الدكتور محمد رياض وحضارة وادي النيل

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. حمدي هاشم

تعود معرفتي بالرائد الدكتور “محمد رياض” أستاذ الجغرافية البشرية بجامعة عين شمس، إلى تسعينيات القرن الماضي، عندما ذهبت لأستاذي (في مرحلة الماجستير) الدكتور محمد محمود الديب رئيس قسم الجغرافية، حينذاك، وكان يقف متألقاً بالغرفة المتاخمة، فظننته لوهلة من هيبته وطريقته كالذي يجيد الإنجليزية أكثر من اللغة الأم زائراً من جامعة غير عربية، وفقدت من وميض اللقطة من كانوا حوله، بينما لم تغادرني أفكاره الثائرة والمكاشفة لتأخر المدرسة الجغرافية عن مواكبة التطور المطلوب، ودعوة مبكرة لانخراط الجغرافيين في منظومة ضبط إيقاع السياسات الحكومية والتخطيط العمراني في مصر.

نشأت علاقة وثيقة، خلال المرحلة الجامعية، بين رياض وأستاذه الدكتور “محمد عوض محمد”، العلامة الجغرافي متعدد المواهب، وبصيرة نافذة في إنشاء معهد الدراسات السودانية (جامعة فؤاد الأول ـ جامعة القاهرة حالياً)، وانضم أستاذاً فيه ومديراً له (1950). وقبل ذلك شغله تأليف كتاب “سكان هذا الكوكب” (1936)، فكانت حالة سكان مصر من تكاثرهم بسرعة لا يقابلها التزايد في الموارد بالقدر ذاته. ولاحقته أسئلة عن مسألة التدريس بالأفكار المجتمعية الإصلاحية؟ وهل العلاقة بين الزوجين تؤثر في السكان؟ وذلك عند تبنيه قضية تحديد النسل وتنظيم الأسرة، من المنظور الجغرافي للأثر الاقتصادي والصحي (وربما الديني)، ليدق بذلك ناقوس الخطر مبكراً حول هذه القضية ذات الأهمية البالغة للتنمية المتوازنة، وكان بذلك رسولاً لتنبيه الحكومة نحو الأولية في توجيه جميع الجهود نحو المشكلة السكانية!

ومما يستحق الذكر، أن الرائد الدكتور محمد عوض (1) من أعضاء جماعة الرواد (تأسست عام 1929)، ومعه من الجغرافيين الرائدين الدكتور سليمان حزين (2)، والدكتور عباس عمار، وجميعهم من الشخصيات المفكرة القوية في مجالات متنوعة. وقد تأثر الرواد الأوائل بالحركة الفابية (ظهرت في بريطانيا سنة 1883)، المشغولة بالإصلاح الاجتماعي وتوجيه التشريع الاجتماعي، وذلك خلال سنوات ابتعاثهم من قبل الحكومة لاستكمال دراستهم العليا في إنجلترا. ويعد الرائد أحمد حسنين باشا (الرحالة الجغرافي) المؤسس الرئيس لهذه الجماعة المستقلة (غير الحزبية)، والذين اختاروا شعارهم المستدام “قوة الوطن في قوة الفرد فلنبدأ بأنفسنا” (3)، ومنهم من تقلد ومرشحيهم مناصب وزارية. ونتيجة لما قدمه حسنين باشا من رؤية سياسية مستقلة لمصر، كان لجماعة الرواد دور هام في تشكيل الحياة السياسية بعد ثورة 23 يوليو (1952). وكانت ورقة الرائد الدكتور محمد عوض عن واجب الحكومة نحو الفرد ونحو الإصلاح الاجتماعي! وللرواد ميزة الاهتمام بالطبقات الأقل حظاً من خلال محلاتهم الموجودة بالأحياء الفقيرة.

