خالد البقالي القاسمي
يبدو بوضوح وجلاء أن تجربة المبدع الكبير ” البشير الأزمي ” قد اختمرت ونضجت، وأصبح هذا المبدع يكتب النصوص القصصية بثقة وعمق ووضوح، لقد أصبح يعرف جيدا كيف تتم عملية نشوء النصوص الإبداعية وتتكون، لقد تطور الإبداع القصصي لدى القاص عبر المجموعات القصصية التي أنتجها سواء القصص القصيرة، أو القصص القصيرة جدا، وسوف نركز على النصوص التي شهدت تألق المبدع ” البشير الأزمي ” في مجال ” المسافات القصيرة ” التي أصبح سيدا في حقلها ومجالها: الضفة الأخرى ( 2007 )، أحلام معلبة ( 2013 )، أطياف الفرح ( 2015 ).
مع المجموعة القصصية ” أطياف الفرح “، وصل المبدع ” البشير الأزمي ” إلى نضج فكري وفني كبيرين، لقد أصبح واعيا بالكتابة، حيث يعرف عمله بدقة، ويعي ما سوف ينتجه باحترافية، وعندما يتعامل الواحد منا مع أشياء مألوفة فإنه يتقن عملية سبكها، وبنائها.
يعتمد المبدع ” الأزمي ” كثيرا على التنوع الموضوعاتي في نصوصه القصصية، ورغم أن التنوع الموضوعاتي يمكن أن يؤدي إلى إصابة القارئ بالتشويش بسبب كثرة التيمات التي تسجل حضورها ضمن النصوص فإن المبدع يقصي هذا التشويش المفترض بالحركية الشديدة التي تميز نصوصه القصصية، هذه الحركية الدائبة والمستمرة تزيح عن الذهن كل الحواجز والأقنعة، وتغري القارئ بالغوص في النصوص واستمراء جدتها، ومتعتها.
تركيز الحديث على الإبداع الحكائي لدى المبدع ” الأزمي ” يجعلنا نرصد مرور هذا الإبداع عبر قناتين: 1- الحديث عن عناصر تكون النصوص ونشوئها، حيث تسعى قواعد التكون إلى إبراز التداخل القائم بين مجموعة من العلاقات قد تكون منسجمة، وقد تكون غير منسجمة. 2- الحديث عن الأفكار، والمواضيع، والدلالات، والتأويلات التي وظفها المبدع، واشتغل بها، أو حولها.
يكتب المبدع نصوصه بلغة عربية فصيحة، جميلة، دقيقة، ومعبرة، ويوظف تشبيهات في شكل صور حكائية جميلة، وعلاقات استعارية مضيئة، ويستعمل متواليات سردية موجزة، واصفة، تفتح أفق التلقي على المقصود والمطلوب بغنج ودلال، لعلك تحتاج إلى بعض من القدرة على تتبع الخفايا، والهوامش لكي تدرك ما يقصده المبدع منذ البداية، وإلا فأنت مدعو لانتظار اللاحق للإمساك بالمدهش، والمثير، فبعد أن يقنعك مثلا بأهمية الأمثال الجارية بين الناس، وتحس بأن حياتك كغيرك تنتظم وفقها يصعقك بعودته المخيبة التي يثبت من خلالها قصور الأمثال، وتمنعها على التصنيف ضمن قاعدة التعميم. من أجل هذا يوظف المبدع ” الأزمي ” جملا فيها بناء تأكيدي، حيث يلح على بيان الوضع المطلوب بصيغة فيها الحسم، وعدم التردد، وهو يبني بالمتقابلات المنتجة عبر سرد قوي، بلغة معبرة، وواضحة، مع ثقة تامة بأسلوب كتابته لنصوصه الإبداعية. ” البشير الأزمي” سيد في البدايات، ومدهش في