محمد الفخراني
رجل اللا مبالاة الأول، غير مهتم.
ولا يهتم بفكرة الآخرين عنه أو رأيهم به، هو مزيج خاص من الجديَّة والهَزْل، فلا تعرف إنْ كان مسموح لك بالمزاح معه، أم مطلوب منك أن تعامله بجديَّة تامة، أيًّا كان، لن تعرف ما سيعجبه فى الحالتين، المؤكَّد أنه لا يريد إلا أن تتركه فى حاله، وتكون فى حالك، ومن الأفضل لك أن تلاحظ هذا من البداية، فالدُبُّ غير مهتم أصلاً، غير مبال، كيف لم تلاحظ؟
الدُبّ، فى مِشْيَتِه تلك المُتأنِّيَة، مزيج من الهَزْل والرصانة، يمكنها بسهولة أن تجعلك تبتسم، وبسهولة يمكنها أن تَبثّ فى نَفْسك رهبة صغيرة، ظِلاً من رهبة وحذَر، مِشْيَة بها حِسّ ساخر وتحذيرى، وفى الوقت نفسه بها شىء من رقص له إيقاع ثقيل متأن، أو حتى خِفَّة تَخُصُّه، كأن الدُبّ يمشى فى حلم، حلمه الخاص، غموضه الخاص، وظِلاله.
هى مِشْيَة رجل عصابات عتيد، غير مبال، وفى الوقت نفسه مِشْيَة رجل عائلة غير مُتعجِّل، طيِّب، بَيْتُوتى، هو فقط ذاهب إلى السوق ليجلب شيئًا لتأكله عائلته، يلبس أىّ بيچامة مخطَّطَة أو تى شيرت مُهَلْهل ويخرج للسوق أو السوبر ماركت أو المَخبَز أو أيًّا كان، لا يهمّ.
عيناه الغامقتان المُظَلَّلَتان بما هو غير معروف، لهما ظلالهما الخاصة، فلا تعرف ما فى نَفْسه، ما يَنْويه، أو إنْ كان يَنوى شيئًا بالأساس، لا تعرف ما تَعنيه نظرة عينيه، أو إنْ كان ينظر أم يفعل شيئًا آخر، أو حتى لا يفعل، عينان هما مزيج غامق من غموض رجل العصابات وإجرامه، وبساطة رجل العائلة وطِيبَتِه.
يشرب العسل ويشرب الدم، يأكل أوراق الشجر ويأكل اللحم الحىّ، ما يليق برجل عصابات هو نفسه رجل عائلة، أو رجل عائلة هو نفسه رجل عصابات.
يبدو وكأن أىّ قطة يمكنها أن تخطف منه طعامه، وفى نفس الوقت يبدو وكأن أىّ وحش لا يمكنه حتى أن يقترب من طعام الدُبّ.
رجل اللا خِطَّة.
لا يهمّ متى ينتقل من حالة إلى أخرى، لا يُخَطِّط، تفكيره هو تفكير اللحظة، بلا تمهيد، تطلع فى دماغه أو تنزل فيفعلها، لا خطة لديه، وفى نفس الوقت تمضى حياته بأفضل ممّا لو أن لديه أفضل خطة، تشعر أنه رجل يعتمد على الصدفة، وفى الوقت نفسه يبدو كأنه يعرف ما يريده بالضبط، يبدو كغافل سيقع فى أول فخّ تافه يصادفه، وفى نفس الوقت كداهية يعرف كل الفخاخ حتى قبل أن يصل إليها، يبدو وكأنه لا يعرف أين تكون الأشياء، وفى الوقت نفسه يبدو كمن يعرف أين يَكْمُن كل شىء، بما فيها الأشياء التى لا يعرف أحد مَكْمَنها.
لو أنه بشرىّ لكان رجلاً فى بداية الخمسين، غير مهتم بمظهره، لا يحب أن يكون مرؤوسًا لأحد، يَخرج كل يوم ليُلقِّط رزقه من أىّ مكان، بأىّ شغلانة عابرة، لا يهمّ نوع الوجبة، كأنه لا يعرف أنَّ هناك غد، أو أنه غير مهتم، كأنه واثق أن رزق الغد قادم لا محالة، أو أنه غير مهتم، كأنه غير مهتم بأن يموت جوعًا، أو أنه يعرف أنه لن يموت جوعًا.