يكبر رياض (مواليد سبتمبر 1927) “جمال حمدان” بنحو خمسة شهور ميلادية، وهما ينتميان لنفس المرحلة الزمنية والأفكار لإحداث تغيير جذري  في بنية المجتمع، ولكنهما اختلفا حول فكرة نقل العاصمة السياسية، ليرى الأول في نقلها تخفيف للضغط على القاهرة والبنية التحتية، وتعزيز دور الوظيفة الثقافية والسياحية (وربما استلهمت الحكومة منه فصل العاصمة الإدارية والمالية)، بينما تشخيص الثاني ليس في نقل العاصمة بل ضبط العاصمة، لأن ما تحتاجه مصر ليس عاصمة جديدة بل خريطة جديدة، بدلالة معاناة العواصم الجديدة من مشكلات خانقة وصعوبات عديدة، ويبقى الحل في إنشاء عواصم توازن بالأقاليم، وأن تظل القاهرة عاصمة مصر السياسية. ولا يختلفان حول الدعوة الإصلاحية في نشر الحرية والثقافة الجغرافية بين الجماهير، من أجل قوة الدولة المصرية ومستقبلها في المنطقة العربية!

وفي نفس المرحلة الزمنية، الدكتور صبحي عبد الحكيم (رئيس لجنة مناقشتي في الماجستير، والمشرف على رسالتي للدكتوراة)، ومعهم الدكتور صفي الدين أبو العز، الذي يصغرهم بنحو عام ميلادي، وكلهم في قائمة الرواد من الأستاذة الجغرافيين، التي يتصدرها الدكتور “سليمان حزين”، رائد الجغرافية الحضارية، وموثق أصل الحضارة العربية في الركن الجنوبي الغربي (اليمن) وليس الشمال من شبه الجزيرة العربية، ولا يدركنا الوقت هنا للمزيد. وكان تخصص الدكتور محمد رياض وراء ذلك الثراء الفكري المتقاطع مع كثير من المعارف والعلوم الكثيرة الأخرى، مما أهله لشهرة مستحقة في مجال الثقافة الجغرافية بمشاركاته الإعلامية وكتاباته العلمية في جريدة الأهرام وغيرها. ونذكر سفره مندوباً عن وكالة أنباء الشرق الأوسط إلى “زائير” وحوار صحفي مع الزعيم “لومومبا”، أيقونة الفكر التحرري في أفريقيا. ومن الثابت اهتمام الدكتور رياض بالقضايا الأفريقية والشأن الأفريقي منذ تخرج من الجامعة.

دلف بثقة من بوابة الحضارة للمشاركة في مسئولية التقدم والارتقاء بالمجتمع، فاختار الإنسان مرشده في الدرب الجغرافي، ذلك الذي تبعه مكانياً وتتبع علاقاته المتشابكة مع البيئة المحيطة، ليتخصص رياض في الجغرافية البشرية بعد حصوله الليسانس (1949) ودبلوم معهد الدراسات السودانية، ليصبح معيداً بتزكية أستاذه الدكتور “محمد عوض” مدير المعهد، حينذاك (1951)، ثم ابتعاثه من جامعة القاهرة إلى كلية الفلسفة بجامعة فيينا لنيل درجة الدكتوراة (1956) وموضوعها النظام الملكي المقدس عند قبيلة الشلك وأصله: دراسة أنثروبولوجية، ليتفرد الدكتور رياض في جغرافية حضارة وادي النيل. وقصد بعد ذلك جامعة عين شمس ليشغل درجة مدرس مساعد في قسم الجغرافية، وتتدرج فيها إلى الأستاذية التي شرفت به، واتحدت كل الأفلاك الحياتية لأن يلمع نجمه في مصر والعالم العربي.

لا شك من تقاطع الأنثروبولوجيا في مجالات متعددة مع علم الجغرافية بجناحيه الطبيعي والبشري، حيث لا تتشابه المجتمعات البشرية وأحوالها المعيشية، وبناها الاجتماعية، لتباين الظروف الجغرافية التي سكنتها وانخرطت فيها تلك المجتمعات من خلال مراحل زمنية طويلة، وأن لاختلاف الخصائص الطبيعية في مختلف البيئات الجغرافية آثار بيئية على خصائص السكان بالمناطق المتنوعة، من حيث السلوكيات والعادات والتقاليد والأعراف ونظام الحكم والدفاع أو الهجوم لأسباب عسكرية وغير ذلك.

