هذا ما اشتغلت عليه المبدعة ” نجلاء علام” في روايتها المتميزة “الخروج إلى النهار” الصادرة بالقاهرة عن دار الأدهم للنشر والتوزيع 2013م، حيث أدخلتنا في فضاء روائي يمور بالإيحاءات التي تثير كثيرا من الأسئلة تتوزع على كل من قيمة الشكل الفني والمضمون الإبداعي على حد سواء.
فاشتغلت على متن روائي، توزعت أطرافه على خمسٍ وثلاثين محطة، انقسمت إلى قسمين، خيالي تخييلي، وواقعي رومانسي ثوري.
في القسم الأول الذي امتد من المحطة الأولى حتى التاسعة عشر فضاء تخييل بدأ من ” كون استقر بعد عراك، وبدأ يرى نفسه نجوما وكواكبَ وأجراماً، أقماراً، وشهباً ونيازك تجمعها مجرات . كون يسأل نفسه: لماذا كانت أجزاؤه تتنافر عند الاتحاد، والآن بعد الانفصال نشأت جاذبية جعلت كلا منهم، يدور في فلكه دون أن يلتصق بأخيه، أو يفلت إلى أعماق سحيقة” .ص9
وامتد السياق التخييلي “حتى شعرت أن الصخر ينصاع لها، فترقص منتشية بالموسيقى والحب” “تضاء الأنوار، فأراه يرقص بجواري، تلتقي أيدينا، وترتفع حناجرنا بإيقاع الموسيقى الهادر يحيطني، تدخل روحه في ، وتدخل روحي فيه، أشعر أننا اكتملنا الآن، أنظر في عينيه، وينظر في عيني، ويسكنني شعور الأمان للأنثى التي امتلكت حبيبا” ص59. ومن خلال فضاء سردي تنفك خيوط الحكاية مفصحة عن رجل وامرأة وقعا في جوف الأرض، في حفرة تمثل فراغا بين شقين في صخور الأرض وتعترف الفتاة بأن إرسالها إلى الحفرة هو” نوع من الأعمال المتوسطة شديدة النفع بلون الأحمر الناري، فبعد أن جبنا الفضاء، وخبرنا معظمه واجهتنا الحقيقة الصادمة أننا لن نستطيع أن نستفيد من الكون حولنا، ومن الأفضل البحث داخل الأرض، ونجحت المحاولة، ونقل الصراع إلى باطن الأرض، وكان مفروشا على سطحها عند بداية الإنسان، ولم ير الإنسان السر رغم أنه تحت قدميه، فغضبت الأرض وخبأت سرها عن الإنسان ” .ص36.
فنحن أمام مكان افتراضي يسعى ناسه إلى اكتشاف أعماق الأرض ومعرفة أسرارها.
مكان ومجتمع لا يمكن التعايش معه والعيش فيه إلا عن طريق الانضمام إلى أحد الألوان الخمسة(أحمر ناري، أسود، ذهبي، بنفسجي، فضي) ينتمي ناسه إلى مجتمع الفيزيقيين الذين يؤمنون بعودة الطبيعة “والفيزيقيون هم أملنا الوحيد، فداخل أمخاخهم جزء لا زال يحمل الكثير من الذاكرة الإنسانية الفطرية بعيدا عن الشريحة المعلوماتية التي وضعوها داخل المخ، فهم رغم هذا لم يستطيعوا أن يحذفوا الماضي” .ص48.
والطفلة الفيزيقية هي التي تأتي من علاقة ذكر وأنثى مما يجعلها في المرتبة الثالثة.
أما اللغة فهي لغة [الفصلا] التي يتكلم بها الآن جميع من في الأرض وقد جمعت من اللغات السابقة، مع الاستغناء عن كلمات لها معنى، فألفاظ الفصلا تعبر عن كل ماهو موجود مرئي، فهي لا تعطي معنى الكلمة وإنما أحد مترادفاتها .
“شعرت بآلام لم أعرفها من قبل، ولهذا صرخت فيه بالفصلا:
– سوف ننتهي من المحاولة وليس من الاستسلام، وكنت أريد أن أقول:
– سوف نموت، ولكن لغة الفصلا ألغت كلمة موت وتم استبدالها بكلمة انتهاء. ص21.