لكن.. إحذَر أن تسخر من هذا اللا مبالى غير المهتم بمظهره، تلك المِشْيَة، وهذا الجسم، يمكنك أن تعتبر ما تراه عضلات رجل العصابات، أو تعتبره دهونًا زائدة لرجل العائلة، لكنك ستكون متأكدًا أن له كَفّ ذات قوة هائلة، تُطيح بك.. احْذَر.
فى الحب، سيكون رجلاً كلاسيكيًّا، يَعتبر أن الحب أفعال وليس كلامًا، وأفعاله ذات أطياف متعددة من أصغر شىء لأكبر شىء، تبدأ من أن يشترى لها الآيس كريم حتى التَبَرُّع لها بقلبه.
الدُبّ رجل مُحِبّ مُخْلِص، ولن يهتم أن يَصِفَه البعض (من وراء ظهره) أنه مُخْلِص حَدّ السذاجة، هو يسخر من تفكيرهم الخايب بأن هناك علاقة بين الحب المُخْلِص والسذاجة، لكنه غير مهتم حتى بأن يقول لهم رأيه فى رأيهم، أو أن يُظْهِر لهم سخريته، هى واضحة لهم على أىّ حال، ولا مبالاته بهم يعرفونها، ووقت اللزوم سيستعمل يده الباطشة.. يعرفون هذا أيضًا.
فقط حبيبته التى يشترى لها الآيس كريم ويتبرَّع لها بقلبه.. هذه الحبيبة عليها أن تَحْذَر غَضَبه.
وحبيبته هنا هى بالضرورة زوجته، وزوجته هى بالضرورة حبيبته، الدُبُّ لا يُضيِّع وقته فى غراميات اللفّ والدوران، إذا أحَبَّ تَزَوَّج فورًا، وإذا تَزَوَّج لا يرى إلا زوجته.
يمكنك أن تتخيَّله جالسًا وسط عائلته على سجادة وافرة فى صالة بيته، وبيده طبق فيشار كبير، يُقَهقه على شىء بسيط فى التليفزيون، ربما يشاهده للمرة الألف، ومن وقت لآخر يرفع رُكْبَتَه ليُطْلِق ريحًا قوية ويقهقه ومعه مَنْ حوله، يمكنك أن تتخيَّله فى الفناء الخلفى لبيته، نَفْس البيت، وهو يُشْرِف على تَقطيع أصابع أحد رجال عصابته، أو تقليع أظافره، لأنه تَصَرَّفَ بشكل خاطئ فى شىء تافه.
تَخَيَّله فى حديقة بيته نفسها وقت الغداء، لابِسًا مريلة مطبخ، وعلى رأسه كاب طويل لطبَّاخ، وحوله أبناؤه وأبناء إخوته، يشوى لهم لحمًا خفيفًا، ويُجَهِّز سندويتشات، وتَخَيَّله فى نفس المكان بعد منتصف الليل وهو يُشْرِف على سَلْق أحد خصومه أو تقطيعه.
لا يهتم بالوقت، سيَخرج ليلاً يبحث عن سندويتش أو قرص عسل، سيخرج صباحًا يبحث عن سمكة حَيَّة أو حفنة من أوراق الأشجار.. لا يهمّ.
لا يمكنك أن تعرف أىّ الشخصيتين سيستعملهما معك فى أىّ لحظة، رجل العصابات أم رجل العائلة، لأنهما متناغمتان فيه بشكل بديع، لا يمكنك فصلهما عن بعضهما.
ليس مهتمًا أن يبدو غامضًا أو مكشوفًا لأحد، يتصرَّف وكأن لا أحد فى العالم غيره، لكن دون غرور أو شعور بالذات، فقط هو فى حاله، مع ذاته، وكأن لا شىء فى العالم غير الفكرة التى فى رأسه، والتى بالمناسبة، يبدو أنه غير مبالٍ بها، فى الوقت نفسه يبدو أنه لا يفكر فى شىء غيرها، أو أنه أصلاً غير مبال بأن يفكر فى شىء، ولا أىّ فكرة، الدُبُّ.. أنت يا رجل العصابات، يا رجل العائلة.