اختيار في مملكة الشلك (موضوع الدكتوراة)، التي تمركزت على ضفاف النهر في جنوبي السودان، وتميزت حضارتها في شتى مناحي الحياة للارتقاء بالإنسان، مما جعلها تأخذ هيبة الأمة خلال القرن الرابع عشر، وترتبط هذه المملكة من واقع العلاقات المكانية بالممالك النوبية القديمة في شمالي السودان، بل تجد كثير من الصفات السائدة في التشابه الحضاري بين مملكتي الشلك والنوبة. وتلازمت الدراسات المعمقة للدكتور رياض في جغرافية الحضارة السودانية وجنوبي مصر (وادي النيل)، برحلات ميدانية مع رفيقة دربه الأستاذة الدكتورة كوثر عبد الرسول ـ رحمهما الله ـ لبحث وتوثيق منطقة النوبة قبل تهجير النوبيين منها، خلال عامي (1962 ـ 1963)، والتي شكلت المادة العلمية لكتابهما (رحلة في زمان النوبة) (4)، الذي يعد من أهم المراجع عن جغرافية حضارة النوبة. ولقد حضرت لهما العرض الوثائقي لهذه الرحلات البحثية الثلاثة في محاضرات الموسم الثقافي بمقر الجمعية الجغرافية المصرية (5).

وليس بغريب على جغرافي ينهض بهذا التنوع الشديد، وفكر شمولي موسوعي، إلا التميز في النشاط الأكاديمي ـ بالجامعات المصرية والعربية ـ والريادة بأبحاثه في معالم الهوية الوطنية وتوكيدها، وتحليل المشكلات التنموية ومسائل الاستراتيجية الجغرافية، شديدة الصلة بالواقع المصري والأفريقي ومنطقة الشرق الأوسط، وتبنيه الحلول الواقعية والجذرية، واستشرافه مشروع تنمية محور قناة السويس الأكثر فاعلية للاقتصاد المصري، على أسس صناعية وتجارية. ناهيك عن مشاركته في العديد من المؤتمرات الدولية في الجغرافية والأنثروبولوجيا في: أمريكا، بريطانيا، فرنسا، كندا، والنمسا، ثم حصوله جائزة الدولة التقديرية للعلوم الاجتماعية (2017) (6). وسيبقى الأستاذ الدكتور محمد رياض، بعلمه الغزير متعدد الجوانب، رائداً في جغرافية حضارة وادي النيل، ومفكراً إصلاحياً للنهوض بالجمعية الجغرافية المصرية والثقافة الجغرافية، وبصمة لا تغيب عن الحقل الجغرافي في العلم والمعرفة.

وكثيرا ما كان الدكتور “محمد رياض” يصحبني في سيارته المرسيدس السوداء، ومعه الدكتور محمد الديب والدكتور فاروق عز الدين، في رحلة العودة بمسار مصر الجديدة وصولاً إلى مدينة نصر، وذلك عقب كثير من فاعليات لجنة الجغرافية بالمجلس الأعلى للثقافة، قبل اختياري عضواً في هذه اللجنة المتميزة، وكان قدوتي في كتابة المقالات في التنمية والبيئة ونشر الثقافة الجغرافية، ولقد خصني بمشاركة مضيئة في كتاب عن سيرتي الذاتية، وعنوانها:

الجغرافي والعمل المهني (7)

د. محمد رياض

أعرف أنهُ طموح عن حق، وأنهُ نشط في علاقات كثيرة، يجب على الجغرافي الممتاز أن يتبناها ليدخل الجغرافي مجالات العمل البنيوي، وليس التخطيطي فقط. وحسب ما أتذكر من قراءة لأنشطتهِ وأعمالهِ، ومنشوراتهِ الجغرافية، وتلك المشارِكَةِ في مؤسسات تخطيطية مصرية، هي في الواقع شهادة لهُ، بدأبه وبمواصلة البحث، والتحري الميداني والمكتبي، بعد الدكتوراه، على عكس البعض، الذين يتباطئون، إلا عند ما يحين موعد الترقيات.

