المرحلة الأولى ، وبدأت مع حركة الإحياء الشعري الجديد في أواخر القرن التاسع إلى بداية القرن العشرين ، وفيها نجد النقد على غرار كتب نقد العربي القديم بل اجترار لهذا الموروث الكبير ، مثل أعمال ابن سلام الجمحي ، وعبد القاهر الجرجاني ، والقاضي الجرجاني ، والسكاكي ، وغيرهم . وكان النقد شذرات وملامح في مجمله ، متسقا مع مدرسة الإحياء (الكلاسيكية الجديدة ) ، ونرصد بوضوح غلبة النزعة التذوقية والانطباعية ، التي تتخذ من الشعر العربي في عصوره الذهبية نموذجا لها .
المرحلة الثانية ، وتبدأ مع مطلع القرن العشرين إلى ستينيات القرن العشرين ، مع مدرسة الديوان ( العقاد ، شكري ، المازني ) ، وما أخذته من اطلاع شعرائها المباشر في الأدب الإنجليزي ، خصوصا شعراء الرومانسية ، وقد كانت طروحاتهم النقدية كالأحجار التي حرّكت الراكد في الساحة الأدبية ، خصوصا أنها توجهت بالهجوم إلى الشاعرين الكلاسيكيين شوقي وحافظ ومن سار على دربهما مطالبين بإعلاء الوجدان وتحديث الرؤية الشعرية ، وهو ما أكملته جماعة أبوللو وشعراء المهجر والمدرسة الرومانسية بشكل عام . كان الخطاب النقدي في هذه المرحلة يتجه إلى الموضوع والطرح الفكري والشعوري في الأساس وعُرفَ باسم الدراسة المضمونية وقضايا الموضوعات، وكانت رؤيته الفنية تقليدية تقف عند الصورة الفنية وبلاغة المحسنات ، فيما يعرف باسم الدراسة الفنية . وفي نهاية هذه المرحلة رأينا إرهاصات النقد النفسي في كتابات العقاد والنويهي ، وكذلك مدرسة النقد الجديد للشاعر إليوت .
المرحلة الثالثة ، وتبدأ منذ أوائل السبعينيات ، وإلى يومنا الحالي ، ويمكن أن نسميها مرحلة الانفجار في المناهج النقدية ، حيث توفّر عدد من النقاد العرب من مصر والشام والمغرب العربي والعراق وتسابقوا لنقل الجديد من المناهج النقدية الغربية ، على تنوّعها بدءا من الشكلانية الروسية والبنيوية والأسلوبية والتناص والسرد ، مرورا بالتأويل والنقد الاجتماعي والنقد النفسي وانتهاء بالتفكيكية . وبالطبع فإن هذه المناهج أحدثت ثورة في عالم النقد ، وفي دراسات النصوص والغوص في أعماقها ، وإعادة اكتشاف جماليات النصوص قديمها وحديثها ، وقراءة التراث النقدي والبلاغي في ضوئها ، بهدف التأصيل أو استكشاف الجديد فيه .
ولكن المشكلة كمنت في ظواهر عديدة ، ارتبطت بالمرحلة الثالثة تحديدا ، وتتمثل في تعصب بعض النقاد لما نقلوه أو ترجموه من الغرب ، والاحتفاء به بأنه غاية الدرس النقدي ، وصاحب ذلك استلاب حضاري ، أعلى من الآخر / الغرب ، وقلل من الذات . بجانب أن كثيرا من المترجمين والنقاد كانت لغتهم النقدية مبهمة وعالية المستوى ، وفيها تعال على القارئ العادي ، وفي بعض الأحيان القارئ المتخصص كما وبالغوا في التنظير على حساب التطبيق ، والأهم – من وجهة نظري – أنهم انعزلوا في أكاديميتهم ومعاهدهم عن الحياة الثقافية ؛ في الوقت الذي واصل النقاد القدامى أو المجتهدون أو المدّعون اتباع النهج القديم ، فبات المشهد فريدا، نقاد أكاديميون يستخدمون مصطلحات أجنبية أو معربة ، ونقاد متكلمون يستندون إلى الذائقة والدربة ، الفئة الأولى خطابها نخبوي ، والثانية خطابها مجاني .
النقد الأدبي والسرد العربي ( نموذج مصر ) :
لو تناولنا السرد في مصر كأمثلة ونماذج إبداعية ومتابعات نقدية ، فيمكننا الجزم من المنظور النقدي أن السرد في مصر يعبر عن تطور السرد العربي المعاصر ، مع تفاوت في الخريطة الإبداعية العربية هنا أو هناك ، ما بين بدايات مبكرة أو متأخرة، وما بين مستويي الوعي والإبداع والبناء الجمالي ، فالثقافة العربية لها مراكزها المعبرة عن تطوراتها ، وعندما نذكر أحد المراكز فلا يعني الأمر إعلاء لهذا المركز أو ذاك ، ولا الانحدار للقطرية المفرقة ، ولا أيضا التعصب للقومية المتحجرة؛ التي تغمط حقوق الثقافات المتعايشة معها جنبا إلى جنب مثل ثقافة الأمازيغ والأكراد والنوبة وغيرها ، وهي ربما تختلف عنا لغويا ، ولكنها متوحدة شعوريا وفكريا ودينيا وفي العادات والتقاليد والتوجهات المستقبلية والتاريخ المشترك.
