محسن البلاسي
على طول تاريخ الحركة السريالية العالمية تباينت مواقف الجماعات السريالية حول العالم تجاه النظام الستاليني السوفيتي، ومرت الجماعات السريالية حول العالم بالكثير من التطاحنات الأيدلوجية والانشقاقات بسبب هذا الأمر الذي انتهى إلى أن تضحى السريالية في معسكر مضاد للنظام الحاكم في الإتحاد السوفيتي لما ارتكبه من قمع ورقابة على الفكر، كذلك المغالاة في النزعات القومية التي كانت تسود في خطاب النظام السوفيتي.
كانت بداية التطاحنات عام 1926 في باريس، حين كانت هناك بعض المقاربات والمحاولات لتحالف الجماعة السريالية مع الحزب الشيوعي الفرنسي، حيث قام بيير نافيل بمعارضة الأمر معارضة عنيفة وقام بالهجوم على الفرضية السائدة داخل الجماعة السريالية بأن الثورة الفكرية يمكن أن تسبق الثورة الإجتماعية وعلى الرغم من انضمام السرياليين إلى الحزب الشيوعي الفرنسي في نفس العام، إلا أن الجماعة السريالية ظلت تغلي فكريا وأيدلوجيا على مدار ثلاثة أعوام كان النظام الستاليني يرتكب خلالها الكثير من الإنحرافات القمعية والخروج عن مسار الثورة البلشفية حتى جائت قضية تروتسكي ونفيه من الاتحاد السوفيتي.
وفي صباح يوم الإثنين الحادي عشر من مارس 1929 دعت الجماعة السريالية في باريس إلى اجتماع في (باردي شاتو) في 53 شارع دي شاتو في زاوية في زقاق البرجواز، كان موضوع نقاش الإجتماع يدور حول مصير ليون تروتسكي بعد نفيه واقصاء ستالين له بعيدا عن السلطة السوفيتية، وكان جميع الحاضرون متعاطفون مع تروتسكي في مواجهة الستالينية وأتفقوا ان يهتموا بمصير ليون تروتسكي رفيق لينين وأحد اهم الثوار في العالم في شتى الإتجاهات السياسية والفكرية، لقد كان هذا الإجتماع هو البداية الرسمية لمواجهة السريالية العالمية للنظام الستاليني، إلا أن الإجتماع لم يستمر طويلا بسبب الخلافات الحادة التي حدثت بين الأعضاء، وقد خضع اندريه بريتون إلى عدة تحقيقات حزبية بسبب هذا الموقف، بل أن الحزب قد أمره بأن يكتب تقارير عن الصناعات الثقيلة في ايطاليا فشعر بريتون بالإهانة وبدأت التراكمات التي ستؤدي لاستقالته من الحزب.
فلقد كانت أزمة 1929 الأيدلوجية داخل جسد الجماعة السريالية في باريس من أعنف الأزمات الداخلية السريالية على طول تاريخ الحركة وامتد الخلاف إلى باقي الحركات السريالية حول العالم في السنوات الأولى من الثلاثينات. لقد كانت الأزمة تتلخص في السؤال الآتي: هل ينبغي وضع الحركة السريالية في باريس تحت تصرف الحزب الشيوعي الفرنسي المؤيد للإتحاد السوفيتي ؟ أم ينبغي ترك الحركة تسير في مسارها الخاص ؟
لقد كان على أندريه بريتون أن يجد حلا للتناقضات الأيدلوجية التي بدأت تضرب الحركة السريالية في صميمها، وبدأ أندريه بريتون يدعو لحلول وسطية تؤجل الصدام وقام بالتصريح بأن الحركة السريالية تتابع أعمالها بشكل مستقل لكنها ما زالت تناضل من أجل الثورة ويهدفون إلى تحقيق أهدافها لكن بطرق موازية، وأدت هذه المقاربة إلى تأجيل الصدام الايدلوجي الأكبر وبدء مرحلة جديدة للحركة السريالية في باريس تخلصت فيها من تاثيرات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وكانت أزمات الرأسمالية الجديدة قد بدأت في الظهور في الولايات المتحدة والمانيا وانجلترا وعادت الراسمالية الجديدة تشكل تناقضاتها الرئيسية من جديد التي لا تستطيع حلها إلا بالتجهيز لمجزرة عالمية جديدة ، ومع تطور هذه التناقضات بدات الحركة السريالية سنوات هادئة في صدامها مع الإتحاد السوفيتي بل وصلت الهدنة إلى اطلاق بريتون شعار (السريالية في خدمة الثورة) والثورة هنا تعني الثورة على الرأسمالية التي تسعى لصياغة مجزرة عالمية جديدة عبر تنامي قوة الفاشية والنازية، وتبدأ المراسلات التلغرافية بين الحركة السريالية وموسكو لكن لم تستمر الهدنة طويلا وانتحر ماياكوفسكي في موسكو ويكتب أندريه بريتون مقالا عن انتحار الشاعر البلشفي مايا كوفسكي يقول فيه ( إن الجميل الذي أكنه لماياكوفسكي ينبع من انه فضل وضع الموهبة العظمى التي منحه أياها تروتسكي في خدمة الثورة بدلا من أن يستخدمها لمنفعته الخاصة في سبيل تحريض الاعجاب بواسطة الصور البراقة في غيمة في سرواله) ومنذ ذلك الحين بدأت مقالات اندريه بريتون تتجه لمهاجمة أدب الدعاية السياسية التي سخرها النظام السوفيتي والاحزاب المؤيدة له لخدمتهم،
