وبالنسبة لي كان الباحث المصري المحترم دكتور نصر حامد أبو زيد – رحمه الله – من أولئك القلائل الذين كانوا يصنعون ذلك معي، ومع غيري من طلبة العلم، الذين ساعدهم حظهم الطيب والقاسي أن يجلسوا لساعات أمام كلماته المفعمة بالصدق، سواء في ما يؤمن به أو في بحثه الدءوب عن الحقيقة، وهي حقيقة نسبية في كل حال، وهو حال العلم والعلماء.
وإن أنسى لا أنسى أول كلمات لي ولغيري من طلبة كلية الآداب قسم اللغة العربية وآدابها، في جامعة القاهرة، من أن الباحث، في أثناء بحثه، كثيرا ما تقفز إلى ذهنه إجابات سريعة، تحمل حلا للإشكالية التي يبحث فيها، حيث كانت وصيته – رحمه الله – أن نشك في هذه الإجابات الجاهزة السريعة التي تقفز إلى أذهاننا؛ فغالبا ما تكون هذه الإجابات نتاج موروثاتنا وما تربينا عليه، وغالبا ما تكون خاطئة. ثم يردف: أقول غالبا وليس دائما، فليست كل الإجابات الجاهزة خاطئة، لكنها غالبا ما تكون كذلك.
مات نصر أبو زيد الأستاذ، جسدا، وترك لنا روحا بحثية لا نستطيع التخلص منها حتى لو أردنا، ولا نريد التخلص منها في الحقيقة، ولكنني أقول لا نستطيع، لما في الحياة العلمية – ما يتصل منها بالخطاب الديني تحديدا – من ترهات تشعر الباحث الجاد دوما أنه يبحر ضد تيار عنيد من التخلف العلمي والمقولات الجاذبة دوما للخلف، لا يستطيع الباحث أن يتواءم معها ولا أن يتركها ويمضي في طريقه.
كنت بعد هجرة الأستاذ، أو تهجيره بالأحرى، أحاول تلمس طريق أكثر أمنا في التواصل مع الحياة العلمية، دون أن يُحدث ذلك ندوبا فيّ ولا في غيري، محاولا اختيار التأثير دون أضرار، وكأنني كنت أقول لنفسي: يمكن أن يصل الباحث المحترم إلى مبتغاه العلمي دون إحداث الضجة الشديدة التي حدثت مع أستاذنا نصر أبو زيد، رغما عنه بطبيعة الحال، وكنت أحد شهودها، لكنه – رحمه الله – أبى إلا أن يبعث لي برسالة توبيخ شديدة اللهجة، وهو على فراش موته، لقد أضاف درسا آخر إلى آلاف الدروس القاسية التي تلقيناها منه: ليس بإمكان الباحث المحترم في هذا الزمن تجنب الصدام، خاصة مع أفكار استقرت حتى بدا أنها نصوص مقدسة أو شعائر دينية ثابتة، لا يستطيع الباحث في هذا الزمن إلا الاشتباك الحي مع أفكار بدا واضحا أنها تربط العقل المصري والعربي والمسلم خاصة، وترمي به في هاوية سحيقة لا ترضي الله ولا الوطن ولن يسامحنا أبناؤنا إن تركناها دون مواجهة صريحة وواضحة، حتى نترك لأبنائنا وطنا يشرفون بانتسابهم إليه، وفكرا دينيا يستحق النظر فيه.
مات الأستاذ، وشمت فيه من شمت، وادعى عليه من ادعى، وعملت آلة إعلامية رهيبة في تشويهه؛ بحيث لم يتركوا لأجيال قادمة فرصة في قراءته أو حتى في الاقتراب من أفكاره.. وكانت الرسالة واضحة كشمس في سماء صيف حار؛ إنهم في الحقيقة لم يشوهوا نصر حامد أبو زيد، ولكنهم شوهوا – وما زالوا – أي بحث علمي حر وجاد ومحترم، بحيث لا يمكن أن يوجد بعد ذلك في هذا الوطن سوى ببغاوات لا تملك أكثر من الترديد الأعمى بلا منهج ولا عقل ناقد ولا رؤية، وكأنهم يرددون وراء عنترة العبسي: هل غادر الشعراء من متردم (!!).
لقد كانت المعركة الرهيبة التي خاضها أبو زيد في منتصف التسعينيات ضد مجموعة من أقطاب الخطاب الديني الموظف لأسباب اقتصادية، لكنه اصطدم في البدء والمنتهى مع بعض الباحثين وعلى رأسهم الدكتور عبد الصبور شاهين. وكان المعنى الأساسي في هذه المعركة هو توظيف الإسلام وتأويله تأويلات غير علمية بهدف ترسيخ أفكار لا تنتسب لعالم البحث العلمي بقدر ما تنتسب لعالم السياسة مرة أو الاقتصاد مرة، لقد كان يؤكد في محاضراته – وكذلك في كتبه – أننا حاربنا العدو الصهيوني باسم الإسلام (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل)، وأقمنا اتفاقية سلام معه باسم الإسلام (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)، وأن الإسلام في الستينيات إبان المد الاشتراكي كان دين المساواة بين الطبقات والعدالة الاجتماعية؛ فالمسلمون متساوون كأسنان المشط، ثم أصبح دين التفاوت الطبقي في السبعينيات، (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).. وكل ذلك كان بالإسلام. وكان هدفه – رحمه الله – أن يصل الباحثون في علوم القرآن والحديث إلى منهج علمي للتعرف على المعنى القرآني دون لي ذراعه أو تأويله على هوى التوجهات السياسية أو التوازنات الاقتصادية.
كانت المعركة وقتها رهيبة؛ نعم، لكن إقصاء صوت الدكتور نصر، بالصورة التي تمت، عن مشهد الخطاب الديني، وتخويف كل من تسول له نفسه أن يطور مقولاته، أديا إلى ظهور أصوات كثيرة جدا تفرخت من الصوت الذي هاجمه في منتصف التسعينيات، وأصبح هذا الصوت، إلى جانب ما يتعالى من أصوات اليوم، أهون، بحيث إذا رأى الدكتور نصر ما يجب أن نواجهه فلا شك سيقول في حسرة: أعانكم الله على ما تواجهون من خراب.