بدأ السرد في مصر مع مقامات المويلحي ، وفيها عودة على بدء مع سرديات تراثنا العربي الرائعة ومنها فن المقامات ، فلا عجب أن تكون البدايات الأدبية في عصر الإحياء الحديث بالاستناد إلى موروثنا الزاهي ، في الشعر والنثر والسرد .
ثم جاءت أول رواية عربية وهي رواية ” زينب ” لمحمد حسين هيكل ، وفيها ظهر البناء الروائي الحديث نسبيا ، الذي يحمل خصوصية الواقع في الريف المصري والذي لا يفترق كثيرا عن مثيلاته في الريف العربي ، إذن يكون التميز هنا بأمرين : تبني الشكل الغربي في السرد ( الرواية ) ، والغوص في مشكلات الواقع وقضاياه ( الطرح ) .
وقد استوى عود القص على أيدي أجيال متتابعة من المبدعين ، في حلقات متصلة ، يمكن عند دراستها أن نلاحظ كيف أن السرد كان نهما في التطور والنهل من المنجز السردي العالمي ، حتى وصل إلى آفاق جمعت ما بين التميز في الطرح والأسلوب والشكل ، ولعلني أؤكد أن التطور الإبداعي في الثقافة العربية المعاصرة كان من السرعة والجودة ، بحيث أنه استطاع أن يختصر تطورات الإبداع العالمي، والأهم أنه حفل بخصوصية ثقافية .
هذا ، ويمكن أن نقيم السرد في مصر باستطاعته التعبير عن المجتمع المصري بتنوعه ( ريف ومدن ) ، وشرائحه الاجتماعية ، وهويته الثقافية ، وجذوره التاريخية ، وقضاياه السياسية وصراعاته الفكرية . وبعبارة أخرى، فإن السرد المصري مرآة عاكسة لمصر التاريخ والثقافة والهوية والسياسة والوجدان الجمعي والتطور الاجتماعي والمشكلات الإنسانية .
هذا منظور موضوعاتي ، أما على المستوى الفني ونعني به أبنية السرد وأساليبه، فيكفي أن نقول أنها متعددة بتعدد الساردين ، متنوعة في مسيرة كل سارد، غزيرة مواكبة للسرد العالمي في مختلف أشكاله وأنماطه واتجاهاته .
ولكن المشكلة التي أراها ملحة من منظور الأديب والناقد ؛ هي غياب المتابعة النقدية الحثيثة والجادة للأجيال الجديدة في السرد ، وأعني بهم الأجيال التي ظهرت في العقود الثلاثة الأخيرة ، وهي على كثرة مبدعيها ، على قلة نقادها ، فلا توجد ما يسمى خريطة للسرد الجديد في مصر ، وبالتبعة للسرد في العالم العربي، وتلك إشكالية كبرى ، دالة على غياب النقد والنقاد ، واكتفائهم بالتعليق والدراسات المتفرقة عن كتاب أو سارد ، دون وجود أطر وملامح مشتركة .
وفي هذا المضمار ، يتبقى أن نقول إن الإبداع العربي يحتاج إلى حملة منظمة للترجمة والتعريف به ووضعه على خريطة الإبداع العالمية، بدلا من التعريف المتشظي لأفراد أو اتجاهات ، منتقاة بدون معايير أحيانا.
البحث عن خطاب نقدي جديد :
قبل أن نصف الخطاب النقدي المأمول ، علينا أن نضع قواعد للناقد في خطابه ، بمعنى : البحث في إنتاج الخطاب النقدي على مستوى : النص الإبداعي، المبدع ، المتلقي ، ظروف إنتاج النص ونشره . فالحديث مع المبدع المبتدئ يختلف عن المخضرم ، فهناك من مخضرمون يعيدون ما أبدعوا ، نتيجة تجمدهم ، وهناك من يبدعون بإضافات جديدة ، ولا شك أن الخطاب النقدي يختلف في كل حالة ، مثلما يختلف عند توجيهه لمتلق عام ، يبحث عما يحببه في الأدب ، ويقرّبه للنصوص ، عن المتلقي النخبوي ، ذي الذائقة العالية . ونفس الأمر ، فإن هناك نصوصا نحتاج إلى نقاشها ، واستحضارها ، لأنها نصوص خالدة ، كلما قرأناها ، وتناقشنا حولها ، كشفنا الجديد فيها .
في ضوء ذلك ، فإن الناقد قبل أن يتوجه بخطابه النقدي ، سواء كان شفاهيا أو مكتوبا، عليه أن ينظر في النص ، ويتعرف تجربة مبدعه ، والمتلقي المفترض له، ومن ثم يصوغ رسالته النقدية ، التي هي رسالة بما تعنيه في الجانب الإبلاغي ، وليست توعرا لفظيا ، ولا مصطلحات غامضة ، يظل يرددها في قراءته دون تفسير.
فالخطاب النقدي الجديد أساسه رسالة ، ومحوره قضية ، يرنو إلى المتلقي ليفهمه، وإلى المبدع ليفيده ، وإلى النص ليجلو جمالياته ومضامينه .