ثم جائت أزمة آراجون الأزمة التي كان لها دورا كبير جدا في التحول الأيدلوجي الذي طرأ على مسار الجماعة السريالية الفرنسية، ففي عام 1932 بدأ لويس آراجون انشقاقاته الأيدلوجية عن الجماعة السريالية في باريس بعد سفره إلى روسيا وعودته، ويعود الامر إلى عام 1930 حيث قام بتمثيل الجماعة السريالية الباريسية في مؤتمر الأدباء الثوريين في خاركوف في روسيا وقد قام باطلاق تصريحات مخالفة للمسار الايدلوجي للجماعة فيما يخص تأييد تروتسكي وتوالت دفاعاته عن النظام الستاليني بعد عودته إلى فرنسا حتى حدثت أزمة قصيدة بريتون التي كتبها دفاعا عن سلفادور دالي ضد هجمات الصحف الستالينية عليه وانحاز لويس آراجون لموقف الحزب الشيوعي الفرنسي والصحف الستالينية وتم فصل بريتون وايلوار وكرافيل من الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1933 على خلفية اتهامهم بالمساهمة في مقال لفردينان ألكيه كان مضمونه هو فضح ماهية الريح التي تفسد العقل الآتية من الإتحاد السوفيتي حيث تمجد قيم النظام الستاليني الحياة المحافظة التي يمقتها السرياليين، ثم كتبت الجماعة السريالية في باريس عام 1935 كتيب بعنوان
( حين كان السرياليون على حق) يتناولون فيه توصيات مؤتمر انشاء الرابطة الدولية لحماية الثقافة التي كان يشرف عليها شيوعيون مقربون من النظام الستاليني ويكون موقف السرياليون في الكتيب انهم لا يثقون في هذه الرابطة وبعد ان اوردوا في الكتيب أمثلة كثيرة من صحف سوفيتية يعربون عن ريبتهم تجاه نظام الحكم في الإتحاد السوفيتي وفي هذا الكتيب كانت القطيعة السياسية النهائية من السرياليون في فرنسا مع الإتحاد السوفيتي والحزب الشيوعي الفرنسي لكنهم يؤكدون ان هذا الكتيب ليس قطيعة مع الثورة الطبقية بل تكريسا لها.
وفي نفس العام كانت الواقعية الاشتراكية هي المدرسة الأدبية الرسمية للنظام الستاليني السوفيتي وقد قطعت الجماعة السريالية الباريسية اي علاقة لها باقية مع الحزب الشيوعي الفرنسي، على عكس بعض الجماعات السريالية في شرق أوروبا التي اضطرت إلى أن تستمر علاقاتها مع الأحزاب الستالينية لضمان نشر المقالات السريالية في الصحف بالإضافة للموقف الايدلوجي المؤيد لتلك الاحزاب، وفي نفس العام ينشر أندريه بريتون كتيب بعنوان موقف السريالية السياسي يقول فيه: (إنهم يخلقون منطقة حرام من جهة ومن جهة ثانية ينكرون مقدرة الرفض، المحرك الحقيقي للنشاط الثوري وأنا لا اريد أن نلجأ إلى هذا الموقف الذي نجده نحن نوعا من الرجعية) ويعلن في نفس الكتيب عن تأسيس حملة معاكسة تحت أسم اتحاد صراع المثقفين الثوريين ويقوم المساهمون في هذا الإتحاد بتفكيك المفاهيم المغلوطة حول الامة والوطن ومواجهة الرأسمالية كموقف مضاد لليسار الستالينيني والقومي وأن هذا الإتحاد مفتوح لكل من يؤمن بأن الرأسمالية تتطور باتجاه تناقض هدام وان جعل وسائل الإنتاج مشتركة هو الهدف من النضال وأن الصراع الطبقي هو العنصر الايدلوجي الاساسي في اتجاههم الايدلوجي.
وفي عام 1936 وبالتزامن مع الحرب الأهلية في أسبانيا قام بنجامين بيريه بدعوة السرياليين للإنضمام للقوات الأناركية اللا سلطوية في أسبانيا وقام بالسفر وانضم للقوات الثورية المقاتلة.
