أماني خليل
“من موقعه هذا يمكن رؤية البحر المترقرق الأخّاذ، ممتدًا كمروحة يدوية كورية بُسطت على آخرها”
تشوي إين هوون
بطاقة شعرية هائلة يبدأ الروائي الكوري “تشووي إين هون” رواية الساحة واصفًا بحر الصين الجنوبي الأزرق بمروحة كورية ممتدة، المروحة المرتبطة بالثقافة الكورية تشبيه متكرر يستعمله تشووي هون في الرواية، فيصف به سربًا من النوارس فوق سماء هذا البحر الدافئ، حيث تكون رحلة بطل الرواية “لي ميونج جون” الأسير المفرج عنه على ظهر السفينة الهندية “طاغور” إبّان الحرب الكورية في خمسينات القرن، والتي نتج عنها انقسام شبه الجزيرة الكورية إلى دولتين: شمالية وجنوبية، بعد دخول الصين لدعم كوريا الشمالية، والولايات المتحدة الأمريكية لدعم حكومة سيول في النزاع الذي انتهى بالهدنة والتقسيم عام 1953.
في رواية الساحة، التي تعج بالمتقابلات والمتناظرات المجازية، تبدو الساحة في الرواية وفي رؤية الكاتب هي ساحة الحياة السياسية الكورية التي يصفها بالفساد والانتهازية، فيقول:
“ساحة السياسة في كوريا ممتلئة بأكوام البول والبراز. إنهم يقتلعون الزهر الذي يُفترض أن يكون ملكًا للجميع ليضعوه في مزهريات منازلهم، ينتزعون صمامات النوافير ليثبتوها بمقاعد حماماتهم، يحفرون الأرصفة ليفرشوا أرضية مطابخهم. عندما يخرج سياسيو كوريا إلى ساحة السياسة فهم يحملون أكياسًا وفؤوسًا ويغطون أعينهم بكمامات ليسرقوا، وإذا ما حاول شخص يسير على طريق الخير ومنعهم من ذلك، تهجم عليه عصابة الرقابة في زقاق بعيد عن الساحة لتمسح أثره بضربة واحدة!”.
في مقابل رؤيته المتعددة لفكرة “الساحة” يقدم لنا الكاتب فكرة “الغرفة”. المكان الخاص الضيق، الغرفة التي يقيم فيها في البيت وبجواره غرفة والده التي تضم عالمه الخاص. وحين يذهب لي ميونج جون إلى كوريا الشمالية، ويعمل في إحدى المجلات التي يطلب منه رئيس تحريرها كتابة تقرير عن حياة الكوريين في إقليم الكولخوز، يفاجأ بحياتهم التعيسة الفقيرة ويراهم يرتدون ملابس الجيش الياباني المحتل. تتم محاكمة مصغرة من هيئة رئاسة التحرير، ويتم اتهام لي ميونج جون بعدم التخلص من بقايا الحياة البرجوازية التي كان يعيشها في كوريا الجنوبية، ويتم اتهامه بالانحياز للفردية على حساب الأيديولوجيا الشيوعية والانحياز للوطن.
يواجه البطل ميونج جون، الذي يقف وحيدًا بكل الغضب والكراهية والحنق من رؤسائه، فيتقوقع داخل ما يسميه “غرفة القلب” التي تتهدم كل يوم بسبب عدم عثوره على الحرية والعدالة. الغرفة هي الحيز المكاني، وهي في الوقت نفسه الحيز النفسي للفرد، المكان الذي يتجاوز عرضه ذراعي الإنسان لكنه يضم روحه وقلبه وأفكاره. المقابلة بين مصطلحي “الساحة” و”الغرفة” هي أهم مقابلات الرواية ومجازاتها؛ المعتمد على خلق وبناء عالمين مختلفين تمامًا يمثلان الكوريتين في المبتدأ، وكذلك يمثلان عالمين مختلفين تمامًا يضيع بينهما البطل.
بعد أسر البطل في كوريا الشمالية تنتهي الرواية بمشهد البداية: بالبطل على ظهر سفينة في بحر الصين الجنوبي الدافئ، في طريقه إلى بلد محايد حيث سيذهب إلى كلكتا في الهند. يدرك لي يونج أنه لا يوجد طريق ثالث، لا يوجد حل وسط بين عالمي الشمال والجنوب، واستحالة الموازنة بين سطوة الجماعة وعزلة الفرد.
مشهد النهاية يعج بالرمزيات: حياة الطيور والنوارس البرية، مشهد ولادة “إن هيه”، زبد البحر المتطاير وسط دوامات الهواء. المشهد يكرس للعزلة والعودة إلى الطبيعة، حيث الابتعاد عن عالم البشر بخياراته المرعبة وقسوته اللامتناهية.
