أهمية التجربة، بالنسبة لى على الأقل، تنبع من مغايرتها للطرق المألوفة بيننا فى التعامل مع الأدب والكتابة، وربطهما بأفكار غيبية وخرافية من قبيل الوحى والإلهام، بينما نتعالى على معاملتها بوصفها عمل مُنظم، وربما مهنة غير مدفوعة الأجر، تقوم على المراس والتدريب والتطور المستمر.
صدر الكتاب تحت عنوان: “السابعة والنصف مساء الأربعاء”، ومن الواضح أنه الموعد الأسبوعى للقاء أعضاء الورشة، بمقدمة لياسر عبد اللطيف، حرصت على عدم الخروج عن الجو العام لنصوص الكتاب الثمانية، من حيث الذاتية والعلاقة بالمكان، والبحث عن “لحظة هدوء” وسط صخب الحياة اليومية.
فى المقدمة، أشار ياسر عبد اللطيف إلى الآليات المبدئية التى اتبعها فى إدارة ورشة الكتابة، وكان حريصا على أن يميز ورشته عن ورش تعليم تقنيات الكتابة السردية (على الطريقة الأمريكانية)، وأن يشير كذلك أن فكرة ورشته الأساسية كانت هى سبل تحويل الكتابة الذاتية – من دفاتر يوميات أو مدونات على الانترنت أو خواطر إلى آخره – إلى كتابة إبداعية تملك القدرة على التواصل مع جمهور مفترض من القراء، تحت مظلة هذا النوع الأدبى أو ذاك، أو حتى باعتبارها مجرد نصوص، كما أشار غلاف الكتاب: قصص ونصوص. وانطلاقا من النصوص التى كتبها المشاركون فى الورشة عن علاقتهم بحى المعادى، بدأت الورشة تعمل على تلك النصوص وتطورها فى اتجاهات مختلفة، بالاعتماد فى الأساس على آليات الحذف، والإبقاء على ما هو “ثقيل” والتحاور حول إمكانية تمديده فى اتجاهات أخرى.
ورغم التفاوت بين نصوص الكتاب، من حيث درجة صقل الأسلوب وتطور الحرفية، فإنها تتقاسم ملامح عديدة، ولعل هذا يرجع بالأساس إلى الجو العام للورشة والوجهة التى آثرت أن تمضى فيها، فنلاحظ مثلا غياب، يوشك أن يكون تاما، للتخييل والفانتازيا واللعب، وفى مقابله نجد حضورا للواقع اليومى – أو ما يسمى كذلك – بأغلب تجلياته من انسحاق لطموحات الذات الوجدانية والشعورية، إلى الدوران الأعمى فى سواقى العمل، إلى انقسام الهوية بين أطراف متجاذبة بعد تجارب السفر والاغتراب.
لعل مفاجأة الكتاب تمثلت فى النصوص الخمسة التى كتبتها كاتبات جديدات، واتسمت كتابتهن بجرأة فى فض الاشتباك القائم بين الذات والآخر. فتقدم لنا أميرة أبو طالب فى نص “حرير وشوك” بورتريه بسيط لامرأة من الطبقة الوسطى، فى منتصف العمر، تتقاسمها الأدوار والأقنعة والواجبات والمهام، دون أن يتبقى لها حتى فتات قليل لتخص به نفسها بما تستحقه من الاعتناء والتأمل، وحدها بعيدا عن الزحام والأضواء والواجبات.
أما نص دينا الهوارى “العمر كأنه مؤجل” فيعتمد على الذاكرة فى تتبع الانتقالات المكانية بين البلاد والمدن التى شكلت علاقة الذات بالمكان، والتى أدت بها لعدم الرغبة فى أن تضرب بجذورها فى أى مكان أو تطور علاقتها بأى شخص، مادام الرحيل والانتقال الجديد هو النتيجة النهائية على كل حال، غير أن النص يروغ من هذه النقطة الهامة إلى تحليل ورصد للأماكن وخصوصا مدينة نصر، الشئ الذى جاء زائدا قليلا بالنسبة لمساحة النص المحدودة.
فى نص “بعد فوات الوقت” ترصد سمر أحمد علاقة زوجية تقليدية ومفككة ،من وجهة نظر زوجة تستجمع شجاعتها للمطالبة بالانفصال، قبل أن يباغتها الزوج بقرار الطلاق فى اللحظة نفسها، فتدرك خطأها بعد فوات الأوان. دوران هذا النص تحديدا حول سؤال العلاقة الزوجية أنقذه مما شاب أغلب النصوص الأخرى من فضفضة مطلقة العنان فى بعض الأحيان والتفكير بصوت عال فى الهموم الشخصية دون انتباه لخيط السرد.
جاء نص “شرفة” لعبير مدحت أمين مترعا بذكريات الطفولة والصبا الطازجة والغضة، مع لمسة رومانسية أكدتها علاقة الراوية بالموسيقى وحلم تعلمها وممارستها، ما ميز هذا النص هو محاولته للاقتراب من شخصيات أخرى غير الذات الساردة، من زميلات جديدات فى دراسة الموسيقى، أو زميلات فترة الطفولة والصبا، ومحاولة رسم لوحات صغيرة لكل منهن.