وفي عام 1938 أخذت السريالية غلى عاتقها أن تجمع المثقفين من الثائرين المتمردين على كل تعبئة عسكرية، وفي نفس العام وحين التقى أندريه بريتون وتروتسكي ودييجو ريفيرا في المكسيك حيث كان العالم على شفا انهيار رأسمالي جديد ومحاصر ما بين الفاشية والستالينية ظهرت مصطلحات مثل: الحصانة الفنية في خدمة الماركسية _ استقلال الفن من أجل الثورة _ والثورة من أجل التحرر الكامل للفن، وقاموا بالإتفاق على أنه يجب على الفن إذا ما أراد ان يحافظ على شكله الثوري أن يستقل عن جميع أشكال الحكم ويرفض جميع التوجيهات ويعمل ضمن خطته وصيرورته الذاتية وتكفي هذه الظروف ليكون الفن في خدمة تحرير الطبقة العاملة، واتصل بريتون اثناء تلك الزيارة بفنانين عالميين واتفقوا على تاسيس (اتحاد الفن الثوري المستقل f.i.a.ri) وتم اصدار بيان من اجل فن ثوري مستقل.
وحين عاد اندريه بريتون من المكسيك إلى باريس نشر نتائج رحلته في جريدة المينوتو مهاجما بعنف النزعة القومية في الفن، وتم انشاء فرع فرنسي لاتحاد الفن الثوري المستقل وتوافد المشتركون والمؤيدون وتم تاسيس نشرة شهرية تحت أسم (كلي) نقتبس من عددها الاول الكلمات التالية: ( ليس للفن وطن أكثر مما للعمال فالدعوة اليوم إلى العودة للفن الفرنسي أسوة ليس فقط بالفاشيين بل بأتباع ستالين هي عقبة أمام المحافظة على هذا الرباط الوثيق الضروري للفن، انها العمل على انشقاق الشعوب وعدم تفهمها لبعضها البعض) وفي العدد الثاني كان هناك رسالة من تروتسكي إلى أندريه بريتون نقتبس منها الكلمات التالية:(إن خلق انتفاضة فنية انفعالية وعودة إلى الهمجية خلقا مستقلا حقا عن عصرنا هو بالفعل عمل ثوري بروحه لأنه لم يعد يقوى على البحث عن مخرج من جو اجتماعي خانق لا يطاق ولكن الفن في مجمله وكل فنان بنوع خاص يبحثان عن عن هذا المخرج بوسائلهما الخاصة دون أن ينتظرا أمرا من الخارج ، بل عليه ان يهزأ من هذا الامر ويرفضه ويرفض كل الذين يخضعون له).
ويواجه اندريه بريتون والجماعة السريالية انشقاقا وصداما جديدة حين وجد عند عودته من المكسيك رفيقه بول إيلوار يكتب في صحف ستالينية الأمر الذي احدث شقاقا جديدة وتطاحنا ايدلوجيا جديدا بعدها قرر أغلب السرياليين مع بدء الحرب العالمية الثانية الهجرة إلى أمريكا ونقل نشاطات الجماعة إلى نيويورك مسطرين تاريخا جديدا للحركة السريالية في الولايات المتحدة الأمريكية ولم يعودوا إلى باريس سوى عام 1946 بعد انتهاء الحرب .