المروحة أيضًا مجاز استعمله الروائي “تشووي إن هون”، حيث لها طرف ضيق يقف عنده البطل وطرف واسع حيث الخيارات اللامتناهية.
المرأة بين الفكرة والجنس والترميز الأيديولوجي:
خلق الكاتب ثلاث نساء مررن بحياة البطل لي ميونج جون. تلك النماذج النسائية لم تكن عابرة أو عشوائية، لكنها حملت نظرته في الحياة وتساؤلاته الفلسفية وصراعاته الفكرية.
الأولى هي “يونج مي”، التي تمثل أسرة برجوازية تعيش في مدينة سيول، منبهرة بنمط الحياة الأمريكي، تختلط بلا خجل بالجنود الأمريكيين. كان لي ميونج حبيس أفكاره وتوقه للحرية التي يصفها “بالدوامات الفكرية”، منفصلًا عن أي التزام، متمنيًا لو أن له حبيبة تموت ليعيش بعدها على ذاكرتها. تلك العلاقة البيوريتانية تختلف عن علاقة “تيه تشيك” أخو يونج مي مع النساء، الذي يصفه الكاتب بالرجل اللعوب الذي ينصب شباكه على النساء حتى يقعن في حبه. وهو أيضًا نموذج للمادية المفرطة، لا يفكر في الكتب التي يعتبرها لي ميونج جون خلايا حية تُضاف لجسده كل يوم.
ومن خلال علاقة لي ميونج جون بيونج مي يطرح الكاتب أفكاره المتشابكة والتباساتها عن علاقته بالمرأة، من خلال نموذج جنوبي رأسمالي مشغول بالحفلات والرقص وتمضية الوقت، اللهاث في البحث عن “المتعة” بشكلها المجازي والحقيقي، والتي يصفها من خلال متابعة “يونج مي” لأبطال الأفلام الذين يستيقظون من النوم ليتثاءبوا ببطء، أو من خلال تساؤله عن الفرق بين رغبة الرجل والمرأة، فيقول إنه يعرف مكمن رغبة الرجل باعتباره رجلًا يعرف كيف يستعر جسده بالرغبة في النساء، لكنه لا يعرف كيف تستعر رغبة المرأة في الرجل، وأين تكمن تلك الرغبة بالضبط.
أما “يون إيه”، فهي نموذج مختلف عن يونج مي، وهي صديقتها، التي يبدأ ظهورها على مسرح الأحداث ممسكة بمروحة كورية وكأنها من عمق الروح الكورية، بحذائها المطاطي وملابسها الكورية من نسيج الرامي. تستضيف يون إيه “ميونج جون” وتقدم له الرعاية، فتنمو خلال عام قصة حب رقيقة بينهما، بدون اتفاق، يتقابلان كل مرة وكأن القدر ينسج حكايتهما ويتحكم كلية فيها. يون إيه نموذج بري، تقدم له الحب في يوم وترفضه في اليوم التالي. في مقاطعة انتشون لم تكن قادرة على اصطحاب ميونج في رحلة هروبه إلى الشمال.
بعكس “يونج مي”، كانت “إن هيه” رفيقة شيوعية مخلصة، تحب ميونج برغم ما تم وصمه به من وجود بقايا رجعية وبرجوازية فيه من رفاقه في الحزب الشيوعي، بسبب ما كتبه ميونج في مقال الكولخوز وانتقاده لبس الفلاحين الكوريين للملابس اليابانية، التي اعتقد رفاقه أنه انتقاد لعدم كفاية الإنتاج في كوريا الشمالية تحت قيادة الحزب الشيوعي.
تسافر “إن هيه” إلى روسيا حيث سينعقد مهرجان فني في مدينة موسكو، ستشارك فيه جميع الجمهوريات السوفيتية وأوروبا الشرقية وجمهورية الصين الشعبية. يحاول ميونج جون استبقاءها بكل الطرق، لكن ولاءها للحزب ولأفكارها كان أكبر من كل شيء. “إن هيه” هي الرفيقة المخلصة للأفكار، وبرغم وقوعها في حب ميونج جون وتسليمها جسدها له بطواعية وحب جارف، إلا أن حبها للوطن كان الأكبر!
تقول إن هيه: “يبدو أنك أسأت فهم الوضع أيها الرفيق ميونج جون، أقصد رغبتك في تحمل مسؤولية رعاية الجمهورية، وهذا تصور خاطئ. دورك الحقيقي هو أن تنفذ أوامر الحزب من موقعك، تمامًا كما هو موكل إليك. فالحزب لا يحتاج إلى المشاعر البطولية، ينقصنا رجال فاعلون يمتازون بصلابة الحديد”.
