الدسوقي.. منارة التاريخ الحديث

عاصم الدسوقي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. حمدي هاشم 

لست بصدد تحديد تاريخ معرفتي بالدكتور “عاصم الدسوقي”، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، في كلية الآداب جامعة حلوان، المتابع والشاهد على البنية الاقتصادية والسياسية لـ (مصر)، على مدار سبعة عهود للحكم فيها، منذ اعتلاء “فاروق الأول” عرش مصر، ومن بعده ستة من الرؤساء، من بعد إقصاء الملك والملكية عن الحكم، بواسطة (حركة ضباط الجيش المصري تموز ـ يوليه 1952). سبقني (الدسوقي) في الميلاد بستة عشر عاماً، في محافظة الغربية، بالقرب من شركة مصر للغزل والنسيج، بالمحلة الكبرى، بعد اثني عشر عاماً من تأسيس (طلعت حرب باشا) لها عام (1927)، والتي طورها “جمال عبد الناصر” إلى قلعة صناعية كبرى (1959)، وكان صاحبنا لم يتخرج بعد من قسم التاريخ في جامعة عين شمس (1961)، بينما كنت في طريقي من قرية (خلوة الغلبان) إلى حاضرة مصر (القاهرة) في مسيرة جغرافية نهر الحياة. وهكذا جمعتنا علاقة مكانية بين مركزي المحلة الكبرى وزفتى، في وسط الدلتا، يشد عليها الطين النيلي الاستوائي وطيبة أهلها وأخلاقيات القرية.

ومن ذاكرة التضامن مع الحركة المصرية الوطنية، أحدوثة إعلان (جمهورية زفتى)، وفيها قريتي الأولي، على خلفية عمل بعض الشبان الثوريين، من الطلبة والعمال والفلاحين الكادحين، في سبيل الإفراج عن “سعد باشا زغلول” ورفاقه، بعد نفيهم إلى جزيرة مالطة، واتفاقهم على جعل بلدتهم جمهورية مستقلة عن المملكة المصرية، وكان ذلك في (18 مارس 1919). ولم يكن هذا الاستقلال مادياً بل كان استقلالاً معنوياً، إذ ساهم في تحفيز المصريين بأهمية مقاومة الاحتلال الإنجليزي، وبعد أحد عشر يوماً من ذلك الاستقلال الرمزي، قضت فرقة من الجنود الأستراليين على هذه الانتفاضة، وقامت قوات الاحتلال بمفاوضات مع الثوار، للحفاظ على هيبة الدولة، وطالبتهم بتسليم عشرين رجلاً من (زفتى) فاختار الثوار، هذا العدد المطلوب من الوشاة وعملاء الإنجليز، فنالوا جزاء خيانتهم.

ولأن التاريخ يكرر نفسه، فإن ما حدث في زفتي، وبعد مرور قرن من الزمان أو يزيد، فقد قرر بعض الشبان المصريين استقلال مدينة المحلة الكبرى (التي ولد الدسوقي في ريفها) عن حكومة الإخوان المسلمين في ديسمبر (2012)، وذلك بمحاصرة مبني مجلس المدينة، وقطع الطرق والسكة الحديد، والاعتماد على فاعلية مواقع التواصل الاجتماعي بالإنترنت (كانت أيام زفتى في رحم المستقبل). وتزامنت تلك الأحداث مع تداعيات اعتداء المؤيدين للدكتور محمد مرسي على المعتصمين أمام قصر الاتحادية، حيث يرجع البعض هذا السلوك من الشباب للاحتجاج على سوء إدارة أزمة البلاد، نتيجة تمسك الرئيس المنتخب بالإعلان الدستوري والدعوة للاستفتاء على الدستور! والذي مازال لوقتنا هذا يطلق عليه دستور الإخوان، مما يقتضي الدعوة لصياغة الدستور من جديد!

وتتدافع في مخيلتي الذكريات:

وسطور أخرى من جغرافية نهر الحياة، في شهر سبتمبر عام (1970)، حيث تصدر خبر (عبد الناصر في رحاب الله) الصفحة الأولى بالبنط الكبير، في جريدة الأهرام القومية، وصورة المقعد الذي لن يملأه أحد، وقد ملئت شرايين وطرقات مصر بطوفان من الناس ينشدون: بلادي بلادي لك حبي وفؤادي.. وانتفضت شوارع (القدس) بحزن فلسطيني، ومعها (دمشق) والمدن العربية جمعاء، واتشحت القاهرة بالحزن الجماعي في (أضخم تجمع بشري في التاريخ)، مثلما قدَّرته جريدة (التايمز) البريطانية. ومن شدة التدفق البشري اختفت في أثناء المراسم بعض النياشين والأوسمة من مقدمة الجنازة، وبذلك يختزل “جون لاكتوير” صورة ناصر في الإحساس بالكرامة، وروح التحديث والشعور بالأهمية الدولية. وما أكثر كتابات وأحاديث الدكتور عاصم الدسوقي عن الزعيم جمال عبد الناصر من النواحي الشخصية والفكرية والسياسية والإنجازات.

