قدرة الباحث على الرجوع بيسر إلى المصادر الأصلية، ولا يظنن ظان أننا نقصد بالمصادر الأصلية هنا الكتب التراثية القديمة فحسب، إذ إنها وعلى الرغم من كونها فيما يتصل بالخطاب الديني تعد رأس المصادر الأصلية وأهمها، فإنها ليست وحدها ما يمكن أن نسميه المصادر الأصلية، فهذه المصادر (الأصلية) تتوزع على مجموعة من المسالك، منها بلا شك كتب التراث القديمة؛ إذ إنها المادة المدروسة التي من دونها لا يمكن أن تقوم دراسة دينية أصلا، ولكن يضاف إليها بلا أدنى شك عند الباحثين الأكفاء كتب المناهج العلمية والنظريات الفلسفية، فكيف بباحث في علم من العلوم الإنسانية أو الطبيعية أن يتناول مادة للبحث دون أن يحدد بوضوح زاوية النظر التي سيطل منها على موضوعه، وكيف له أن يحدد هذا المنظور دون الاستعانة الجادة بمناهج البحث التي تطورت كثيرا منذ العصور الوسطى وحتى الآن، بفضل نظر الباحثين جيلا وراء جيل، وبفضل إسهامات لم تقف الحضارة الإسلامية منها خارج السياق، بل كانت فاعلة في هذا التطور الفلسفي البشري بشكل كبير.
لكن مطالعة الباحث للمصادر الأصلية وإلمامه بالمناهج العلمية، الحديث منها والقديم، ليسا كافيين وحدهما لتكوين باحث، إذ إن العلم يحتاج باحثين يملكون موقفا من الحياة، وهذا الموقف وإن أسهمت النظريات الفلسفية في تكوين جزء كبير منه، فإن الباحث يحتاج إلى الإلمام بما يحدث ومتابعة حال وطنه وأمته متابعة لا تعتمد على وسيط، وهو حال كثير من أقطاب دعاة الريف الذين يتلقون الأخبار عادة من تلامذتهم، إذ إنهم لا يشاهدون التليفزيون ولا يقرأون الصحف ولا يطلون على الدنيا وأحوالها إلا من خلال ما يقوله تلامذتهم، وكثيرا ما يكون النقل هنا مخلا كما سنبين بعد.
إن تكوين باحث – ولا أقول عالما – ليس أمرا هينا، إذ إنه عين وطنه وأمته إلى مستقبل لم يأت، يرسم ملامحه ويحذر من مخاطره، ولن يوجد ذاك الباحث إلا بجهد شاق يتجاوز كثيرا ما يحاول هؤلاء الدعاة فعله.
أما هم (الفريقان معا) فرغم اختلاف الطاقة العلمية عند كليهما اختلافا بينا، فإنها تؤدي بمحدوديتها إلى النتيجة الكارثية نفسها؛ فدعاة المدن المشهورون والمعروفون في النوادي الرياضية يعانون من ضحالة مركبة تستعصي كثيرا على الحوار العلمي، إذ إنهم ولكونهم صنيعة أبناء جلسات النوادي الرياضية القاهرية، لم يكونوا معنيين كثيرا بالتحصيل، حتى في أدنى درجاته؛ أقصد التحصيل المعلوماتي، فمعلوماتهم تنحصر في الإدلاء بفتوى بسيطة متداولة أو بعض جمل من كتب الرقائق المعروفة في الأدبيات التراثية الدينية، وبعد ذلك: ليست عندهم معلومات كافية، ولا لغة منضبطة، ولا منهج علمي، حديث أو قديم، يمكنهم من خلاله ضبط النتائج التي يمكن أن يتوصلوا إليها، هذا إن توصلوا إلى شيء ذي بال أصلا. وأكثر ما يدور على ألسنتهم من مصادر ليس أصليا، والأصلي من مصادرهم فإنما من أمثال «إحياء علوم الدين» للغزالي أبو حامد (ت 505هـ).
أما دعاة الريف، فإن طاقتهم العلمية تؤدي بهم إلى نتيجة مشابهة وفي بعض الأحيان أكثر كارثية من الأولى؛ حيث يفتقد خطابهم لمنهج علمي واضح وحديث، وإن اشتمل خطابهم في بعض الحالات على استخدام مجموعة من الأدوات المنهجية القديمة في علوم الحديث أو التفسير أو غيرها من العلوم الدينية المختلفة، لكنها آليات – نظرا لافتقارها لتصور نظري عام – قد تضر أحيانا أكثر مما تفيد.
الضرر الواقع على العقل العربي من خطاب الفريق الأول هو إصابته بالسطحية والاستسهال؛ فقد أصبح عالما كلُّ من قرأ كتابا في السيرة النبوية أو كتب الرقائق، وامتلك واسطة لتقديم برنامج في قناة من القنوات الفضائية؛ بحيث أصبح الدين مجموعة من الحكايات الناعمة، إن صح التعبير، حتى إن أحدهم سوّى برنامجا سماه «قصة حب». لا ضير في ذلك، شريطة أن يسمي نفسه مقدم برامج وليس أحد علماء الدين.
أما الضرر الواقع على العقل العربي من الخطاب الثاني، فأشد خطورة، إذ تصبح الملكات المطلوبة للعلم ليست أبعد كثيرا من مجرد حفظ متون الكتب التراثية وإعادة طرحها بلغتها نفسها، بشكل جعل المنجز العلمي النظري/ الفلسفي/ المنهجي يتوقف عند العصر الوسيط. لا تجد منهم واحدا يحدثك عن نظريات التفسير والهرمينوطيقا وعلم العلامات، إلى آخر هذه الرؤى النظرية التي لم تعد هناك مندوحة من التعاطي معها، حتى وإن لم يستخدمها الباحث. لقد نسي هؤلاء أن العلم ليس طعاما تلوكه وقد أكله غيرك، وإنما هو بذرة تأخذها من نبتة نضجت لتزرع بها أرضا أخرى، حتى إذا ما استوت نبتتك جاء من بعدك من أخذ بذرتها فزرع بها أرضا ثالثة، وهكذا حتى يقضي الله أمره ونعود إليه جميعا فيخبرنا بما كنا فيه مختلفين.