النهايات، فالبدايات عنده تحدد مسار النصوص القصصية، وأحيانا تصبح النهايات هي المتحكمة إذ هي التي تحدد مسار النصوص وليس البدايات، ولذلك ولكي تقرأ جيدا نصوص المبدع عليك أن تعكس العادي والمألوف، أي عوض ارتباط السابق باللاحق عليك أن تهتم بارتباط اللاحق بالسابق، لا ينازع المبدع أحد في مجال الإبداع القصصي، فهو متفرد عندما يرتع في هذا الخضم، بداياته تشعرك بنوع من الرجفة، لأنها دائما في جميع نصوصه تنطلق من تجويف عميق غائر في كهف النفس الإنسانية التي لم يفلح أحد في ولوجه بدقة وإتقان، المبدع ” البشير ” يعلمك منذ البداية بأن عليك أن تكون مستعدا لتلقي إحدى الصدمات الوجودية التي تجعلك واحدا من المستهدفين في نصوصه الرائعة، حيث يحاول دائما وبجهد ملحوظ في كثير من نصوصه المتنوعة بناء المتلاشي والمتهالك في فكرنا، وإسناد يأسنا وبؤس تصوراتنا. ثم النهايات التي يتفنن المبدع في اختيارها، وتنويعها، وتجميع خيوطها في النصوص القصصية لكي يبهرك، أو يفرحك، أو يصدمك، أو يفجعك، وتنويعه في النهايات يتجسد في طبيعتها التي تختلف، فهي مربكة، أو صادمة، أو صاعقة، أو مخيبة، أو ساخرة، أو مدمرة، أو خادعة، أو غير مستساغة، أو يائسة، أو حارقة، أو تراجيدية… وتتجلى هذه النهايات كثيرا في الموضوعات التي يشتغل حولها المبدع ويسجل من خلالها سخرية الحياة من الوثوقيين، والدوغمائيين، وهكذا نجد لديه في صيغ هذه النهايات حسب طبيعتها أعلاه امرأة تزور قبر زوجها بوفاء وإخلاص ثم فجأة تتذكر وتسرع الخطى حتى لا تتأخر عن ميعاد اللقاء بعشيقها، ويدل هذا على تحول الوفاء إلى خيانة أو شرعنة الخيانة المستمدة من قبر الزوج. ثم الفحولة المتوهمة لزوج تتحول عند الضرورة إلى حسرة وعجز ومثلية…
في بعض الحالات يكون السرد لدى المبدع متميزا باللهاث، والسرعة، والعجلة، ويلاحظ هذا الأمر خصوصا في بعض النصوص التي مارس فيها الكاتب نوعا من التجريب، وفي بعض الحالات يحول شخصيات قصصه إلى نماذج، أو أنماط تفكير عندما يصر على عدم تمتيع الشخصية داخل الفضاء القصصي باسم محدد لخصائصها الجسمية والنفسية، وغالبا يلجأ المبدع إلى استعمال الوصف الذي يتجاوز الدقة، والاهتمام بالجزئي والهامشي، إلى التركيز والاهتمام بالحسي، والوجداني، فعندما يثير الكاتب موضوع الألم فإنه يبسط مثاله وحالته في المتن القصصي ويقنعنا بقرب وصولنا إلى تحصيل قناعة أن الألم يؤلم، وسكون القرية في النص الحكائي يؤلم، ونباح الكلاب يؤلم، ورفض الجدة مرافقة الأسرة إلى ملاذ آخر يؤلم، وحافة الألم هي ألم الألم داخل الغربة، والغرابة، والإرباك، إنها مأساة لأطياف كسيحة تنتج كتابة داخل أغوار النفس، وتثبت بؤس الشعارات، وانهيار الطموحات، وتهاوي الأحلام، واندثارها، وموتها مثل الشجرة التي ماتت أوراقها.