أبدع حضور الشعب الجمعي في إنتاج أنشودة: الوداع يا جمال يا حبيب الملايين.. بلا مؤلف أو ملحن، وكأنها أوركسترا جنائزية، تحمل معبودهم (حورس) بطل مصر إلى الحياة الأخرى، ولكن لا يخلو الأمر من مفارقة.. من سرق أسرار عبد الناصر من خزانته ليلة وفاته؟! 

بات (حمدي هاشم) ليلةً على رصيف منزل (عبد الناصر) في منشية البكري، وأخرى على بوابة قصر القبة الشرقية، وتسلق إحدى الأشجار بمواجهة (فندق النيل هيلتون)، يوم تشييع الجنازة، وسط هذه الأمواج البشرية الهادرة، حتى مالت وانكسرت بعض أعمدة الإنارة على كورنيش النيل، من أثقال الذين ارتفعوا بها من الناس، لمتابعة مشهد الشرفة الغربية المكشوفة من الفندق، ومشاهدة مرور موكب النعش القادم من مقر قيادة الثورة عبر كوبري قصر النيل. وعند هبوطه من فوق الشجرة، علقت يده بفرع مكسورٍ من التدافع، ووجد المساعدة في وقتها، ليواصل الطريق مع بطله حتى مثواه الأخير، الذي تحول فيما بعد إلى قبلة الساسة والمواطنين.

غلبه النوم بمحطة (كوبري القبة)، ولم يجد أمامه إلا ركوب قطار شبين القناطر، في طريق عودته إلى (محطة مصر)، ولم يستيقظ إلا على صدمة وقوف القطار عند مزلقان (الصف)، فاكتشف أن القطار قد تم تحويله لاتجاه الصعيد، ولم ينهض حتى رجته أيادٍ كثيرة بمحطة (بني سويف).

ولما أنهى المسودة الأولي من كتابه (جغرافية نهر الحياة)  في صيف (2016)، وبدأ رحلة البحث عن الشخصية المعتبرة والحيادية التي تقدمه للجمهور والمكتبة العربية، وطرق همم بعض الرواد من الجغرافيين وغيرهم، وغلبه البحث عن نظارته، وهي بين يديه، فالتقطها ليتصل بالدكتور “عاصم الدسوقي”، الذي أبدى سعادته وسروره التلقائي، وقبوله كتابة المقدمة، وكان أستاذنا (الدسوقي) لا يزال في إحدى المصايف بالساحل الغربي، وسلمته إياها، وسبقني واحتفظ بها كنسخة منفردة قبل النشر، وما لبث أن زودني بكلمته الجامعة (تاجًا) لذلك الكتاب، واختزالها المعمق لمراحل مسيرة “جغرافية نهر الحياة”، بسلاسة ومكاشفة لا قِبَلَ لغيره بها، التي اختتمها وأخيراً.. “يا شباب الجغرافيين النشطاء إليكم هذه السيرة لواحد منكم سبقكم على الطريق ليجعل من العلم وسيلة وأداة لتغيير الحياة وليس الاستسلام للظروف”.

بقلم الدسوقي: هذه قصة حياة واحد من عامة أهل مصر، تحدى الظروف التي نشأ فيها، وتغلب على العقبات التي واجهته، واحدة تلو الأخرى، بفضل الطموح الذي ظل يسكن داخله وما يزال. ولولا هذا الطموح، ولولا تسلحه بالعلم ليكون أداته في تحقيق طموحاته، لمضى في حياته إنساناً عادياً، شأن الكثيرين الذين لا حول لهم ولا قوة، ولا ينشغلون إلا بالبحث عن لقمة العيش هنا وهناك، وقد ينجحون فيواصلون مسيرة الحياة وصعوباتها، وقد لا ينجحون فتذهب حياتهم سدى.

إن هذه المذكرات تجعل قارئها يعيش فترة من تاريخ مصر العام، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وعلمياً وثقافياً، ابتداء من منتصف خمسينيات القرن العشرين حين ولد صاحبنا، وانتهاء بمطلع القرن الحادي والعشرين. ذلك أن صاحبنا (حمدي هاشم) يمثل ابن المجتمع الريفي في الدلتا، الذي انتقل مع أسرته إلى القاهرة ليعيش في حي شبرا، ذلك الحي الذي عاش فيها شيخنا (الدسوقيُّ) كذلك مرحلة من حياته يعتز بها، وبصحبة (حمدي) عادات أهل الريف الممتدة عبر الزمن. لكنه يجد كثيرًا من أهل شبرا من أصول ريفية، وخصوصا أهل الحارة وليس سكان الشوارع الرئيسية، الذين كانوا يمثلون شريحة من مجتمع الصفوة في ذلك الزمان. وبالتالي كان من السهل التكيف مع الظروف الجديدة، فمضت حياته دون عقبات عسيرة مع أهل هذا الحي. ومع كل مرحلة من مراحل حياة صاحبنا، يضع القارئ يده على معالم المعاناة والحرمان التي كان يواجها، والتي صنعت معها بشائر الأمل والطموح حتى لا يستسلم للمصير المحتوم.