وفي موضع آخر: “رغم انفعالي الشديد، لم أرد انقضاء الفرصة دون فتح حصالته فقلت بالفصلا: – أتشعر بالانتهاء؟
وكنت أريد أن تقول: أتشعر بالخوف
ولكن الفصلا محت كلمة الخوف، حتى الموت تم استبداله بكلمة الانتهاء. ص26
بالاضافة الى ذلك يأتي جهاز{الهيمو} الذي يرسل ذبذبات تسقط الشعر، وتزيل الحبوب والبثور. ص29.
بعد استعراض جانب من جوانب ذلك العالم المتخيل الذي لا يرتقي إلى مستوى الخيال العلمي بمنهجه ليبقى في إطار التخييل الذى وضع الرجل والمرأة، نشأت في {الهوانا} حيث كنت من المدللين الذين يختارون لأفضل الأعمال.
في الحفرة تبدأ التداعيات بالعودة إلى الماضي البعيد حيث الولادة الأولى قابيل وهابيل” كنت أعرف أن قابيل توأمي هو الأقوى، هو الأسرع، وكنت مثله شديدة الاعتزاز بعقلي، قادرة على ترويض ما حولي، قلت: ستكون لنا الأرض، وظللت كثيرا أتأرجح بين قوة الحب في عيني هابيل، وقوة الإرادة والطموح في عيني قابيل. ص18
ويدور حوار بين المشاركين في الحفرة التي لم تستطع حتى الجاذبية أن تعطيهما فرصة للصعود لأكثر من متر، لتتوالى الصور ويدخل الرجل في أول حلم تخييلي. ص23-24
وتبقى الحفرة المكان الضيق الذي كتب عليها الصمت، فتساءل ان كتب عليها الصمت “ألم يحفر السابقون مصائرهم كالصخور الموجودة في متاحف المنقرضين أم أنهم حفروا عليها مصائرنا نحن؟ ولكن الزمن كان عطوفا بنا، ولهذا محاها”. ص25.
ويأخذها ضيق المكان إلى الدخول في أعماقها مؤكدة على أن الأحساس بالفرح يجب أن يعاش ولا يوصف وأن المشاعر سبب نكبة البشرية وتدخل في رؤى تخييلية من خلال محطة السكين وقهوة بالبن وليال غير قصيرة والاجتماع الشهري فوق الجبل، وفي أياد بيضاء تعود إلى السكين ” فألحق به وأطعن، لم أرض أن أطعنه طعنة قاتلة من أول مرة، يأخذ الطعنة ويجري، دمه يسيل على السجاد، وفي الأركان، طعنات متوالية، أخطأت فيها القلب عن عمد، لكنه جرى للمكان الذي أريده بالضبط، فضيقت عليه الخناق في الركن الصغير، بين البوفيه والجدار، وبطعنة واحدة نافذة إلى القلب، أرحته. ص44.
ويأخذ التخييل العلمي أفقا جديدا وهي تحاول نزع الشريحة من رأسها ” لم أستطع في البداية الحفاظ على توازني، صرت أقع، وأقاوم وأحاول الوقوف، ويدي بقوة القهر الذي عانيته منذ ولادتي تنتزعها، والشريحة تأبى، ووجدت نفسي أخور كثور وأطن كذبابة، وأصرخ فأزلزل الصخور، حتى انصاعت الشريحة، وفتحت رتقا في الجلد، ونزعتها ويدي يتساقط منها الدم.
وبخروج الشريحة تتحرر كما تحررهو من قبل فرحين بما ارتد إليهما, وأدركا أنهما يتحدثان بلغات كثيرة مختلفة لم يعرفاها من قبل.
“وتحممت بماء السماء, شعرت بدبيب يسري فى أعضائى يزحف يدغدغنى، من أخمص قدمى, يزحف ويعلو الى الرجلين و الفخذين وما بينهما, يعلو الى البطن والصدر والرقبة حتى الشفاة، يتأجج جسدى بالرغبة كأنها الروح عادت من جديد” .ص 55
أما بالنسبة إليه فقد قدر له أن لمس كل بنت حَوّلها إلى أنثى ساحرة، تثير الشهوة، وأهمس لها: أعطيتك شيئا مني وما هذا إلا قليل.
لا تعرف كيف انساقت يدك إلى مشاعرك, وراحت تتحسس جسدها ولا كيف تسربت موسيقا ساحرة الى أذنيك، واستعذبت مرور يدك على تفاصيل جسدها, ولكنها بقيت ساكنة، كانت تعرف أن أي مشاعر ستظهرها الآن ستنمي داخلك الرغبة لا الحب.
