.
حين واجهتني ردود أفعال عنيفة علي نشر رواية سرير الرجل الإيطالي في جريدة الدستور، سواء بدعوات الاستتابة والتكفير ثم وقف نشرها في الجريدة لم أعد النظر فيما كتبته، أصدقائي اقترحوا علي التخفي اتقاء للاعتداءات، لأن الرواية تتحدث عن عبادة الجنس بما يعني ضمناً التعرض للدين، لكنني لم أفكر في التراجع إلي أن تم إيقاف نشر الرواية بعد أول حلقتين، لكنني لم أتخيل أن يكون رد الفعل بهذه الحدة، توقعت بعض الصدامات من أناس يقرأون الأدب بسطحية وأخلاقية وهم موجودون دائماً أما أن يصل رد الفعل إلي استتابتي وإيقاف نشر الرواية فهو ما لم أتوقعه.
لا أحد يعلم على وجه الدقة، هل يكتب الروائي روايته، أم تكتب الرواية عالمها الكامل، بما فيه كاتبها، وأوراقه، وأقلامه، ومنضدته، وكوب شايه.. كل أبطال الروائي حقيقيون أكثر منه، هم اخترعوه، واتفقوا فيما بينهم أن يلعبوا معه لعبة طريفة أعلموه بها: أنت تكتب ونحن نعيش، نأكل ونشرب ونتضاجع.. طالما اخترت الكتابة اكتب، ونحن سنحيا بدلا منك، حتى نخبرك بكل هذه المتع الموجودة في الحياة، لولانا ما كنت ستعرف شيئا.
المؤتمر الأخير للرواية الذي انعقد في المجلس الأعلى للثقافة أثبت أنه رغم وجود إقبال كبير من القراء على الرواية، إلا أن هذا الإقبال لم ينجح في إغراء الكتاب والنقاد والمثقفين أنفسهم بقراءة أعمال بعضهم البعض، الكتاب لم يعودوا يقرأون، صاروا يكتفون بالكتابة فقط، لكن ليس معنى هذا مقاطعة الكتاب الحاليين لكل المنجز السردي العربي السابق، بالعكس، فجيلي من الكتاب – مع تحفظي على هذه التصنيفات- قرأ جيدا، ربما بداية من يوسف إدريس، مرورا بجيل الستينيات ومابعده، حتى معظم ما أنتجه جيل التسعينيات السابق عليه مباشرة، إضافة إلى أدب أمريكا اللاتينية والكتابات المهمة في أوروبا وأمريكا، وهذا يظهر جيدا في تنوع الكتابات ليس فقط بين كاتب وآخر، ولكن بين ما يكتبه الكاتب نفسه، كما أن الثقافة السنيمائية والبصرية والإلكترونية حاضرة بقوة في هذه الأعمال. النت والشات والمدونات أيضا لها فضل كبير على هذا الجيل، لكن ليس من حيث التأثير في كتاباتهم، فهذا سيظهر بشكل أوضح لدى الأجيال التالية، وإنما من حيث التعريف بهم وبأعمالهم، وفي خلق نوع من الدعاية والتواصل بينهم وبين القراء، وأرى أن هذه الوسائل سبب رئيسي في حالة الانتعاشة القرائية في الآونة الأخيرة. كما أن هذه الوسائل أدت إلى ظهور نوع من الكتاب الرقميين الذين نشأوا وكتبوا في ظل هذه الطفرات التكنولوجية، حتى أصبح يمكن تقسيم الكتاب إلى كتاب ورقيين وكتاب إلكترونيين.
الكاتب مع قارئه كالصائغ الماهر مع زبوناته الجميلات، تعددت الأذواق والقرط واحد، والسوار واحد، والقلادة واحدة.. هذه يا سيدتي ستكون تحفة في رقبتك، وهذا سيأكل قطعة من معصمك الجميل، هل تحبين أن تجربي هذا أيضا، خذي هذا هدية عليه، نحن نفتح مبكرا، ونعمل طوال أيام الأسبوع، لا نعترف بالعطلات، ننام قليلا، ونسهر من أجل راحة القراء.
