تتنازع الفضاء المصري في العقد المنصرم أو يزيد قليلا، مجموعة من الدعاة سماهم البعض «الدعاة الجدد»، معتبرا أنهم جميعا كيان واحد، وهم في الحقيقة طرائق شتى.. وقد احتل هؤلاء الدعاة على اختلافهم واختلاف المنابر التي يطلون منها، فضاء الخطاب الديني في مصر، بل وفي العالم العربي، وهم ينقسمون – فيما أرى – إلى فريقين رئيسيين، فيما يغيب عن المشهد فريق ثالث، أما الفريقان فهما فريق الريف المصري (وجه بحري تحديدا)، وفريق أبناء المدينة (القاهرة وضواحيها حصرا)، فيما يغيب عن مشهد دعاة الفضائيات دعاة من محافظات صعيد مصر بشكل يكاد يكون كاملا، فلا يكاد المتابع لظاهرة دعاة الفضائيات أن يعثر على أحدهم منتميا إلى صعيد مصر، ولعلنا نعود بعد ذلك إلى السبب. أما الآن فما يهمنا هو محاولة استكناه طبيعة كل مجموعة من هاتين المجموعتين الرئيسيتين اللتين تتصدران الخطاب الديني، الفضائي منه خاصة، في مجموعة من الفضائيات المنتشرة التي بدأت الدولة المصرية تأخذ تجاهها مجموعة من التدابير لأسبابٍ كثيرة، المعلن منها أقل كثيرا من ذاك الذي لا يعلمه إلا الراسخون في الكبت.
وقبل أن نبدأ، يجب أن أشير إلى أنني، وعلى الرغم من اختلافي مع مثل هذه القنوات شكلا وموضوعا؛ لست مع التضييق عليها وكبتها بأي حال وتحت أي عنوان، بل إن فتحها على مصراعيها هو الحل، فالتضييق – كما هو معلوم – يصنع أبطالا وعلماء ليسوا في نهاية المطاف على شيء.
وقبل أن نبدأ أيضا يهمني أن أحدد الفريقين اللذين أعنيهما، حتى يكون الكلام مربوطا ببشر ربطا بيّنا، ولا يفوتنا أن ننبه أن كلامنا ليس شخصيا بالمرة. فليس كل اسم من الأسماء التي سيأتي ذكرها مجرد شخص ولكنه علامة على طريق طويل يسير فيه كثيرون.
الفريق الأول وهو فريق المدن، ونعني بهم أمثال السيد خالد الجندي والسيد عمرو خالد والسيد مصطفى حسني وأشباههم.
الفريق الثاني وهو فريق ريف الوجه البحري، ونعني بهم السيد محمد حسان، والسيد حجازي محمد يوسف، الشهير بأبو إسحاق الحويني، والسيد محمد حسين يعقوب وأشباههم. ويهمني أن أنبه هنا أن محمد حسان والحويني وإن أشرت إليهما بالاسم فإنهما تحديدا – على الاختلاف بينهما في الهمة ومضمون الخطاب عند كليهما – لا يعتريهما ما يعتري كثيرا جدا من المنتسبين إليهما، مثل يعقوب مثلا، وإنما ذكرتهما لأحدد بهما تيارا عاما، أما هما، فلهما – كما سيأتي – خطاب مختلف؛ إذ هما يحملان من التأثير والهمة أكثر مما يحمل أشباههما، خاصة أبو إسحاق.
يتفق الفريقان في أشياء، ويختلفان في أمور، لكن حقيقة الحال أنهما يوصلان للنتيجة ذاتها التي توصل لها مدارس التربية والتعليم في مصر والعالم العربي، أعني أن خطابهما معا يحمل من أسباب التخلف أكثر مما يحمل من شروط التقدم.
أولا: يتفق دعاة الفريقين في أنهما ليسا بالضرورة ممن تلقوا تعليمهم داخل المؤسسة الدينية، أقصد مدارس الأزهر وجامعته، بل إن منهم كثيرا جدا تلقى تعليمه الأساسي والجامعي بعيدا عن هذه المؤسسة، بل ومنهم من كان تخصصه الدراسي الذي تلقاه في مراحل التعليم المختلفة بعيدا كثيرا عن التخصصات الدينية، فمنهم من تخرج في كلية الألسن أو كلية الإعلام، أو كلية التجارة، ومنهم أيضا من تخرج في جامعة الأزهر، والملاحظ أن نسبة من تخرج في جامعة الأزهر وفي تخصصات شرعية من فريق دعاة المدن أكثر منهم بين دعاة الريف.
أما من حيث الشكل العام فإن دعاة المدن لا يصرون على الالتزام بـ«زي ديني» كما يصر دعاة الريف عليه، لكن بعضا منهم مثل السيد خالد الجندي قد يظهر أحيانا برداء شيوخ الأزهر التراثي المعروف، أما دعاة الريف فيرتدون الزي المتعارف عليه بين منتسبي التيار الديني في مصر، وأعني الجلباب الأبيض على الأكثر وقد يغطي بعضهم رأسه وقد لا يغطي، أو يرتدون جلابيب كالتي يرتديها أهل ريف مصر مما يسميه عامة المصريين الجلابيب الأفرنجي، وقليل جدا منهم من يرتدي البدلة ورابطة العنق. هذا بالإضافة إلى أن الأكثرية الغالبة من دعاة المدن لا يطلقون لحاهم، اللهم إلا على طريقة بعض المطربين الشباب هذه الأيام؛ فيطلقونها وكأنهم نسوها دون حلاقة، فلا هي بالطليقة ولا بالحليقة. أما دعاة الريف فلا يكاد يوجد بينهم من لا يطلق لحيته، اللهم إلا من انتسب إليهم مؤخرا بشكل مستغرب عندي كالدكتور حسام عقل، أما ما عدا ذلك فلن تجد بينهم حليق اللحية تقريبا.
ثانيا: يختلف الفريقان في سبب قوة التأثير الاجتماعي لكليهما، ولكنهما يتفقان في أن هذه القوة ليس منشؤها العلم في البدء، لقد حصل إخواننا في المدن على قوة تأثيرهما من أبناء الأحياء الراقية ومرتادي أندية هذه الأحياء، من الإناث خاصة، ثم من القدرة الهائلة لتأثير القنوات الفضائية بعد ذلك. أما سادتنا من شيوخ القرى، فقد حصلوا على قوة تأثيرهم عن طريق تعاطف عالم القرية معهم نتيجة الملاحقات الأمنية، خاصة طوال فترة التسعينيات إبان المد الديني الذي وضع المجتمع المصري كله بكل مؤسساته على حافة خطيرة. وهنا يمكن أن نناقش – فيما بعد – جهد أساتذتنا حاملي لواء التنوير، الذين يدّعون أنهم أثروا في إضعاف المد الديني المتطرف، وفي الحقيقة، الأمر لا يعدو جهدا أمنيا في البدء والمنتهى.