الحب..نعم.. تلك هي الكلمة التي تبحث عنها والغريب أن مرور يدك على جسدها, لم يثر فيك الرغبة الجامحة كما توقعت, بل أثار فيك الميل إليها, والاستئناس بها, حين لمستها كبدن لدنيا جديدة, تفتحت أمامك وأردت أن تعيشها. ص58
لقد كان التخييل في هذا القسم من الرواية قائما على الخطاب غير المباشر والمونولوج اللذين سمحا للقارئ بالاطلاع المباشر على أخص خصائص المتخيل الذي كان حفرة تنزع إلى الابتعاد عن الواقع, ابتعادا يخرجها من حدود المعتاد والإمكان إلى ما يسميه {القرطاجني} بالممتنع وإن كان هدفه الوصول الى اكتشاف أعماق الأرض فمع أن السبب واضح إلا أن الفعل لم يكن كذلك إذ اقتصر الشغل على رجل وامرأة وجدا نفسهما في الحفرة كل منهما يحمل في رأسه شريحه برمجت حركته وعلاقته بالآخر من دون العمل على سبر أعماق الحفرة، مكتفيا النص بدوران شخصيته في مدار تخييلي ذاتي قائم على متواليات تخييلية تتوسل اللغة والحوار والمنولوج إلى اختلاق شخصيات لا تطابق بينهما وبين المؤلف, وإن كان لا ينفك يقرب بين البعدين النفسى الشخصى والتخيلى وهذا ما اشتغلت المبدعة عليه حيث قدمت التخييل من حيث هو إيهام بالواقع وهو تخييل يمتع النفوس فهو خداع للعقل ولكن من دون تزويق أو تعقيد، فالشخصيتان المنتميتان إلى زمان معين ومكان محدد لم يكن من يحركهما أو يأمرهما سوى أنهما مبرمجان بشريحة معينة ولذلك عندما تخلصا منها عادا إلى طبيعتهما الإنسانية كإمرأة استعادت أنوثتها ورجل استعاد ذكورته ليبقى الحب رابطهما الأساسي.
ومع بداية النصف الثاني من العمل، ينتقل التخييل إلى واقع رومانسي ثوري يبدأ بالعودة إلى الطفولة وقد ارتبطت ذاكرته بالشجرة التي زاد عمرها على مئة عام وتشدني مراحل الطفولة المتربطة بالشجرة ورسم أجمل زهرة في الحديقة وعنايته للكلب (تومه) والقط (سومو) ويأتي والده برسام كي يرسم العائلة فيجد الرسام أن ملامحها تتبدل وعيناها تخاطب المستقبل وتم تصويرها في لوحة زيتية بجوار الشجرة وبعد وفاة زوجها جاء الرسام وطلب منها اللوحة كي توضع في أكبر متاحف العالم وترفض بيعها.
وإن كان قابيل وهابيل عنصران بارزان في بداية النصف الأول من الرواية، فإن المبدعة مع بداية قسمها الثاني تستحضر (إيزيس وأوزوريس) وهما يجريان في البرية وتصحو إيزيس من النوم تشق الأرض ويخرج منها الماء, تجري لتحتمي بالجبل تنادي أوزوريس وعلى الجانب الآخر في الشط يصرخ أوزوريس : إيزيس, فيقلب صوته موج البحر, هكذا في موجات أبدية لا تنتهي تحمل مياه البحر صوتيهما وتستمر المقابلات بينهما على طرفي الشط وكل منهما يعبر عما في نفسه “أنا من الشاطئ الآخر أرسل ما تبوح به النفس لك يا من تسكن الشاطئ المقابل, فربما تراني في كلماتي, فأجب رسالتي فإني أريد أن أراك . ص 66 . وتدخل المبدعة محطات روايتها في مداخلات كثيرة أفرزت حالات من الرومانسية المحققة سواء من خلال إيزيس التي أرادها أن تكون حواء والتي أرادت من أوزوريس أن يكون آدم أول الرجال من تجسدت فيه الإنسانية، وشمل حواء برعايته أو من خلال الطيران الذي هو تدريب للنفس ومحاولة اكتشافها وتعود إلى التي دفنت نواة تمرة بين شجرتين وتضاء الكشافات ليرى وجهها متلألئا فاحتضنها وشعرت أن اكتمالا داخلي يتحقق ورغبة تستعر لا من جمال جسدها ولينه بل من حب يعلو بي إلى دنيا طاهرة, هتفت وهي بين يدي:
ديما .. إيزيس .. أفروديت.