أكثر الكتب مبيعا وحفلات التوقيع وكل هذا التغير الذي حدث على مستوى القراءة والإقبال على شراء الكتب، والاهتمام الكبير بحضور الندوات والحصول على توقيع الكاتب، واقتصاد نقود من ميزانية القراء الفقيرة أصلا لإنفاقها على الثقافة، وغيرها من المظاهر الرائعة التي تسعد أي كاتب أو مهتم، لا يمكن اختصارها في كونها “تسليعا” للثقافة كما يرى البعض، بالعكس، الطبيعي هو ما يحدث حاليا، أو ما بدأ في الحدوث، المشكلة فقط أن هذا جديد تماما علينا، ولهذا يتم استقباله بتوجس وريبة كما يحدث مع كل جديد، الآن أصبح لدينا قارئ مختلف، يستحق مزيدا من العناية، ليس من الكاتب فقط، وإنما من صناع الكتاب، ومن الإعلام، لا يمكن أن تظل المعادلة تسير بطرف واحد هو الكاتب إلى ما لا نهاية، الكاتب لا يكتب لنفسه، هناك قارئ يتوجه إليه، وكل هذه العزلة بين الكتاب والقراء – التي بدأت في الذوبان حاليا – سببها كتّاب نظروا إلى الفن نظرة خاطئة، وترفعوا على القارئ، متهمين إياه بضحالة الثقافة وربما الغباء والغفلة أحيانا، ثم أبدعوا كتابات لا ترقى إلى أي مستوى فني، فأهدروا الكثير من الأوراق والأحبار في طبعات هي إلى الآن حبيسة المخازن، لا يفكر حتى أصحاب مطاعم الفول والطعمية في شرائها للف الساندويتشات فيها، وهؤلاء كان الأولى بهم أن يكتبوا لأنفسهم ثم يقرأوا ما كتبوه أمام المرآة بصوت عال فقط، بدلا من كل هذه الكوارث التي حملوها للعالم.
الكاتب الذي يكتب وفقا لمعطيات السوق كاتب لا يحترم نفسه ولا إبداعه، لكن في الوقت نفسه الكاتب الذي يتعالى على القارئ هو كاتب غبي، وطوال تاريخ الفن لم يخلد إلا من يستطيع حل المعادلة، فيحافظ على رقي ما يبدعه، مع وعيه الكامل بالمشترك الإنساني الذي يجب ان يضع يده عليه.
هذا لا ينفي وجود كتاب يكتبون فقط لجمهور معين، بوصفات جاهزة، واضعين في اعتبارهم أرقام المبيعات والأرباح والترجمة وتحول العمل إلى فيلم ثم مسلسل، وهكذا، وهؤلاء جمهورهم معروف سواء في الداخل أو الخارج، وتصنيفهم أيضا معروف، وهم لا يمثلون واجهة للأدب العربي بأي حال.
القارئ مع كاتبه، مثل صاحب البيت الذي لا يعجبه سلوك المستأجرين، مثل حماة تتصيد أخطاء زوجة ابنها لتنهرها.. لماذا كتبت هذا الإهداء، ألا تعلم أن الروايات تكون أفضل كثيرا من دون إهداءات؟ هل الشخصية الرئيسية في الرواية تعبر عنك؟ ألم تجد مصيرا أفضل لبطلك من الموت في بداية الرواية؟ هل الأحداث التي ذكرتها في روايتك الأخيرة حقيقية؟
القارئ الآن من أجمل الأشياء في الحياة، هذا الذي يخرج من بيته ويركب المواصلات ليحضر حفل توقيع، أو يشارك في ندوة، أو حتى ليشتري الكتاب، هذا القارئ لم يكن موجودا لدينا قبل سنوات، وقد ظهر مع جيل الكتابة الحالي، كأننا وقعنا عقدا مشتركا أننا سنكتب وأنه سيقرأ، لكن على الجانب الآخر هناك سؤال مهم: أين الناقد الأدبي؟ هل لدينا شخص ما بهذه الصفة؟ غالبا لا يوجد، لدينا الكثير جدا من الكتاب، وأكثر منهم بكثير من القراء، لكن السادة النقاد اختفوا في ظروف غامضة، لدينا نقاد كبار يتعاملون على أنهم كبار، وهؤلاء لا يعرفهم أحد ولا يعرفون أحدا، وكلما سألت واحدا منهم يقول لك: “والله أنا مهتم إني أتابع الحاجات اللي الشباب بيعملوها بس للأسف عندي مشغوليات”، ولدينا نقاد أصغر قليلا، منهم من يقبع داخل كليته، ومنهم من يحمل حقيبته ويدور بها من ندوة إلى ندوة إلى مؤتمر إلى مهرجان، ولدينا نقاد شباب مازالوا يحاولون، وفي النهاية لن تخرج سوى بأربعة أو خمسة نقاد محترمين من كل الأجيال، يقع عليهم عبء متابعة كل هذا الكم الهائل من الإصدارات، وهذا مستحيل طبعا.
وإذا كان أحد أهم أدوار النقد هو الربط بين القارئ والنص، فإن القارئ الآن استغنى عن هذا الدور، واستطاع امتلاك الوعي الذي يربطه بالنص مباشرة دون وسيط، وهذا يحسب للنص وللقارئ معا، وهذا وضع لن يتغير إلا حين يثبت لنا نقادنا الأعزاء أن لديهم شيئا جديدا يقولونه.
