غادة نبيل
لم يعطنى حميد العقابى نسخة من كتابه الذى هو فصول من سيرة ذاتية ” أُصغى إلى رمادى ” ولم أطلبه رغم قراءتى لأعمال أخرى له من شهور. ربما كان يحدس أنى قد أحاوره يوماً. هو أيضاً من حقه أن يختار زاوية التعامل معه ، فى كادر إبداعى خالص بلا تشويش لدواعٍ إنسانية. ثم – وبدواعٍ إنسانية – هناك فى تاريخ حقوقه المنتهَكة ، حقه فى النسيان .
سيقول حميد المولود فى الكوت عام 1956 ..لأمه التى كانت تخبئ كتبه الماركسية وغيرها تحت التراب أنه ” لو خرج من العراق فلن يعود ” وترد بصبر يتظاهر بالتحمل وعدم الاكتراث :” أنت حر !” . وهى كذلك .. بعدما لم يعد معها شئ وجدت أن بداخلها ما يفيض عن عالمنا . ذبحوها فى أبنائها وتعبت . رأت أن تقتل نفسها ففعلت.
يعيش حميد – الذى قتل النظام كذلك أحد أشقائه – فى الدانمارك منذ عام 1985 . يكتب مهجوساً بأن مصيره سيكون فى بيتٍ للعجزة مثلاً فى بلد بعيد جداً عن العراق ، بارد وبلغة أخرى . لا يستطيع أن يستدفئ بشتائم وتهديدات عراقيىّ الشتات والداخل ، لكن اليأس كعوامل التعرية يأكل فى الروح لتبدع .
جرأته عالية كمبدع لا يتحرج من الاعتراف أنه رغم استمتاعه بكتابة الرواية وكثرة إنتاجه الروائى تقريباً إلا أنه قارئ سئ للرواية ما عدا ما يقع ضمن شروط ذائقته بل يبلغ الجرأة أن يقول إنه قام بتحويل مجموعة من النصوص التى سبق ونَشَرها بوصفها قصائد إلى قصصٍ قصيرة بعد حذف ما يتيسر من استعارات ذهنية منها . لا يخشى ضيق الشعراء ولا الروائيين بل لا يتحرج من شعور مشروع لدى القارئ – بهكذا تصريح – أنه ربما تم استغفاله واستدراج حسن نيته .
لم تُنقِص هويته المتغيرة إبداعياً وتقلباته المزاجية عبر حياته من شغفه بالرواية التى تزاحم الشعر عنده .. الشعر الذى يأتيه كما يقول ” كصلصلة الجرس ” وهى شجاعة يمكنه أن يضمها لشجاعته حين يعلن أنه ” فوجئ بالتقريظ الكبير ” الذى حصل عليه كتابه النثرى الأول (الذى هو فصول من سيرته الذاتية) وتمت كتابة أكثر من خمسين مقالاً عنه . الشاعر الروائى يهزأ تقريباً وهو يكتب ” أغلب الذين قرأوا الكتاب اعتبروه رواية “. هذه حالة نادرة بل ومعكوسة مقارنة بما يعانيه أغلب الكُتاب والشعراء ( والنساء أكثر ) حين يتم التعامل مع إنتاجهم الإبداعى بوصفه سيرة ذاتية متحوِلة أو مسكوت عنها .
ربما حاجته لإيقاع ما فى الكون ، ربما وقوفه المارق على حافتىّ العدم والصوفية وتمرده علي نفسه يجد امتداداً له فى حراكه الإبداعى الضجِر بين أشكالٍ مختلفة ، من مجموعته الأولى التى أتت منضبطة بقصائد تفعيلة فقط إلى مراوحات واستكشافات لأشكال بديلة يمكن أن تتحمل أوزاناً من التجارب وإيلام النفس على ما لحق بالعائلة والرغبة فى نهش شىء كما تم نهشه هو وأهله .
ثمة مفارقة أشد لكنها من حميد لا تُذهلنى : كيف يؤمن روائى أن ” الرواية فن يحتضر الآن ” ؟! ثم يعود ليقر أن طموحه ” كتابة رواية بمواصفات قصيدة ” ربما ليعيد بعثها .. يريد ” رواية يستمتع القارئ بقراءتها من الصفحة الأولى ولا يكون همه منصباً على متابعة الحدث ” بينما هو ( حميد ) ينجذب للروايات ذات الطابع الشعرى بشكلٍ منحاز فهل أخذ عهداً على نفسه ألا يكمل قراءة رواية لا تخضع لتلك المواصفات مهما أتت جاذبيتها من مناطق غير شعرية وحققت متعة لا تقوم على متابعة الحَدَث أو الحبكة ؟.. هو يبدو كمن يريد شيئاً ولا يصبر على إمكان ظهوره أو الشعور به وهى منطقة غائرة فى عدميته الفكرية والنفسية التى تفوح بشعره الذى يحاصر فيه كل رغبته فى التفلت والانفجارعبرالتمسك بـ ” إيقاع ” ما .. كحنين لشاطئ كشاطئ دجلة ، نهر عراقه واسم ابنته .
