ـ الانعتاق من الأسر :
” الخروج إلى النهار ” عنوان فصل من فصول ” كتاب الموتى ” وإن كان قد ترجم إلى ” الظهور فى النهار” تطمح ” نجلاء علام فى روايتها الثانية لتقديم حكاية الكون ، ومسيرة البشر ، ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، بداية من ” كرة مثقلة بالغازات ، وبأقدار من سيأتون عليها ، ضغط شديد ، تفاعلات لا تنتهى ….” ثم فى الفصل الثانى فى كلمتين اثنتين : ” وجاء الإنسان ” . ها هى إذن بداية لحظة تعاسة البشر، منذ حمل ” قابيل خطيئة فعلته حين قتل أخاه ، ليفوز بأنثى مقهورة مرهونة متعتها بالألم دوما ، وكأنه ” كتب على ذريته التعاسة ” من هذه البداية للكون يأتى الفصل الرابع عابرا كافة الأزمان ، إلى المستقبل حين يتحول الإنسان إلى آلة بلا مشاعر ولا حلم ولا رغبة ،ولا غناء ، بلا لغة تعبر عن الروح ، حين يتحكم فيه قوة غامضة مجهولة تجرده من كل قوة وضعف ورغبة وأمل ،يتحول الفرد إلى رقم بلا اسم ، بلا نوع لا ذكر هو ولا أنثى ، يتحول العقل إلى شريحة ألكترونية ، يتم شحنها ، ليتحول الأمر كله إلى “آلية ” بلا نهاية ، فى هذه الحالة يسقط شخصان فى حفرة هائلة ضيقة ، يسعى المسئولون لإنقاذهما ، وتفشل الجهود ، فيكتفون بالحفاظ على حياتهما ، فيرسلون لهما كروت الشحن التى توضع فى عقولهم ، ويرسلون لهم الطعام والماء ، وعبر توالى الفصول ، نعرف أننا أمام أنثى وذكر سقطا فى الحفرة ، وندرك محاولاتهما للتخلص من الكروت الموجودة فى شريحة توضع بالمخ ، لكنهما يتخلصان منها بعد جهاد وعنف ” شددت فروة رأسى مرات ومرات ، حتى لانت ، وارتخى الجلد ، نشبت أظافرى حولها أشدها ، … ، وفتحت رتقا فى الجلد ، ونزعتها ، ويدى يتساقط منها الدم ” صـ53
ومن هنا تنبثق حياة جديدة هى الثالثة بعد : آدم وحواء ، ثم قابيل وهابيل ، ثم هذا المد البشرى الطبيعى ، عبر هذين الذين سقطا فى الحفرة ، فصار الرجل ” جموع الذكر عبر التاريخ ” وصارت الأنثى ” جموع الأنثى عبر التاريخ ” ولهذا تنبثق بينهما الرغبة الجسدية ، بعدما كان ينظر إليها أنها ” تعبير صريح عن حيوانية الإنسان ، وعدم اكتمال إرادته ” صـ15
تحولات الرواية هنا تستعصى على تتبع الحدث ، حيث سنجد قصة ” إيزيس وأوزوريس ” تخترق السرد بتأمل جديد ، مثلما اخترق السرد مرة أخرى بالفصل رقم 13 والذى يحتوى خمسة مقاطع لصور الموت والتفنن فيه ، ثم نجد الرواية تصف رحلة الكاتبة / الساردة لتونس ، ومشاهداتها بها ، ثم تدمج الصفحات الأخيرة كافة أزمنة الرواية لتصل للميلاد الحقيقى برمزيته من خلال ميدان التحرير ، وإن انتهت الرواية وهى تحمل خوفا غامضا من شىء ما ، بقولها ” لففنا آدم وحواء بقماش أبيض يكسوه العلم ، صعدنا تحت إلحاح الجموع إلى أعلى منصة فى الميدان ، قالوا إنهما التجسيد الحى للانتصار ، ويجب أن تراهما الأرض كلها ، وعندما وصلنا رفعناهما وسط هدير البشر ، وانطلقت الاحتفالات ، ولكن كان هناك غرابا أسطوريا يحلق فى السماء ” صـ 104.