الكاتب يكتب عن الحياة، تلك التي لا يرضى عنها أحد، يكتب عن الأشجار المورقة، بالوعات المجاري، سيارات الأجرة، سلالم البنايات العالية، الظلام، الرصيف، البهجة، الشحاذين، فتيات المحلات الفقيرة، عن المقاهي، زنا المحارم، الأنهار، العطارين، الجامعات، أمراض القلب، الحشرات، الشيزوفرينيا، المطاعم، الجبال، الأصدقاء، فتيات الليل، الشقق الكئيبة، المخدرات، الشاي، السجون، القبعات، الكاتب يكتب عن كل الأشياء التي يكرهها القارئ، وفي النهاية يطلب منه تعاطفا ما، رغم أن التعاطف وحده ليس كافيا.
هناك قضية في منتهى الأهمية لابد من توضيحها، لأنها تضعنا أمام إشكالية غريبة: إذا كان المتر هو وحدة قياس الطول، والكيلو جرام هو وحدة قياس الوزن، والدرجة المئوية هي وحدة قياس الحرارة، فما هي وحدة قياس الرواية؟ مؤكد أنها ليست “الشبر”، ولا عدد الصفحات. الرواية الجيدة معيارها الوحيد هو كونها رواية جيدة، وهذا غير مرتبط بطولها ولا عرضها ولا عدد الساعات اللازمة لقراءتها، هل العجوز والبحر رواية أم ليست رواية؟ الغريب؟ المسخ؟ وردية ليل؟ ليس لدى الكولونيل من يكاتبه؟ الحرير؟ سيد هارتا؟ وغيرها العشرات من الروايات التي شكلت تاريخ الأدب في العالم دون أن يتجاوز عدد صفحاتها الـ 150 أو الـ 200 صفحة، أي معيار لتقييم الأدب من خارج التجربة الفنية لامجال له هنا. وإذا كان الإبداع يقاس بالحجم فإن محاضر اجتماعات المجالس المحلية جديرة بالحصول على جائزة نوبل.
وهناك من يرى أن الكتابات الجديدة تفعل مثل الأفلام السنيمائية الاستهلاكية، تحاول استرضاء الجمهور حتى يتحقق لها النجاح والرواج، لكن حتى الأفلام، لا ينجح منها يريده الجمهور، في الحقيقة الجمهور لا يريد شيئا بعينه، كل ما يريده هو الفن الحقيقي الذي يستطيع التواصل معه، ليس هناك شروط أكثر، لكن في الفترات التي يختفي فيها هذا الفن الحقيقي، تظهر الأنواع الاستهلاكية، وهذه رغم الإقبال الكبير عليها لا يريدها الجمهور، وإنما يسلي نفسه بها في انتظار الفن الحقيقي، وحين يظهر يذهب الجميع إليه مختارا، لكن المشكلة في المبدعين الذين يعتقدون أن الجمهور يحب الاستسهال والسطحية والمباشرة، فيتخلون عن الفن لصالح مجد زائف، فيخسرون كل شيء، الجمهور أكثر وعيا مما نتخيل، ويفرّق بمنتهى السهولة بين العملتين الجيدة والرديئة. فكل القراء الذين يقبلون على الروايات السطحية التي تحقق مبيعات فلكية يعرفون تماما أنهم أمام روايات سطحية. هذه نقطة، والنقطة الأخرى أن الكاتب الذي يبحث عن الشهرة لديه قصور في التفكير، فيمكنه أن يمثل أو يغني أو يلعب كرة قدم أو حتى يرشح نفسه لمجلس الشعب، ففي كل هذه الأحوال سيحقق شهرة أكبر كثيرا ومن غير وجع دماغ.
لا أحد على وجه الدقة يعلم، هل الرواية هي الحقيقة، أم أنها كتاب لتفسير الأحلام، أو وصفة شعبية لعلاج أمراض الجسد والروح في آن واحد، رواية لنزلات البرد، وأخرى لعلاج الصرع، وثالثة لسرطان الثدي، ورابعة للاكتئاب.. ممنوع صرف الدواء إلا بأمر الطبيب، ولدواعي الاستعمال انظر النشرة الداخلية.
من يدعي أن الجيل الجديد من الكتاب اكتفوا بصنع ضجة مثلا، أو أنهم لم يفعلوا شيئا أو يؤثروا في الواقع، فهذا شخص لا يرى ما تحت عينيه، فحسب التقسيم الشائع ظهر هذا الجيل مع بداية عام 2000 ، في عقد من أهم العقود في تاريخ مصر والعالم، كل شيء يتغير، الناس والثقافة والوعي وحتى طبائع الأشياء، وهذا الجيل محظوظ أنه جاء وسط كل هذه التغيرات، لكن ليس هناك أدنى شك في انه يشارك فيها ويصنعها، بل ويقودها، وهذا كلام نهائي، وعلى من يقول العكس، أن يثبت صحة كلامه.
ـــــــــــــــ
* روائي مصري
خاص الكتابة
اقرأ أيضا