هذه النماذج المتباينة من النساء في حياة لي ميونج جون لم تُشبع عاطفته الجارفة، بل بنت كل واحدة منهن قلعة من الأسئلة عن المرأة، طبيعتها البرية، ونظرتها للحب والعفة وولائها وأفكارها.. وقدمت في الرواية ارتباكات لي ميونج في نظرته للجسد والعاطفة وقيمة الولاء.
النساء في الرواية بنماذجهن الثلاثة، ومخاطبتهن لجسد وعقل ميونج جون، نماذج حيوانية بمعنى كائنات غريبة عن فهم وعقل البطل الذكر. رغباتهن معقدة، ومشاعرهن غير واضحة، وتقلباتهن النفسية تحكمهن. يغلب على علاقته بهن التعقيد وعدم الفهم والشجن الشديد!
دولة محايدة ونهاية واحدة:
يعرف “لي ميونج جون” أن هناك قرارًا صدر بإمكان إطلاق سراح الأسرى في الحرب الكورية إلى بلد محايد حيث لا يعودون إلى كوريا الشمالية. وبينما تفاوضه القيادات لعودته إلى الشمال وتكريمه ومنحه معاشًا كبطل قومي ـ في حوار طويل ـ يقرر ويكرر “لي ميونج” رفض العرض ويصر على الذهاب إلى بلد محايد، ويقول:
“وصل إلى قراره بشد الرحال إلى دولة محايدة. دولة محايدة، دولة لا يعرفني بها أحد، طريق إذا سرت به طول اليوم لن أجد من يربت فيه على كتفي. لا يعرف أحد فيها من أنا ولا يحاول أحد أن يعرف من أنا”، حيث يعتقد أن الإنسان بإمكانه تغيير حياته وخصاله بسهولة متى كان في مكان لا يعرفه فيه أحد!
في الجنوب كان في نظر قوات الشرطة شيوعيًا أحمر مثل أبيه الفار إلى الشمال، وفي الشمال كان رجعيًا برجوازيًا، وتم اتهامه من قيادات الحزب الشيوعي بعدم الولاء للحزب وإخلاصه لفردانيته.
على سطح السفينة تحوم النوارس التي تظهر بشكل متكرر في الرواية. يمقت لي ميونج النوارس، ولا يقدم الكاتب تفسيرًا لذلك في النص حتى مشهد النهاية. تقترب النوارس منه في علاقته الحميمة مع يون إيه حينما سلمته جسدها، فينزعج منها ميونج. في السفينة التي حملت الأسرى تجاه الهند كانت المحاكمة الأخيرة لميونج، التي تم الضغط فيها عليه ووضعه على حافة النهاية النفسية والإنسانية، وجعلته أمام خيار تحديد مصيره واختيار مكان لا يعرفه. وحين صدح بكلمة “دولة محايدة” كان يدرك في عمق ذاته أنه لا توجد دولة محايدة بين عالمي الشرق والغرب، بين سطوة المجاميع الشعبوية ومجتمعات أنانية الفرد والرأسمالية.
يكتشف القبطان نقصان أحد الأسرى، ويخبره أحدهم أن هذا الأسير هو يونج لي، الذي كان يحاول قبلها بقليل اصطياد زوج من النوارس وأطلق رصاصة نحو البحر في محاولة لاصطياد المجهول. يلقي ميونج بنفسه في البحر الدافئ ليحسم خياره بالموت، حيث لم يعرف البلد المحايد. النوارس كانت في الرواية نذير شؤم، حاول كثيرًا الهروب منها في الفصول الأولى حين أطلت بالقرب منه يون إيه، وانتهت في علاقتهما الأخيرة.
وفي مشهد النهاية، حيث تحلق النوارس فوق زبد البحر المتطاير والسفينة تسير إلى مرفأها في رحلتها حاملة الأسرى إلى ماكاو، يحتضن البحر حيرة وجسد وعذابات المواطن الكوري ميونج، الذي لم يجد راحته في الجنوب ولا في الشمال، في المروحة الكورية المفتوحة على اتساعها!
كتبت الرواية بصوت الراوي العليم، وتخللتها حوارات الأبطال، ويعود صوت الراوي العليم لتحريك الأحداث. وامتازت بفلاش باك في السرد، يقدم المشاهد ويعود ليرتد إلى الماضي ليعكس قلق البطل ويقدم للقارئ تشويقًا وترقبًا لا ينتهي.
كتب تشووي إن هون الرواية في سن السادسة والعشرين، وحصل على جائزة دونغ إن الأدبية عام 1966، وجائزة إيسان الأدبية 1994، وجائزة بارك كيونج ني 2011.