وعندما يجرى، كأنه يطير كله كتلة واحدة فى الهواء ثم يهبط على الأرض فى حركتَيْن متناغمتَيْن بين قدميه الأماميتين والخلفيتين، يمكنك أن تشعر بخفَّةِ هذه الكتلة وثِقَلِها معًا، كأنها رشاقةُ الثِقَل، أو ثِقَلُ الرشاقة، كأن الرشاقة تؤكِّد بنفسها أن لها وجهًا آخَر غير الخِفَّة والسرعة.
وكأنه، الدُبّ، يجرى داخل حلمك أنت نَفْسَك، أو يجرى داخل حلمه، أو بأسلوب جَرْيِه يبدو كحلم يتحرك أمامك، كأنه ليس حقيقيًّا، عندما يكون فى الهواء أثناء جَرْيه يبدو كحلم، وعندما يَحُطُّ على الأرض يصير حقيقيًّا، هذه الحركة التى نِصْفها حُلمى ونِصْفها حقيقى، تبدو مُرْبِكة مخيفة وتستدعى الابتسام أيضًا.
هو غير مُتَعَجِّل أبدًا، ما الداعى؟ له إيقاعه ووقته الخاص، كأن الوقت لا يعنيه، تشعر معه أن الوقت مُمْتَد فعلاً، كأنه يستغرق اليوم كله فى الذهاب إلى مشواره، لكنه لا يحتاج غير دقيقة واحدة ليُنْجِز الأمر، بينما يَصِل الآخرون المُتَعَجِّلون قَبْله، لكنهم يستغرقون ساعات لإنجاز الأمر، الدُبّ يفعل العكس، يستغرق ساعات فى الوصول، ويحتاج دقيقة أو أقل لإنجاز الأمر مهما كانت صعوبته، هو رجل العصابات العتيد، رجل العائلة الخبير.
يفعل الأشياء بشىء من ارتباك خفيف، هكذا يبدو، لكن بعد التدقيق نكتشف أنه ماهر فيما يفعله، مثل شخص يعرف وحده سِرّ الصَّنْعَة ويُمَوِّه ببعض الحركات حتى لا يعرف أحدٌ السرّ، أو أنه بالأساس غير مهتم كيف يبدو، لا يهتم إنْ كان يفعل ما يفعله بأناقة أو فوضى أو غيره، لكن فى النهاية والمؤكَّد، أن له أسلوبه الخاص، حتى دون أن يقصد.
يبدو الدُبُّ فى إنجازه للأمور مثل شخص يمسك بقنبلة يعرف وحده سِرّ تفكيكها، لكنه يفعل هذا بطريقة يبدو فيها مُتَعثرًا، فتشعر أن القنبلة ستنفجر فى أىّ لحظة، لكنه فجأة ودون مُقدِّمات يُفَكِّك القنبلة ويتركها ويمضى، دون أن يلتفت، كأنه لم يفعل شيئًا، لا يريد “شكرًا” أو إعجابًا او اهتمامًا من أحد، لا يهمّ.. لا يهتم ولا يبالى.
يبدو كشخص إذا غضِبَ فلن تعرف متى يهدأ، وإذا ضحك فلا تعرف متى يسكت، وإذا يأكل فلن تعرف متى يشبع، وإذا يمشى فلا تعرف متى يتوقف، وإذا ينام فلا تعرف متى يستيقظ، وإذا يلعْبَ فلا تعرف متى ينتهى، وإذا انتهى فلا تعرف متى يبدأ، وإذا “كذا” فلا تعرف متى “كذا” المُقابِلَة لها.. الدُبّ لا يهتم.. ولا يبالى.
الدُبّ، يمشى فى طريق خاص بين الوهمى والحقيقى، ويعيش بغريزة مِن لا مبالاة ظريفة.