مفتاح الديوان فى كلمات تصدرت صفحاته منسوبة لجيفارا، قال فصدق: “دعنى أقل لك، مخاطراً بأن أقع فى السخافة، إن الثورى الحقيقى تقوده مشاعر من الحب”. يمكنك أن تشرح فتقول إن الثوار عشاق وشعراء وحالمون، ماوتسى تونج قال ذات مرة:” لاثورة بدون شعر”، معنى الكلام أن الثورات فى حقيقتها ليست سوى لحظات أحلام جماعية، رغبة هائلة فى التغيير الى حياة أفضل، انتهز رياض الفرصة فلم تعد هناك فواصل فى قصيدتيه الطويلتين بين الشاعر والثائر والشهيد، ولم يعد ممكنا حتى أن تكره الموت لأنه يليق بالحالمين وغير القادرين على التكيف، ولافارق على الإطلاق بين الكتابة بالدم أو الكتابة بالحبر أو الكتابة بالحلم، فى القصيدة الأولى وعنوانها “الشاعر ينتصر” ستجد بطلا رومانتيكيا بامتياز، يتكلم بضمير المفرد “أنا”، ويتكلم أيضا بضمير الجمع “نحن”، متحدثا نيابة عن “الذين تركوا صورهم على الجدران” ، وهناك فى قلب اللوحة رفيقة الشوارع، وردة جنونية لا تقل تمردا ولا حلما، فى المقابل ستشاهد وستسمع أولئك المسلحين “الذين جاءوا من كل الجهات” فى مدينة خائفة، سترى دماء فى الطرقات، ستسمع رصاصا وزمجرة آلات معدنية كالوحوش، تبدو نتيجة المعركة محسومة، يقتحم إله التحول غرفات الأحلام، تستشعر خيبة وحزنا شفيفا آسراً، ولكن الصوت الأعلى سيكون لحالة من الفخر والإنتصار الداخلى، شئ يذكرك بفكرة المناداة بالاسم كمفتاح للبعث عند الفراعنة، أو حكاية العنقاء التى تخرج من الرماد .
يأتى سؤال البداية فى القصيدة الأولى مخاطبا المدينة: “أيتها الملوّنة بالشهوانية والضجيج/ المدنسة بدماء الضحايا/ ودماء الجلادين، أيتها العجوز الشرسة بلا حدود/ لماذا تآمرت على أرواحنا/ لكى ندمن التسكع والانتحار/ على نواصى الشوارع؟/ وكيف لم ترى/ عذابنا وغربتنا/ وانهيارنا / على/ كل / رصيف/ كهياكل من رمال؟”، فى الكلمات خيبة، وفى الحروف مرارة، وفى المعانى حسرة، ولكن النهاية مفعمة بقوة هائلة:” أيتها المتعة القصوى، أيتها السعادة/ أيها الفرح الغشوم/ ها أنا أختبر حريتى فى نار هائلة/ وأخرج مترعا بالإنتصار” ، وفيها فخر صريح ومتعال: ” مالم أكتبه فى عشرين عاما/ سأكتبه حالا وأنتهى/ وفى عنفوان الوقاحة/ الكل يركع أمام دمى/ الكبرياء الذى يمنحه الزى العسكرى، النسور الذهبية على أكتاف القادة/ التاريخ الغامض للبطولة فى غرف التعذيب، الأوسمة كلها من أجلى/ والتشريفات أعدت لكى أعبر الى الضفة الأخرى/ ململما كأوزير/ هكذا تكون النهايات كاملة”، وبين البداية والنهاية معركة هائلة هى بالأساس ضد الحلم، ضد الصوت المتمرد وضد الحبيبة الرائعة:” حبيبتى أرق كثيرا من الموت/ عندما يتسلل من الشبابيك/ لينزع الألم عن صدور المسنين/ وأشرس من ذئبة/ إذا استوقفها الجنود عند حافة الشارع/ يسألون عن هويتها/ هى لؤلؤة شاردة فى محيط اليأس والمناخ/ لها صدر يذكرنى بالحقول/ وعنق لا ينتمى للحاضر/ ورائحتها تشبه النعاس تحت الشمس”….. ” آه، كم أحبك/ يا كرةً من الحرير والمخالب”، متمردان فى مواجهة القبح: ” المدرعات ليست كائنات من المعدن/ المدرعات تخور، مثل الثيران المذبوحة/ والدم الحار يصيبها بالجنون، المدرعات تبكى بكاء جماعيا/ عندما تصطف بمحاذاة الرصيف، تتنفس دخانا ورصاصا/ وعيونها الواسعة مفتوحة دائما على الناس/ للتعرف على الفرائس المحتملة”، على الطرف الآخر تكتمل اللوحة:” الثوار باسمون/ ذقونهم نابتة كأشواك القنافذ/ جذابون، وعاطفيون، ومتفائلون/ حقيقيون بصورة غريبة/ حتى على الخيال/ مستعدون للقتال من أجل حفلة، أو مباراة/ برهافة وعنف/ يسوقون متع الحياة العظمى/ الى غرفهم البائسة/ ويستقبلون الرصاص/ بالوسامة التى يلطخها العناد”.
