فى تقديرى، وقد قرأت جهد محمد العدوى، وهو كبير ويستحق الإحترام، أن رواية “الرئيس” كان يمكن أن تكون عملا هاما وكبيرا بحجم بطلها القديم الفيلسوف، وبحجم أرق بطلها الحديث (المؤلف نفسه)، الباحث عن التاريخ لكى يضع قدما ثابتة فى الحاضر، ولكى ينطلق الى المستقبل، إلا أن حمولة الفكر كانت أثقل من سفينة الفن، سيدهشك العدوى بأفكاره، وقلقه الحضارى إذا جاز هذا التعبير، لم أقرأ شيئا كهذا الهم والإنشغال الإيجابى بالأنا وبالآخر، بالمالك وبالملكوت، ولكنك لن تستغرق وقتا لكى تكتشف أن الحوارات والمساجلات الفكرية الطويلة أثقلت الرحلة، وأن صوت الراوى (وهو المؤلف نفسه) اكتسح كل الأصوات، وأصبح يعلو عليها، رغم أن الراوى أثبت فى بعض الصفحات أنه يستطيع، إذا أراد، أن يستعير ببراعة أصواتا أخرى، يضاف الى ذلك هذا الإنشطار الذى تعاني منه الرواية بين رحلة المؤلف الى إيران (وهى رحلة ممتعة فى حد ذاتها) وما كتبه عن حياة ابن سينا نفسه ( والتى ستبدأ من الصفحة 230 فى رواية عدد صفحاتها 411 صفحة)، دون أن تتداخل الحياتان، مثلما تحقق فى روايات كثيرة هامة وناضجة، ربما أشهرها رواية “قواعد العشق الأربعون” للتركية إليف شافاق، التى تستعرض ببراعة وفهم مغزى تحول جلال الدين الرومى بعد أن التقى شمس التبريزى، وهى بالمناسبة رواية شخصية وأفكار معا، تماما مثل رواية “الرئيس”.
محمد بطل رواية “الرئيس” حلم ذات يوم بالفيلسوف الطبيب الشهير، الحلم رائع رغم أننا لا نعرف لماذا ارتبط الراوى بالشيخ الرئيس بالذات، المهم أنه استعار اسمه ليكون عنوانه الإليكترونى، يتعرف محمد طالب الطب عبر الشبكة الدولية على أستاذة عراقية متخصصة فى التاريخ، يتبادل معها مناقشات طويلة، تزوره فى مصر، يتبادل معها مناقشات أطول، ثم تعرّفه على أستاذة مصرية يعمل زوجها الإيرانى أستاذا للأدب العربى بجامعة طهران، يرفض الأمن السماح للشاب المصرى بالسفر فى عهد مبارك، ولكن بعد ثورة يناير ، وبعد تخرج محمد من كلية الطب، يحصل أخيرا على تأشيرة للسفر الى إيران، يزور قبر ابن سينا، يحاول أن يستلهم رواية عنه، محمد مشغول بأسئلة كثيرة، أهمها اكتشاف الحلقة المفقودة التى أدت الى تراجع الحضارة الإسلامية، ابن سينا أحد أكبر تجليات هذه الحضارة، ربما تكون زيارات محمد السياحية لمتاحف إيران جزءا من هذا التجلى بأثر رجعى، أخيرا سيكتب نصا عن ابن سينا يراه فيه أقرب ما يكون الى الفقهاء أو المتصوفة، هناك خط واضح نتبينه بالكاد هو علاقة ابن سينا بالسلطان، متى يقترب العالم والفيلسوف ومتى يبتعد؟ تظهر جارية ابن سينا وحبيبته ورد، نتوقف عند سجن الشيخ الرئيس وهروبه ومرضه ثم وفاته، المؤلف حر بالتأكيد فى أن يفهم الشخصية كيفما شاء، وهو حر فى أن يرى أن كتابات ابن سينا تستحق الإجماع وليس الجدل الذى وصل فيما بعد الى اتهامه بالكفر، ولكن ظل هذا الفهم منقطع الصلة بالتأملات والحوارات المتواصلة فى نصف الرواية الأول، أصبح لدينا شاب مصرى قلق، وفيلسوف وطبيب عظيم عثر على كل الإجابات تقريبا، أين طمأنينة النص من تلك العبارة الى تتصدر الرواية بأكملها، والمنسوبة للحسن بن الهيثم :” فطالب الحق ليس هو الناظر فى كتب المتقدمين، المسترسل مع طبعه فى حُسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم، المتوقف فيما يفهمه عنهم، المتبع الحجة والبرهان لأقوال القائل الذى هو إنسان”؟ يمكن أن تقرأ رحلة محمد الى إيران منفصلة عن قصة ابن سينا، هذا إذا لم تكن قد نسيته أصلا قبل وصولك الى الصفحة رقم 230، وبالتأكيد لايكفى أن تعطى للمقاطع وللفصول عناوين بالفارسية لكى تسرد حكاية متماسكة، ولكى تكون الفكرة متسقة بداية ووسطا ونهاية.
محمد العدوى موهوب وطموح، لديه إحساس رائع الطبيعة وقدرة على وصفها، روحه شفافة، ويمتلك أفكارا هامة عن التاريخ والحضارة الإسلامية، وكذلك عن العلاقة بالخالق وبالكون، سكبها جميعا فى الرواية، وكأنها كتابته الأخيرة، هناك أمثلة كثيرة لاستطرادات وتعليقات لا تتوقف :” أدوّن فى مفكرتى: ليست الجماعات الفكرية المسلحة بدعا فى حياتنا، ليست سوى امتداد أصيل من تاريخنا الذى لانعرفه، وربما إن بحثتُ أكثر أجدُها إحدى لوازم الدنيا فى كل مجتمع وزمان” . لم نكتشف فى نهاية الرحلة أسباب الصعود والإنحدار للحضارة الإسلامية، كان ابن سينا عبقريا وفلتة، لم تختلف النظم السلطوية فى زمنه شيئا عن عصرنا الحالى، وربما كانت أسوأ كثيرا، كان زمنه أيضا عصر فرقة وحروب وفتن، ومع ذلك فقد أنتج عشرات المؤلفات فى الفلسفة والطب والموسيقى، صورة ابن سينا فى الرواية كالرجل المعلق فى الهواء، الذى استخدمه الشيخ الرئيس للبرهنة على وجود النفس، نتيجة منفصلة ومستقلة عن مقدماتها، رواية الأفكار شديدة الصعوبة، وتحتاج الى تقنية أعلى، وخبرة أكبر فى السرد والبناء، ليست مشكلة رواية “الرئيس” فى أنها تحكى عن مؤلفها بقدر ما تحكى عن ابن سينا، مشكلتها أن الحبّات الثمينة لم تشكل عقدا واحدا، لم تعد الرواية بوابة ذهبية لنقل الأفكار كما يقول صديق الراوى، ولكنها أصبحت إطارا مزخرفا للأفكار التى تصرخ وتعلن عن نفسها بأعلى الأصوات.