ـ حول البساطة والتعقيد :
يبدو التعقيد فى هذه الرواية أمرا لازما ، بل يصبح سبيلا لمنحها قيمتها الحقيقية ، حيث يضمن للعمل بقاء لا يرتبط بحدث مهما كانت قيمة هذا الحدث ، وكل تعقيد لا يحمل فنا لا يعول عليه ، ولا ترتفع قيمته ، ولذا فنحن أمام بناء روائى متراكب ، يتطور عبر أربعة وثلاثين فصلا ، تتحول الكاتبة من زمن إلى زمن ومن ضمير سارد إلى غيره ، لكن القارىء البصير سيرى الرواية تبدأ وتنتهى فى الميدان – ميدان التحرير – وكل ما عدا ذلك تجليات للمشهد ، وقد اعتمدت نجلاء علام على الترادف اللفظى وسيلة لتوصيل الرسالة ، ففى نهايات الرواية نقرأ : “هنا فى ميدان التحرير ، أشعر أننى أغوص فى أعماق الأرض ، حتى أصل إلى حفرة تضمنى ، وأرانى أحتضنه ، هذا الرجل ظل يطاردنى فى الميدان يوزع الماء والتمر ” صـ82
إنه نفس المشهد الموازى للتنويعة الأولى فى الرواية ، حين يسقط اثنان فى حفرة ثم يلقى لهما الماء والتمر ، إنه تنويع على نفس اللحن الأصلى ، غير أن ثقافة الكاتبة منحت الرواية “رؤية ” أعمق وأبعد غورا ، وهى – كما سبقت الإشارة – محاولة للهروب من مباشرة العمل السياسى الذى يكون – والتعبير للروائى ستندال – مثل الطلقة فى حفل صاخب ” .
القارىء يحتاج بالطبع لـ ” حكاية ” يستمتع بها ، والأعمال الروائية والقصصية الخالدة يمكن النظر لها من هذه الزاوية ، زاوية الحكى ذاتها ، وهو ما يقوله فورستر مثلا ، لكن الحكاية جانب بنائى بجوار اللغة والفكرة والرمز والدلالة ، ولذا فالرواية التى بين أيدينا تخاطب الروح ، وتحتشد بثقافة كونية هائلة لدى الكاتبة ، ويمكن القول باطمئنان أنها رواية أرستقراطية للخاصة .
ـ الأسطورة / الحلم فى الرواية :
تحظى فكرة توظيف الأسطورة بمكانة كبيرة فى أدبنا ونقدنا الحديث ، خاصة مع قدرة الكاتب على دمج الواقعى بالأسطورى ، وإسقاط الحد المتوهم بينهما ، وهو ما فعلته ” نجلاء علام ” بثقة وبراعة ، جسدتها فى الثالوث (الواقعى / الأسطورى / الخيالى ) والخيالى أعنى به الخيال العلمى الذى وظفته بشكل مغاير كما سنرى ، لذا تخرج الكاتبة من لحظة الواقع إلى الحلم لتأكيد معنى تال ، تتأكد بشكل جارح وقاس ، كفكرة التضحية من أجل المبدأ ، فى الفصل الخامس عشر نجد حلما ينتهى بـ ” أحرقتهم النار ، ولم يبق منهم سوى شجاعتهم وشرفهم ، أما نحن من وجدنا كهفا ، واختبأنا فيه عشنا ، ولكن عيش المذلة والجبن ، وكان علينا أن نكفر عن خطيئة حياتنا بإهمالها هذا الإهمال البشع ، الذى جعلنا فى النهاية لا نعيش الحياة ” صـ 52
ثم ياتى الفصل التالى كنموذج تطبيقى للرؤية السابقة ” الحياة لا توهب ، انشبى أظافرك وخذيها ” صـ53
وقد لجأت الكاتبة لاتخاذ الحلم وسيلة لعرض الأسطورة ، فى سابقة ذكية ، حيث نجد الأنثى فى الرواية حين عرفت الحب ، وهى ساقطة مع حبيبها فى الحفرة ” تأخذها سنة من النوم ، فترى إيزيس تجرى فى الطرقات ، وتلملم أشلاء أوزوريس ، ………” صـ63
وهكذا فكل شىء يتخذ رمزيته من منطق الرواية ذاتها ، هذه الحفرة التى اتسعت ، حتى صارت وطنا ، هذه النبتة التى زرعتها الأنثى حتى طالت لتكون سبيلا للخروج من ضيق الوهدة ، هذه الطيور التى دعتهما للطيران من غصن إلى غصن حتى بلغا موضع النور ، ليلتحم الأسطورى بالواقعى حين يصل الاثنان إلى ميدان التحرير .