ولم يتنكر صاحبنا للظروف الصعبة التي نشأ فيها، ولم ينكرها مثلما يفعل بعض من عاش ظروفه، وفتح الله عليهم أبواب التقدم والرقي، بل لقد تمتع بقدر كبير من الشجاعة، لقول الحق حتى في أدق تفاصيل الحياة التي مر بها. على أن أهم ما في هذه السيرة رحلة صاحبها العلمية والعملية، فهو من الذين آمنوا بتوظيف العلم من أجل الحياة، وليس من أجل الحصول على شهادة تعلق في برواز على جدار، دون أن يكون لها تأثير في حياته العملية، فاستحق لقب “المهندس الجغرافي”، الذي خلعه عليه استاذنا الراحل سليمان حزين. ولهذا كان موضوع رسالته لدرجة الدكتوراة “الآثار البيئية للصناعة في منطقة حلوان” (عام 2004)، ومن قبل كانت رسالته للماجستير عن “الآثار البيئية للصناعات التحويلية في منطقة شبرا الخيمة” (عام 1996). ولا يزال نشاطه العام يتعلق بمشكلات البيئة في العمل وفي المنتديات التي يحضرها هنا وهناك.

لكن لم يكن له حظ الانضمام إلى هيئة التدريس الجامعي، في أي من جامعات مصر على كثرتها، وتلك مشكلة تتعلق بطبيعة العلاقات داخل الهيئات الجامعية في مصر، والتنافس الشديد بينهم والغيرة القاتلة حفاظاً على “مصالح وقتية زائلة بطبيعتها”.

وترأس (الدكتور الدسوقي) لجنة رباعية، مختارة من الأساتذة متنوعي التخصص، لمناقشة كتاب (جغرافية نهر الحياة) ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب (اليوبيل الذهبي 2019)، في قاعة كاتب وكتاب أيقونة البرنامج الثقافي. وكانت مفاجأة المناقشة حوار المكاشفة مع الممنوع، في مقاربة وتنويه عن مناهضة (اضطهاد) الجغرافيين للدكتور جمال حمدان، بإلقاء حجر في الماء الراكد، بدلالة تلك الغيرة القاتلة والمصالح الحاكمة في هيئات التدريس بالجامعات المصرية. وأعلن الغيب بعد ذلك عن اختيار اللجنة العليا لمعرض الكتاب “جمال حمدان” شخصية الدورة (51) وشعارها مصر وأفريقيا ثقافة التنوع (2020). فهل كان لجدران تلك القاعة وهذه القضية المثارة صلة في هذا الاختيار المتأخر؟ وذلك بعد مرور سنة على كلمات الدسوقي المؤثرة في تشكيل الثقافة التاريخية الحديثة والمعاصرة.

وتبقى منارة “عاصم الدسوقي”، شيخ المؤرخين وعلماء التاريخ، من منارات التفكر والتدبر العقلاني، المؤيد بروح التاريخ والتحليل المنطقي للأحداث والوقائع في نسقها الجغرافي والحضاري. وستظل معالم وآفاق قدراته الفائقة، وأنفته وكبرياءه، دليلًا علَى شخصيته المتفردة، ومواقفه التي تتجلى فيها غيرته على العلم، وكرامة العلماء، ذات أمسية من أمسيات شهر أكتوبر عام (2017)، اهتزَّت وسائل التواصل الاجتماعي، وبرامج الفضائيات، واستفاقت صحف اليوم التالي على هبّةٍ لأستاذنا الجليل، في إطلالةٍ له على الهواء، ضيفًا في أحد برامج قناة (الحدث الفضائية)، وقد استفزَّته مذيعة، لا تملك من معايير العمل الإعلامي ما يؤهلها، لمحاورة هذا العالم الأجل، وقد حاول بمنتهى الرفق أن يوجهها التوجيه السليم، ولكنها أبت إلا أن تفرض عليه وهو العالم الفذ والمؤرخ الأكبر، كيف يجيب، فانتفض منهيًا اللقاء، بعد تحذيرها أكثر من مرة. ولقد قدمت القناة والمسئولين عنها اعتذارها لأستاذنا (الدسوقي) الذي قدم درسًا لا يُنسى، في احترام العلم والعلماء.

 أطال الله عمره، وزاد من محبيه ومرديه وتلامذته وطلاب علمه، ومن يناصرونه في الدفاع عن ناصر والناصرية. وهذه شهادة من جغرافي تجري في عروقه التاريخية رابطة النهر الخالد ووحدة المعرفة.

 

مقالات من نفس القسم