مفهوم الألم الذي يشكل واحدا من المفاهيم التي يبني بها المبدع نصوصه لكي يظل لصيقا بمصداقية النصوص السردية الحية عمل على خلق شخصيات قصصية موبوءة، حيث كل شخصية من شخصيات قصص ” البشير الأزمي ” تحمل عناصر فنائها في ذاتها، وقد تحمل الفناء لمن يحيط بها، ويثير هذا لدى الكائن الإنساني طريقة التفكير العدمية الارتدادية، طريقة التفكير هاته تظل لدى المبدع لصيقة بمفهوم الجسد الذي اشتغل عليه في كثير من النصوص، وكثيرا ما نجد في نصوص ” البشير ” تمدد الجسد، وتشظي الجسد، وتعدد الجسد، وازدواجية وظيفة الجسد، وانتقال الجسد في الزمان والمكان، وقرف الجسد من وعائه، ورغبة الجسد الملحة في تغيير محله وماهيته، ومكر الجسد وتمرده على أصله وهويته.
لقد أتقن المبدع بمهارة اللعب على تيمة توازي الجسد مع الجسد، خصوصا عندما تشهد الشخصية القصصية خروج جسدها من وعائه، وتمظهره بوقاحة وإصرار في صورة مغايرة مع حضور الذات المتخيلة واستمرارها. في عملية توازي الجسد يتحول الزمن إلى اللازمن، لأننا عندما نقوم بتحليل الصورة فإن التحليل لا يعطي قيمة للمدة الزمنية الرابطة بين الجسد الحكائي والجسد الممتد عنه، كما لو لم يكن ثمة زمن إلا في اللحظة الفارغة للقطيعة أو الانفصال بين الجسدين، ففي تلك الثغرة البيضاء أو السوداء والتي هي بصيغة متناقضة ومفارقة لا زمنية نلاحظ بعين ناقدة ماهرة ومدربة حلول تشكيلة محل تشكيلة أخرى بومضة مفاجئة، وبهذه الكيفية فقط يمكننا تفسير عملية إلغاء الزمن، وبإلغائه يمكننا أن نلغي إمكانية وصفه وتحليله وتأويله حيث لا يعود له أي حضور تاريخي معتبر، إنه عبارة عن لعبة خارقة، مثيرة، هو تخييل تركيبي فائق البراعة والفنية، لقد تحولت الأدوار ويا لها من مفارقة إبداعية كاسحة، فبعد أن كانت الشخصية الحكائية موضوعا للتخييل أصبحت هي بدورها ذاتا منتجة للتخييل.
في إبداع ” البشير الأزمي ” ضمن المجموعات القصصية لا تلاحظ بتاتا قطيعة بين النصوص، إذ يبدو أن جميع النصوص القصصية مفكر فيها، ومخططة مسبقا، ونحدس تلك العلاقة الوطيدة بين النصوص المكتوبة وروح الفكر المنتجة لها التي تحوم حول نكهتها، وصداها، إننا نلمس هذا في النصوص عبر وجود الذاكرة التي وصفت في المجموعة بأنها مخرومة، ويبدو هذا بسبب تغير الذات وتعددها بتعدد وتغير الأحلام، الذات تتحول إلى فراغ، وهو فراغ الكينونة، حيث تنتج الذات ونظيرتها حوارا يعكس ظلهما، ومكمنهما، وحقيقتهما الغائبة والحاضرة معا في ظل الذاكرة المتساقطة، ويعطي هذا الحوار نوعا من الصوفية العميقة في الحلول بين الذوات والأشباح والأحلام، وعندما تختلط الأشباح بالحقيقة والوعي والحلم تعيد استحضار أثقال الماضي المترعة بالحزن والألم التي تهيمن على النفس المكلومة والذات المشروخة وتؤدي إلى الإحساس بالعدمية والدونية واللاشيء، ويؤكد المبدع بأن السيادة أصبحت للمسخ حول كل شيء، وأصبح كل شيء يشبه كل شيء، فانتفت الأصول والحقائق، وأضحت مجرد نسخ ممسوخة ومشوهة.