د. محمد شداد الحراق
من قلب حي الدرادب الشعبي المنحدر بهدوء نحو شاطئ مرقالة أطَلّتْ زهرةُ طفولتي الأولى، وتوهّجت فورة شبيبتي. ترعرعت في حضن فضاء تتشابه فيه الأجسام والآلام والأحلام. عيون القاطنين لا تكف عن مغازلة صفحة البحر الغامزة والتطلع إلى الموجة المُخَلصة القادمة من الضفة الأخرى. الكل يثرثر في صمت، ويهمس في أذن الرياح والأشباح. يحلم بعصا موسى. ينتظر حصول المعجزة. يرسم بخياله صراطا مستقيما فوق الزرقة الممتدة الفاصلة بين الجحيم الكائن والنعيم الممكن…
السفن العنيدة اللامبالية بالرائين المتعبين تتبرج يوميا. تمارس لعبة الإغراء، وترسل رسائل الإغواء. تطفو فوق البحر، فتتحرك معها قلوب وعقول ونظرات الحالمين الجالسين فوق صخور الأماني الناتئة. تتغنج فوق الأمواج، تتمايل يمنة ويسرة، وتقول:( هيت لك)، فتتحرش بها عيون شباب بائس يائس استعار الشيب والتجاعيد مبكرا، واعتمر قبعة الانكفاء، ومارس طقوس الاحتراق، واتكأ على جدار الانتظار. شباب ضائع وسط زحمة الحياة وفوضى الأسئلة. لم يحصل على تذكرة السفر إلى المبتغى قط، ولم يمتط صهوة الحظ يوما. ولم يعثر على المسلك السري الموصل إلى مركز النور، فعاش في ظلام البؤس والخيبة. يمضغ أصابع الحيرة. يصارع الزوابع المدمرة المقيمة في خلاياه كل وقت وحين. يرسم أحلامه فوق الرمال، فتسارع الأمواج القاسية المتوالية إلى إبادتها نهارا جهارا. تتعمد محو بصماتها بإصرار غريب. تتنافس لاغتيال كل جميل ممكن، ولاستئصال كل سنابل الآمال المطلة من ناصية الآتي المنتظر. يتأمل جريمة الأمواج، فيرسل رسالته عبر الأثير إلى مسامع الكون:
- حتى الأحلام تصادر هنا. حتى الآمال تغتصب. حتى الأماني تجهض..ما كل هذه القسوة؟؟ ما هذا الزمن البليد الذي ينتشي بسحق المسحوقين؟ وما هذا الحظ العنيد الذي لا يطرق إلا باب المحظوظين؟؟
قلوب أهل الدرادب لم تُصنع من لحم ودم فقط، بل من بساطة وطيبة وكبرياء أيضا. لا تطلب إلا الكرامة، ولا ترجو غير السلامة، وتكتفي بالقليل. بسطاء لا تتزاحم رؤوسهم في سوق المكاسب، ولا يتطاولون على سُلم المناصب، ولا يحضرون الولائم المشتهاة، ولا يفقهون شيئا في قاموس الربح السريع، ولا يعترفون بمنطق الريع. همّهم اليومي اللقمة الحلال التي يضعونها في الأفواه البريئة، فتنزلق بحب في بطون فارغة لا تكف أمعاؤها عن عزف ألحان الاحتياج وعن إصدار صفير الاحتجاج. تدغدغ شهيتهم المدفونة، توقظ نهمهم من سباته العميق، فتعربد جيوش الجوع صائحة:
- هل من مزيد؟
فلا تلبي اليد المغلولة حاجتهم، ولا تهدئ من روعهم، فيلتحفون بغطاء القناعة مرغمين، وينامون حالمين بالغد الأفضل، في انتظار لقمة أخرى مرصعة بقطرات عرق الجبين.
الدور القصيرة المتلاصقة على امتداد طريق الجبل عنوان واحد. لا تحار الرسائل في الاهتداء إلى مقصدها. الحي كتاب واحد مفتوح باستمرار، يقرأ فيه الجميع آخر الأخبار، وينظر فيه إلى دموع المحزونين وقلوب الحيارى الغارقين في لجّة الحاجة وجحيم الانتظار..الجار يغذي ابن الجار ويربيه، وابن الجار ينام عند الجار ويحتمي به. تذوب في عقيدة أهل حينا كل السدود، وتزول في مملكتهم كل الحدود. جسم واحد، تتوحد فيه باقي الأجسام. الألم تركة،إرث مشترك يتوزع بالعدل على الجميع. الأبواب مشرعة بلا حراس، وشمس المحبة تستوطن كل القلوب، والجميع يحتسي من كأس الأمان. يسند بعضنا بعضا في الضراء والأتراح، ونرقص جميعا في الأعياد والأفراح. مملكة البسطاء السابحين في نعيم القناعة. تعمّها نسائم الصدق، وتغور في تربتها شجرة العفاف والكفاف. للكبير والصغير والأنثى والذكر حرمة مقدسة تصونها شهامة الفتيان وتحميها فتوتهم في كل مكان.
بشاطئ مرقالة نسرح ونمرح صباح مساء. نفرغ كل الشحنات المتراكمة. نحوّل الاحتياج متعة، ونصنع تمثال السعادة بأيدينا الفارغة. أجسادنا الصغيرة تسابق النوارس البيضاء الهازئة.عيوننا الذئبية تلتقط الإشارات المشفرة القادمة من خلف البحر. الأضواء تتغامز هناك في شواطئ الشمس، وقلوبنا المتوثبة تنبض هنا في زنزانة القهر. ننقش أسماءنا في صدور الصخور. نتوعد الأمواج القاسية بمزيد من الصمود. ونقول لها:
- لن تقهرنا جرائمك اليومية أيها الزمن النزق. لن نستسلم. لن نرفع الراية البيضاء في وجه جبروتك.. سنظل نحلم ونحلم. إرادتنا أقوى من عنادك وسطوتك. ستورق شجرة الحظ يوما بساحتنا.
نختلي بآلامنا وأحلامنا. نسمع نداءات الأعماق الملتهبة. نتكتم على مخزون الحمم المنصهرة في قلوبنا. نحارب أشباح اليأس بالأحلام. نتسلح بعزائم قوية وإرادات من حديد. نقهر بها زوابع الخوف وطوفان اليأس وسيول الخيبة. وفي المساء نعود إلى أوكارنا ممتلئين بالمتعة، هازئين من قبضة الحرمان، منتشين بالأحلام، منتظرين للآتي المتواري خلف جدار الغيوب. لعل الحظوظ تمر يوما بحي الدرادب لتصافح أولائك البسطاء.