ـ البنية الماكرة :
عنوان الرواية كما سبقت الإشارة مأخوذ من الفصل الثانى من كتاب الموتى ، وهو كتاب بدأت فكرته تظهر مع الدولة الحديثة ، بأن يوضع كتاب به بعض النصائح والحكم فى ورق بردى ، ويوضع فى صندوق مزخرف بتمثال صغير لأوزيريس ، وهناك مئات المخطوطات تتضمن تلميحات عن جميع نصوص الديانة والرقى ، وعنوان هذه النصوص “صيغ للخروج نهارا ” وقد ظهر هذا الكتاب الذى يضم 190 فقرة منظمة عام 1842م بعناية لبسيوس . (معجم الحضارة المصرية القديمة “صـ281 وما بعدها .
اللافت للنظر أن محتويات كتاب الموتى يوازى بشكل ما مضمون الرواية ، حيث يبرز أوزوريس القادر على قهر أعدائه ، وتضم تعاويذ لوقاية الميت من أكل البراز وشرب البول ، ولتمنع الميت أن يسير مطأطىء الرأس ، وأن تكون له القدرة على أن يعود ليرى بيته على الأرض ، وينفذ إلى السماء ، وألا يموت مرة ثانية …
هذا التوازى الذكى بين الرواية وكتاب الموتى ، يعطى للرواية بعدا وجوديا ، حيث ترتبط الأزمنة ، وحيث تتيح الكاتبة لروايتها لغة كلغة النبوءات ولغة الأساطير كما سنرى ، ثم إنها ارتبطت بفكرة من الخيال العلمى ، يقوم أساسها على المستقبل الذى ينزع من الإنسان كافة أموره العاطفية القلبية الشهوانية ، ويتركه فريسة لقوة غامضة مرعبة تتحكم فيه ، وهى فكرة لها أساس علمى قائم ، حيث تتكىء الكاتبة على مشاريع حقيقية لإنسان المستقبل الذى يعمل بعض العلماء لتكوينه ، كعالم المستقبليات الفرنسى جويل روسنى فى كتابه ” Lhomme symbiotiqe أو الرجل السامبيوتى ” حيث يسعون ليكون إنسان المستقبل توليفا معقدا من الذكاء الرقمى والذكاء البيولوجى ، عبر ما يسمونه بالأنسال ، هذا التوليف العبقرى الذى سيدفع إلى حدوث نوع من التطور المذهل ، ليصبح الإنسان آليا ذا مشاعر تتفاعل مع غيره من البشر ، بمعنى آخر يصبح للروبوت مشاعر تتفاعل مع البشر ، وهى تضاد لفكرة الكاتبة ” **
ولهذه البنية المعقدة تبشر الكاتبة بنوع من الإبداع العقلى الواثق من طرح فكرته عبر عمق مبهر للحدث والفكرة واللغة . مع ملاحظة بعض التشويش فى منطقية الحدث ، فمثلا : نجد الإدارة تصر على إرسال الكروت لهذين الساقطين فى الحفرة ، ثم نعرف بعدها أن الكروت هذه داخل الرأس وأنها لا تتبدل ، كذلك بعض الخلل فى التذكير والتأنيث بين الأنثى والذكر فى الحفرة ، حيث نعرف أن اللغة لا تفرق بين المذكر والمؤنث ، ثم نجد الفتاة تسأل : لماذا يصر على تذكيرى … وربما يعود هذا التشويش لسيطرة أجواء الحلم على الرواية فى هذه الجزئية .
ـ الانحياز للانثى : لغة وسردا :
من الطبيعى أن تنحاز الأنثى للأنثى ، لكنه انحياز ناتج لقدرة الأنثى على البوح بمشاعر الأنثى ذاتها ، وتبدو ” نجلاء علام ” واضحة الانحياز للأنثى منذ مجموعتها ” أفيال صغيرة لم تمت بعد ” حيث يشير الدكتور محمد عبد المطلب إلى إهداء الكاتبة مجموعتها إلى “الأم قبل الأب ” ثم اقتصار الإهداءات الداخلية على النساء ، وفى متن المجموعة ذاتها نجد ميل مفرداتها إلى التأنيث ” وكأن الحياة قد تلونت بلون الأنوثة ، وربما سحبت الراوية كفها من الكف الأخرى ، فربما كانت يدا ذكورية ” صـ 100من “بلاغة السرد النسوى ” د. محمد عبد المطلب .
