلم فقرر أن يسافر كل صيف للعمل كعامل بناء في بلاد الخليج ويعود قبل إمتحان نهاية العام مباشرة.
كعامل بناء لن يكلفه الأمر سوي خلط الأسمنت بالرمل بالماء، ويحمل الطوب الأسمنتي للطوابق الأعلي حتي هداه الله إلي الشيخ الخليجي الذي أعطاه كتبا صغيرة للأدعية ثم قام بنقله للعمل كمقاول أنفار ” مهنته الأثيرة ” وقال له ياأحمد ” أرجو ان يكون لك من اسمك نصيب، السمع والطاعة يابني، ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات”لم ير الشيخ ضاحكا أبدا نادرا كان يراه مبتسما فالضحك يميت القلب.
إعتاد أن يمر علي اماكن العمل يدون اسماء العمال في دفتر صغير ونوع العمل وكميات مواد البناء في كل موقع ثم يجمع ذلك في دفتر كبير ثم ينهي حساباته في نهاية الأسبوع ويصرف لكل عامل راتبه.
اكتسب من أبيه ميزة ان يسمع كلام الكبير ولكل شخص سقف يجب ألا يتجاوزه فإذا تجاوز سقفه قطع رأسه وكان الشيخ الخليجي سقف أحمد
الذي استطاع بخبرته أن يكون صورة طبق الأصل من تصرفات أبيه فاعتاد ابتكار شتي الطرق والوسائل في ملاينة الشيخ
حين مرض الشيخ ذات مرة أقام أحمد تحت قدميه في المستشفي، وأثناء سفر الشيخ كان أحمد يعمل بذات الإجتهاد وكان الشيخ موجود.
انتبه أحمد من شروده علي صوت مها يعلو وترفع يدها وتصيح ” لماذا انت صامت ؟” فرد بهدوء ” اسمع كلامك”
فقالت ” لماذا تتبعني ؟”
ـ لأغير رايك في السلفيين ” قالها ضاحكا “
…………………..
*فصل من رواية “إنجيل مها” الصادرة أخيراً عن دار ابن رشد بالقاهرة