***
والآن نذهب إلى القاهرة قليلا
(روض الفرج على ضفاف النيل حيث يسكن جورج حنين _باريس _ بروكسل )
في نوفمبر عام 1946 أرسل أندريه بريتون خطابا لجورج حنين نقتطع منه:
( صديقي العزيز جدا. إن سلوكي نحوك يوضح لي بجلاء حجم التقصير الذي أبديته منذ عودتي إلى باريس. إن رؤيتك في باريس طبيعية وضرورية تماما طالما كان لدينا الوقت أو إذا لم يكن من الواجب عليك أن ترحل. لقدت اعتمدت على اتفاقنا العميق منذ وقت طويل وقد ترك في نفسي كل سكينة دون أن يفقد شيئا من حيويته. ما كدت تترك هذه المدينة الا وتسائلت، كيف كان من الممكن رؤيتك فيها وأنا في حالة سيئة، رغم أنني تعلمت منك كثيرا وتناقشت معك وأعدت النظر من نفس الزاوية المشتركة. أرجوك أن تقيم وزنا للإضطراب الشديد الذي وجدت نفسي فيه، ورغم كل شئ لهذا النوع من الحيرة الذي استطاع أن يجرها لي هذا التأقلم)
لكن أهم ما جاء في الخطاب هو شكر أندريه بريتون لجورج حنين على هجومه الشديد على من انضم من الجماعة السريالية في بلجيكا للحزب الشيوعي البلجيكي خصوصا رينيه ماجريت الذي انضم للحزب الشيوعي البلجيكي في 5 سبتمبر 1945 ويشكره أيضا على رفضه للتوقيع على بيان (السريالية في وضح الشمس) الذي أصدره رينيه ماجريت وبول نوجيه وكان مضمون الخطاب تأييدهما هما ورفاقهما للحزب الشيوعي البلجيكي المؤيد للنظام الستاليني السوفيتي
وفي أبريل عام 1947 سافر جورج حنين ورمسيس يونان وإقبال العلايلي إلى باريس حيث وجدوا أن الجماعة السريالية الفرنسية قد تغير جلدها وكان ساران الكسندريان قد أخذ مكانة عالية بين السرياليين الذين لم يؤيدوا الإتحاد السوفيتي ومن انطباعه عن لقاؤه بجورج حنين نقتبس:
(جذبتني فورا طلاقة حنين الفكرية . على النقيض من نظرته الحذرة من الآخرين خلف نظارته السوداء، في اجتماع اندهش عندما رآني أخرج من جيبي علبة سجائر عليها نقوش عربية وعلبة كبريت من ماركة ثلاثة نجوم الشهيرة المنتشرة في الشرق الأوسط، عرفته أنني ولدت في بغداد حيث كان والدي دكتور فارتان الكسندريان طبيب الملك فيصل الأول وقد سعد حنين لاكتشافه أنني من أصل شرقي رغم لكنتي الباريسية وأسرة أمي الفرنسية وارتبطنا فورا بصداقة)
وفي نفس العام أعلنت الجماعة السريالية في باريس من داخل أتيليه جون بول ريوبل تأسيس السكرتارية الدولية للسريالية (كوز) برئاسة جورج حنين وساران الكسندريان وهنري باستورو وكان من أهم وأول أعمال جورج حنين في رئاسة السكرتارية هو صياغة استفتاء مكون من ثمانية اسئلة على من يريد الانضمام للسكرتارية أن يجيب عليها وكانت أبرز تلك الأسئلة
_ ما هو موقفك فيما يتعلق بالإرادة الثورية لتغيير العالم ؟
_ هل تعتقد أن الدين في الماضي أو المستقبل يستطيع أن يحمل غوثا للإنسانية ؟
وفي مقهى باريسي في شارع مونبرناس في 21 يونيو 1947 شارك جورج حنين وباستورو والكسندريان في صياغة بيان لتحديد موقف السكرتارية من كل سياسة حزبية واختتم جورج حنين البيان بجملة
(السريالية هي ما سيكون) كان هذا البيان بمثابة بيان عنيف مضاد موجه لبعض السرياليين الذين انشقوا عن السكرتارية والجماعة السريالية الباريسية وكونوا جماعة السرياليين الثوريين التي انضمت للحزب الشيوعي الفرنسي من جديد بتحريض وتعاون مع بعض اعضاء الجماعة السريالية في بلجيكا المؤيدة لستالين بينما كان أندريه بريتون وجورج حنين ورفاقهما لا يفرقون بين ستالين وهتلر، وفي عام 1948 تصادم جورج حنين ورمسيس يونان مع الجماعة السريالية الباريسية والجماعة السريالية في انجلترا بسبب اختلاف في وجهات النظر حول المجلات السريالية وفي 26 يوليو 1948 أعلن جورج حنين استقالته من الجماعة السريالية وهو نفس العام الذي استقال فيه رمسيس يونان من الجماعة بسبب رفضه للتوقيع على بيان بعنوان في الكوة كلاب الله بسبب رفضه لإثارة مزيد من المشاكل كانوا قد تجاوزوها منذ سنوات طويلة.
______________
(لأول مرة منذ عام 1936 أذهب إلى باريس دون أن أرى أو أسعى للقاء أندريه بريتون)
_من جورج حنين إلى نيكولا كالاس _
16 أغسطس 1949
_________________
عبد الناصر وستالين وجه واحد
كتب جورج حنين بعد حركة الضباط عام 1952 التالي: ( إن العنصرية، النميمة، الكذب، الأمية الأيدلوجية والانغلاق الثقافي تشكل فيما يتعلق بالشرق كما أعرفه أسسا وطنية جديدة تستند اما على المثل الأعلى أو على الحماية الوطنية)
وكتب أيضا: (أصبح عسيرا، ومتعبا أن أغادر الأراضي المصرية كما لو كنت أهرب من قارورة.. انهم يعملون على إسعاد من كانوا عساكر أميين وهم الآن وجوه القدر المشدوفة).
**
ملحوظة: كان جورج حنين حين يود أن يذكر عبد الناصر، كان يلقبه ب (الأمير ذو الأنف كعمود الإشارة).