وفى نص “وقرر الأرنب أن يستريح” تستعيد نرمين إدريس لقطات منتقاة من علاقة عاطفية ذات شأن فى حياة الساردة، وتنتقل منها إلى همومها الخاصة الأنثوية وعلاقتها بالمكان، أو الأماكن، بدرجة من الوعى باللغة السردية وفيض غامر من التفاصيل الحسية الصغيرة.
النصوص الثلاثة الأخرى، للشباب الثلاثة، كذلك لم تخل من مفاجآت، فقد استطاع إبراهيم السيد فى نص “رف مرتفع قليلا عن الذاكرة” أن يزواج ما بين النفس الشعرى والتهكم المحكوم ورسم المشهد البصرى وكذلك نغمة خافتة من التأمل.
كما أن هناك طاقة سردية حيوية فى نص خالد ربيع “صديقى الذى قال”، وقد أجاد رصد علاقته بالمكان من خلال علاقته بصديقه، كما أنه لم يتخل عن الخيال تماما الذى أنعش نصه من خلال الفقرات السردية التى كان يكتبها صديقه، وبعلاقة المرأة المشتهاة بالفردوس المفقود من الروائح الطاغية.
ولعل حسام خلف، فى نصه “قرارات الانتماء”، تميز بإضفاء إيقاع متوازن على نصه، مما أكسبه بنية خاصة أكثر تماسكا، رغم تناوله لجميع التيمات المشتركة بين النصوص، على قدم المساواة، وهى العلاقة بالمكان، البوح الذاتى، والبحث عن لحظة صفاء خاصة وسط الزحام والصخب.
من المؤكد أننا لن نستطيع فى هذه المساحة أن نوفى كل نص من النصوص الثمانية حقه، أو على الأحرى أن نضع يدنا على الخيوط الدقيقة التى يتمايز بها كل نص عن النصوص الأخرى، ولعلها مهمة لا تتسم بالسهولة، بما أن الوجوه التى حاولت النصوص رسم ملامحها كانت متشابهة من نواح عديدة، ولعل هذا يعكس انتماء طبقيا مشتركا كذلك. مما يطرح سؤالا لابد منه وهو هل يكفى الاعتماد على نبش الذات والفضفضة بمكنوناتها الوجدانية من أجل تحقيق التفرد أو الخصوصية، فى إطار عالم ينتج نسخا كربونية من الإنسان نفسه ملايين المرات كل لحظة؟ أم أن تلمس الذات والملامح الخاصة ليس سوى خطوة أولى – ضرورية وربما لا غنى عنها – نحو البحث عن التفرد والخصوصية، وسط الزحام والتكرار، وتحت رحمة آليات التشيئ والتنميط المتسارعة؟
خصوصية هذه التجربة وهذا الكتاب لا تنبع من قيمة النصوص التى يضمها، وهى جميلة وواعدة، بقدر ما تنبع من جدة التجربة وغرابتها على سياقنا الثقافى الذى طالما قصر فعل الكتابة على أشخاص خرافيين، لديهم قدرات خاصة، تصنع منهم كهنوتا لا يجب تجاوزه. لا شك أن هذا الكهنوت تعرض فى الفترة الماضية لخلخلة ذات شأن، على أيدى المئات من الكاتبات والكتاب المجهولين تماما، والذين يرمون بحجارتهم، عبر وسائط تكنولوجية لم ينتبه سدنة الكهنوت القديم حتى الآن لخطورتها وفعاليتها. غير أننا مازلنا بحاجة للعديد من مثل تلك الورشة، حتى ولو كانت على الطريقة الأمريكية الخالصة، على عكس ما يروق لياسر عبد اللطيف، لأن نقل التقنيات والمهارات المبدئية لا يعد أقل شأنا فى نظرى من الشغل على الذات والنتح من التجربة الخاصة، مع اعترافنا بأن هذه الورش لا يمكنها أن تصنع أديبا من لا شئ، فبدون موهبة كل كاتب ودأبه وصبره على المكاره، لن تنفعه بشئ مئات الورش الإبداعية والمنتديات الأدبية. كما أننا بحاجة إلى ورش تتوجه لفئات مختلفة من المجتمع، فئات تحتاج لمن يتوجه إليها فى أمكانها وينصت إلى حكاياتها، ويعمل معها على تطوير أدواتها الإبداعية، دون فرض هذا الشكل أو ذاك على تجربتها. كل هذا لا يقلل من تقديرنا الشديد لتجربة الكتبخان، وللجهد المشكور لياسر عبد اللطيف، وإعجابنا بالكاتبات والكتاب الذين كتبوا كلمتهم الأولى فى دفتر الأدب، ولن تكون الأخيرة لكثير منهم.
……………….
ريفيو:
الكتاب: السابعة والنصف مساء الأربعاء
الناشر: الكتب خان.