لا يمكن إلا أن تنحاز الى هذا الصوت القادم المفعم بالحياة :” أحب الشجر والتدخين والتلصص/ ولا أكره سوى دمى/ أنا الروح التى تبتسم للعاشقين”، وأن تعجب بتلك الروح” المثقلة بمحبة العالم”، أن ترثى لهذا الصوت الذى يقول :” إننى متعب يا إلهى/ رأسى ينزف/ وخيالى يهدر أحلامه الباهرة/ ورئتاى وردتان مفتّحتان”، وأن تعجب بهذا الوعى :” كل الأشياء مستحيلة فى زمن الثورة/ كل الأشياء ممكنة/ كإطفاء سيجارة مشتعلة”، ولأنهم خياليون وواقعيون معا، فقد اختاروا أن يكونوا أيقونة:” كانوا هنا فقط من أجل العناق/ لكنهم تركوا صورهم على الجدران/ تركوا وجوه قاتليهم/ والكثير من الدماء/ وذهبوا/ كانوا هنا من أجل العناق/ ذلك الذى يثبّت حواسهم عند حافة التوقّد/ ويبعثر رغبتهم فى الأبد/ ويطلق خيوط أرواحهم فى الهواء/ لترقص حرة/ فى سقف العالم”، ” وفوق رصيف بعيد/ كانت أيزيس تبكى/ ودموعها تلمع فى الضوء الغامر/ كحبيبات الألماس/ فيما الصقر الرهيب يحلّق عاليا/ عاليا جدا/ حرا/ مع الشمس”، تظلل هالة أسطورية الحكاية، إيزيس وحورس فى قلب المعنى.
أردت أن أقول لك إن القصيدة الأولى الطويلة مثل لوحة كاملة، لها ألوانها وأصواتها وبدايتها ونهايتها، تبدأ بميتات هائلة، وتنتهى بحياة متعالية، هكذا أيضا القصيدة الثانية التى حمل الديوان عنوانها:” الخروج فى النهار”، إنه عنوان كتاب الموتى الفرعونى، رفيق رحلة السفر الى الآخرة، كان الفراعنة يرون الموت انتقالا، ليس نزولا الى الظلام كما اعتقد الإغريق، ولكنه خروج الى النهار، هناك توزن الأعمال بالعدل وبالريشة، تُختبر القلوب، الصوت هنا يكتسب أيضا بعدا أسطوريا، لقد خرج الصوت من أحشاء إيزيس، يمتلك مرة أخرى ناصية الحلم والكتابة، هو إذن شاهد وشهيد معا، شاعر ومحارب، وحيد ومتأمل ومتألم فى ذاته، يخلط مأساته الخاصة بالتراجيديا الكونية: ” وعندما وجدتُ العالم شريرا/ أكثر مما أحتمل/ قلتُ لربة الخيال: أسرعى/ أنقذينى أيتها الهائلة كالحرب، كالإنفجار/ أنا ابن الإله/ بالكتابة أحترق/ وبالكتابة أتجدد، وأتبرّأ من ذنوبى كلها/ وأمضى منتشيا/ بطهارة الكلمات”، يبدو هذا الصوت الهائل أكبر من أن يتسع له العالم، ولذلك يطلب الخروج الى النهار :” صليت كثيرا كى تأتى/ لتنقذ روحى من جحيم الحياة/ بلا أحلام تترك آثارا على الأرض”، يطلب الخلاص والراحة:” فافتح لى يا أبى/ لأعبر الى جفونك الأخرى/ كأمير وسط الخاشية/ كملك مترعٌ بالطمأنينة والفرح”، هل تُراه يطلب الحرية هناك لأنه لم يجدها هنا ؟ إنه ليس حتى كالنهار، لأنه أكثر إشراقا من كل شئ.
ديوان “الخروج فى النهار” لمحمد رياض ينبئ بمولد شاعر يمتلك خيالا وصوتا خاصا ورغبة فى التمرد، يضع قدما فى الواقع، وقدما أخرى فى الأسطورة، لديه قدرة واضحة على تحويل الحالة المنفردة الى صورة درامية متماسكة، ينتمى الى جيله بقدر ما ينتمى الى أولئك الحالمين الذين لم تتسع لهم إلآ طهارة الكلمات، أولئك الذين يمتلكون رهافة وعنفا يليقان بمواجهة الظلام، وبمعركة الخروج الى النور.