والتقت شفتانا، ورحنا فى نشوة، انتفض على أثرها ذكري وسكن داخلها. ص 78.
وتدخل البطلة فى الحلم التخيلي الثالث ص 80.
لتجد نفسها داخل ميدان التحرير تهتف ” تقدمي مني أيتها المشاعر، إنفذي داخل مسامى، إنفضي قلبي من سكونه، أيقظي روحي التىي خبت، وأحيي داخلي عالما من الصور والأحلام” ص 81.
وتخرج من إطارها المحدد بإيقاعات الحلم ومشاركتها في ميدان التحرير من الحلم والتخييل إلى الواقع فتطير إلى تونس الخضراء تتعرف على ثورته “لولا وحدتنا لضعنا وقضينا الليالي والأيام في شارع بورقيبه نقاوم الشرطة و (بن علي) في قصره يرتجف، لم يكن (بوعزيزي) مفجر الثورة وحده بل سبعة عشر عاما من الخوف والترقب” ص 87. وتتابع وصف زيارتها لتونس فتصل صفاقس وتتعرف على سبب تسميتها وتتجول في المدينة بقصد اكتشافها “هو ذلك الربيع العربي، الذي هبط على كل دار في الدول العربية، كانت تونس قد طردت علي زين العابدين ومصر خلعت مبارك واليمن تستعد وتحشد ضد علي عبدالله صالح, وليبيا تقاتل من أجل حريتها وسوريا تعج بالمظاهرات” ص 93.
وتعود إلى مصر وتخرج في الخامس والعشرين إلى الميدان وهناك يستولي عليك شعور بالعزة ويتسرب إلى روحك وجسدك ويدفعك لحب الحياة ص 102.
“صرنا نطير من غصن إلى غصن أعلى حتى انتهت الشجرة, ووجدنا فوهة في نهايتها نور, وقيل: اعبرا . إلى صباح جديد عبرنا، تزينه شمس دافئة وسماء محبة, كنا نقف على عشب اخضر في وسط الميدان, وكانت أنفاس الجموع المحيطة بنا تدفئنا, وتنزع عنا شعور الغربة, وكأننا كنا لهم البشارة، إذ انطلقت الاحتفالات في كل مكان في الميدان” .ص 103
على الرغم من بقاء خيوط النص الروائى حاضرة ومتصلة بين القسمين حيث بقيت البطلة الخارجة من الحفرة الضيقة بعد أن تخلصت من الشريحة المتحكمة بجسدها ومشاعرها هي صاحبة الحضور الأهم في مجريات أحداث الرواية وتفاعلها وانتقالها من اللاوعي المفروض عليها بسبب برمجة عقلها, إلى الواقع واسترداد جسدها بكامل أنوثته وإلى جانب الرجل الذي استيقظت مشاعره على حب التي إلى جانبه, وإن كان دوره في الرواية غير فاعل مثلها، بل جاء مساندا لها وهي تتحمل عبء الارتقاء بمستويات مسرود الرواية وهي تنتقل من الحلمية والتخيل إلى الواقع المعاش, والمشاركة بثورة يناير، مما يجعل التحول خروجا مبهرا ليس من الغيبوبة إلى العقل، أو من الظلم إلى الحرية، ومن قاع الأرض إلى سطحها, وإنما هو ذلك كله مما مهد إلى خروج ذلك النهار الأمل والحلم من رحم ميدان التحرير الذي ضم شباب الوطن ووحدهم على هدف واحد، قد تحقق الحلم وصنع الثوار صياغات رائعة ليوم جديد عبروا والشعب من خلاله بعد ثلاثين عاما من الفساد والمفسدين إلى صباحات يوم آخر اتسعت مساحاته وامتدت حاملة تباشير ربيع عربى غيّر كثير من الخرائط السياسية، وكل ذلك على حوامل رواية هاربة من التقاليد الروائية الكلاسيكية إلى فضاء روائي قائم على مجموعة من المحطات النقلية التي أسهمت في تفعيل محاور التخييل النفسي وتناقضاته مع الواقع حتى عودة الوعي إلى البطلين, مما يشير إلى روائية ذكية وماهرة عرفت كيف تشتغل على نص روائي جديد لم يخل من متعة فنية وإبداعية وفائدة علمية ذات قيمة دلالية وهي تتناغم بشكل فني وإبداعي بل وتقني على محاور السرد الروائي الممتع وهو يتماهى ما بين التخييل الممتع والرومانسي الثوري.
…………
مجلة الهلال – العدد 1463 – مارس 2015 .