وهو ما سيلاحظه قارىء رواية ” نصف عين ” – صادرة عام 2000م عن هيئة الكتاب – رغم أن المؤلفة تهدى الرواية إلى ( أبى وأمى .. إلى زوجى هشام : كل شىء أهديه إليك ضئيل حتى القلب ) فالمتن يندفع بقوة نحو الأنثى : لغة ورؤية وانحيازا ، وربما يصبح الرجل حلما فى الرواية ” بعدها ظللت أهتز عليه – الكرسى الهزاز – لكن أبدا ، لم يشق الجدار رشدى أباظة ، ولا حتى أحمد رمزى ..
ولا مصطفى قمر ؟ صـ 9
و” نصف عين ” تنحى منحى اجتماعيا واضحا فى رصد الفقر وتداعياته وقهره ، من سفر وعنوسة وأحلام مشوهة ورضا بالواقع مهما كانت درجة انحداره .. أما فى رواية ” الخروج إلى النهار ” فالتجربة – بلا شك – تختلف كثيرا ، حيث انحيازها لتيار الرواية الجديدة ، من خلال التنوع الثرى فى السارد ، وفى الرؤى وفى التداخل بين الأزمنة … إلخ .
ورغم هذا الاختلاف ، فقد حازت الرواية على حس أنثوى صارخ فمن خلال أربعة وثلاثين فصلا ، تطل المرأة عبر أكثر من ثمانية عشر فصلا ، مقدمة نضالها الناعم الذكى المؤثر :
سأصنع من هابيل رجلا له أقدام يزرعها فى الأرض ” صـ18
كونى أنسا وبهجة ، كونى الرواء للظمآن ، كونى العشق للمريد ، كونى القلب للجسد ” صـ55
فلتكونى إذن حواء .. – لا بل إيزيس ، أو أفروديت ، أو بلقيس . صـ 70
وهكذا يظهر طابع المرأة قويا مؤثرا مدهشا ، حتى اختيارات الرواية للنماذج يتوقف عند المرأة القوية الفاعلة ، ثم تأتى رحلة الكاتبة ذاتها إلى تونس ، لتأكد واقعية الرواية ، وأن هذا التداخل الزمنى ، هو انعكاس لرحلة المرأة عبر التاريخ ، سعى المرأة لاجتثاث الإنكار الهائل لها ، تصف الكاتبة رحلتها رغم ما يراود القارىء أن هذا الفصل خارج السياق الروائى ، رغم أنه يفسر تلاحم بنية الرواية بشكل ممتاز ، فتأكيد ذات الكاتبة يربط الخيالى بالواقعى ، وأنها رمز للأنثى ، أو قل نموذج لها ، تنحاز للأنثى [ سجيعة التونسية ] القادرة على إدارة دفة حياتها كما تريد ) صـ88
فى موقف آخر نقرأ على لسان الأنثى ( ها أنت ترين ، إننى أدفع حياتى ثمنا لكرامتى ) صـ82
وقبلها نقرأ عن المرأة النماء / العطاء :
” منذ بلغت العاشرة وليت أمر الشجرة : أنظفها وأرويها وأغسلها بالماء ، أقص فروعها النافرة ” صـ 60
ها أنت ترين أننى أدفع حياتى ثمنا لكرامتى .
خذى منى الإصرار والشموخ .
بهذه اللغة الراقية المعتقة من خمر النصوص الدينية القديمة ، اللغة التلغرافية الخالية من الثرثرة ، الحافظة لمجاز الفصحى ، الباعثة على النشوى ، تقدم ” نجلاء علام ” واحدة من أهم روايات الثورة .
___________________________
* نجلاء علام – الخروج إلى النهار – الأدهم للنشر والتوزيع – القاهرة 2013م .
** انظر المقال القيم للدكتور أمير زكى بمجلة العربى العلمى يونيه 2013م
صـ18 ، بعنوان أخلاقيات العلم بين الإنسان والأنسال ” .
………….
نشرت هذه الدراسة بمجلة الرواية – ملف خاص– العدد 15 – يونيه 2015