عرفت الدكتور حمدي عن قرب، أثناء بحثهِ للدكتوراه، وفى اجتماعات لجنة الجغرافيا بالمجلس الأعلى للثقافة، وكان كذلك متحدثاً في بعض ندوات لجنة الجغرافيا، ومشارك بتعقيباتهِ على معظم تلك الندوات. هذا فضلاً عن اقتراب أخوي، خارج البُعد الأكاديمي. وهذا ما يسمح لي بالكثير من الثناء على نشاطهِ الأكاديمي والمجتمعي معاً.

وبعد: فإنني أتمنى للدكتور حمدي هاشم، دوام النشاط المكثف باستخدام خلفيتهِ الجغرافية، في مجال الأعمال التطبيقية الهامة، مثل مؤسسات التخطيط المتنوعة، التي تجمع تخصصاتٍ مختلفة من الدراسات الهندسية والأرضية، والأنشطة الاقتصادية للسكان الجدد في المدن، أو القرى المصرية، فكل هذا أضاف إليهِ الكثير من المعرفة، التي ساعدتهُ على تكوين مزيج جيد من الجغرافي، المشغول بمشكلات البيئة ومرامي التخطيط الجيد. بعبارة أخرى أقول له: أنت جغرافي مع توابل معرفية كثيرة.

أتمنى لك استمرار النجاح، ولعلك تأخذ بأيدي بعض الجغرافيين الجدد، إلى مثل هذه المجالات المهمة في بناء الأوطان.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

* جمعتني اللقطة الفوتوغرافية المرفقة بأستاذ الأجيال الدكتور محمد رياض، على هامش احتفالية الجمعية الجغرافية المصرية بمناسبة حصول سيادته جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية لعام 2017 (القاهرة، السبت 10 مارس 2018).

(1) الدكتور محمد عوض محمد، من مواليد مدينة المنصورة في 3 مارس 1895، وهو أستاذ كل الجغرافيين من جيل محمد رياض وجمال حمدان وغيرهم.

(2) حمدي هاشم. الرائد سليمان حزين ونشاط الخدمة الاجتماعية في مصر. ندوة سليمان حزين العالم والمفكر والإنسان. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 28 – 29 مارس 2006. الكتاب التذكاري الثاني، الفصل الخامس عشر. ص ص 345 – 354.

(3) يحيى محمد محمود. جماعة الرواد (1929 ـ 1952) صفحة من تاريخ الجماعات الأهلية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، مجلة مصر الحديثة، 2005. ص ص 173 ـ 222. رابط البحث:

https://journals.ekb.eg/article_128923_45b97862f0ec4a8976a2e3784fd027a4.pdf

(4) محمد رياض وكوثر عبد الرسول. رحلة في زمان النوبة. دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية. رابط الكتاب:

https://ia804604.us.archive.org/16/items/maqasid-asfar/%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9_%D9%81%D9%8A_%D8%B2%D9%85%D8%A7%D9%86_%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%88%D8%A8%D8%A9-min.pdf

(5) حمدي هاشم. الجمعية الجغرافية المبنى والمعنى. الأهرام، ع 49677، السبت 10 ديسمبر 2022. ص 10. رابط المقال:

https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsPrint/880436.aspx

(6) حمدي هاشم. محمد رياض رائد الثقافة الجغرافية. لمسة وفاء وتكريم للأستاذ الدكتور محمد رياض ـ أستاذ الأجيال ـ بمناسبة الحصول على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية لعام 2017، الجمعية الجغرافية المصرية، السبت 10 مارس 2018. الكتاب التذكاري.  ص ص 33- 35.

(7) حمدي هاشم. جغرافية نهر الحياة: سيرة وأثر. القاهرة، دار ميريت للنشر، 2018. ص ص 477 ـ 478.

 

 

مقالات من نفس القسم

أسامة كمال أبوزيد
مقالات
أسامة كمال أبو زيد

المعدية