ولماذا – أستغرب نفسى حقاً – أتعامل معه منذ رأيته وحادثته بوصفه أولاً وثانياً وثالثاً شاعراً وأحاول تناسى روائيته حتى بعد قراءتى لعدد من رواياته ودواوينه؟. هل لكونه أغلق كل الأبواب المفتوحة على الرواية الآخذة فى الانقراض حسب تصوره بينما ترك باب الشعر وحده مُشرعاً وإن بمعاييره وتصوراته الفنية عن ماهية الشعر؟ . ولماذا راق لى أن أجرى حواراً معه وأنا التى توقفت عن قراءة شعر التفعيلة من أعوامٍ لا أتذكرها ووجدتنى فاحصة وناقدة صارمة أثناء قراءة شعره الذى ابتعد بعضه عن حدود التفعيلى ولم يصل بعد لمناطق النثرى؟! . أستغربُ نفسى .
لماذا ينجذب شاعر ” وزّان ” للرواية ، شاعر يريد أن يفجر هذا الكون لكنه يظل ” يموسقه ” ؟ هل به حاجة لـ ” طمأنة وتوازن” ما ؟ هل يريد أن يكرر ما خطهُ فى تجربه بوحه السير ذاتية لتكرار هجاء ما حل بعائلته؟ … هل هو – مثل كثيرين – مجرد إنسان يقاوم باللعب، بالكفر ، بأى شىء ونحن نتمسك بإطلالة على إبداعه تمنحنا باباً موارِباً على شنائع البطش البعثى فى حكايات وأشعار إنسان قريب رأيناه وتطالعنا صورته على فيسبوك وليس كما كنا نقرأ عن تلك الشنائع فى الصحف ومواقع الأخبار؟ . ستبقى ثمة أسئلة بلا إجابة لأن الحياة هكذا .
كل من حميد ومجيد عاش قدراً يؤهله لأخوّة الدم ، كلاهما رشحه مصيره أن يقاتل و يقتل الثانى فى حربٍ عبثية كانا يرفضانها تسبب فيها نظامان عبثيان لبلديهما دامت ثمانى سنوات . كان يمكن أن يقتل حميد مجيداً لو كانا التقيا فى الحرب العراقية الإيرانية. من مفارقات القدر أن يلجأ حميد إلى إيران فى طريقه لطلب اللجوء السياسى بعدها حتى أنه أقام فترة فى ” أوردكاه كرج ” (مجمع اللاجئين العراقيين فى طهران) وقت أن أرسل لهم النظام الإسلامى المُلاّ علي أحد مسئولى حزب الدعوة الذى أخذ يعدد على مسامعهم شرور النظام البعثى التى انحصرت بالنسبة له فى إقامة علاقات دبلوماسية مع الإتحاد السوفيتى والسماح للحزب الشيوعى العراقى بإصدار صحف ” تنشر الإلحاد” ونشر التحلل الأخلاقى بافتتاح مدارس لتعليم الموسيقى ورقص الباليه للأطفال !
حميد ومجيد تجرعا الويلات فى حياة لم يتخيلا أن يكون ثمن الحرية والكرامة فيها كل هذا .
تبقى ملحوظة أخرى وهى كون حميد لا يسهب أو يتكلم بما يكفى عن نفسه فى تواصله – شأن مجيد – ولهذا أسفت حتى فى ثنايا هذا الحوار الذى احترمنا فيه صمته لكونه لم يشرح للقارئ تفاصيل أكثر حين تم إلقاء القبض عليه من قبل المجاهدين فى أفغانستان وكيف كانت حياته معرضة للتصفية مباشرة ولا تحدث بما يكفى عن رحلته مختبئاً تحت زكائب البطاطا بعدما باع ملابسه لسائق سيارة ” الأرزاق ” كما يصفها لتهريبه من معسكر/ تجمع ” أوردكاه كرج ” الإيرانى .
غادر حميد العراق عام 1982 وصدر له فى الشعر :
1ـ أقول احترس أيها الليلك . 1986 ـ طبعة شخصيةـ الدنمارك
2ـ واقف بين يدي 1987 ـ إتحاد الكتاب العرب ـ دمشق
3ـ بم التعلل ؟ 1988 ـ دار الأهالي ـ دمشق
4 ـ تضاريس الداخل 1992 ـ دار الأهالي ـ دمشق
5ـ حديقة جورج 1994 ـ دار قوس ـ كوبنهاكن
6ـ كمائن منتعظة 1998 ـ دار الجندي ـ دمشق
7ـ الفادن 2005 ـ دار ألف ـ مدريد
8 ـ صيد العنقاء 2014ـ دار الجمل / بيروت
وفى النثر له :
9 ـ أصغي إلى رمادي / فصول من سيرة ذاتية ط1 دار الينابيع 2002ـ دمشق
ط2 دار الجمل 2003 ـ كولن / ألمانيا
10 ـ ثمة أشياء أخرى ـ قصص ـ 2004 دار نينوىـ دمشق
11 الضلع ـ رواية ـ 2007 دار الجمل ـ كولن
12 ـ أقتفي أثري ـ رواية ـ 2009 دار طوى ـ لندن
13 الفئران ـ رواية ـ 2013 دار الجمل ـ بيروت
كما أن لديه مخطوطات كثيرة في الشعر حيث ستصدر له قريباً رواية ” المرآة ” عن دار ميزوبوتوميا بالعراق ولديه مخطوطات أخرى فى القصة والرواية والهايكو والترجمة كما ترجمت بعض أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية والبولونية والفارسية والإيطالية والدنماركية.