فى رواية ( الخروج إلى النهار ) الصادرة عن دار الأدهم بدت الكاتبة ( نجلاء علام ) حريصة منذ البداية على مدركاتها المعرفية لأن تكون متكأ البنية الروائية ، وهى تعود برؤيتها الباحثة فى نشأة الكون ومجيئ الإنسان وتطور الحياة على سطح الأرض سعيا إلى خروج يخلص الإنسان من أغلاله ويحرره من عادات وتقاليد ترسخت اجتماعيا وسياسيا لأجل إحكام السيطرة على تطلعات البشر ، سواء من سلطات استبدادية أو اعتماد العلاقات الإجتماعية على تكلسات تاريخية لأخطاء سائدة .
وقد حرصت الكاتبة على ألا تقدم لنا تاريخا بقدر ما جعلت التاريخ مسارا ً منطقيا ً لأحداث الرواية على نحو قام على رؤيتها الخاصة بالعالم انطلاقا من قاعدة النفرى الشهيرة – كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة – ، لذا جاءت الرواية شديدة التكثيف فلم تتعد صفحاتها المائة وأربع صفحات من القطع الصغير ، وفى أربعة وثلاثين لوحة قصصية تكاملت وهى تشكل بنية الرواية حاملة خصوصيتها فى التقطيع والا ستطراد والتواصل.
ومن الغلاف الذى جاء إخراجه الفنى موحيا ً ومعبرا ً عن مضمون الرواية وحتى الغراب الأسطورى الذى عكس دلالة الشؤم فى نهايتها ، يتبين لنا أن البطل هو الفكرة ، لذا مضت معها الرؤية السردية محتشدة ومتقدة معرفيا ً ولغويا ً لكى تعكس جوهرها عبر حشد التفاصيل ورشاقة تأويلها بشكل مكثف .
أيضا بدت الكاتبة شديدة الحرص على ألا تتزيد وألا تزايد بتحليقاتها على ما يعكسه الكون من متناقضات أو توافقات ، بل بدت شديدة القسوة والصرامة مع نفسها وهى تحلق فى آفاق عدة ، لأجل أن يكون التكثيف ليس فقط ملمح إبداعى بل ملمح فنى تقوم عليه خصائص الدلالة ، سواء فى الكتابة أو معطيات الرؤية ، حيث الخلاصات هى التى تؤثر فى تشكيل الوعى وتدفع بالفعل لأن يقدم أقصى ما عنده إثراء للحياة فى هذا الكون فى أدق توجهاتها ، لذلك فإن انطلاق الرواية من نشأة الخليقة هو الدليل على أننا أمام نص يجمع ما بين الحالة والفكرة ، إضافة إلى أنه يعنى مفهوما رؤيويا أنك لكى تكون قادرا ًعلى الحضور والمشاركة لابد وأن تعرف من أنت أولا ، فإذا ما امتلكت يقينك كنت قادرا ً على النظر والتأمل ، وهنا ارتبطت نتيجة المعرفة بالنص الإلهى ممثلا فى الكتب السماوية ، حيث جاء القرآن الكريم كمرجع عقائدى ومعرفى وملهم للرؤية منذ هبوط آدم وحواء إلى الأرض ليوثق التحلقيات وهى تمضى فى رحلة الكشف دون أن تتوقف تجلياتها .
فيما يخص السارد وإن تعددت صوره التى يروى فيها عن ذاته أوعن غيره إلا أنه صوت واحد للراوى العليم الذى غاص فى عمق هذا الماضى السحيق ، وهو يحلق من خلال آنية اللحظة التى يغوص فيها وفى ذات الوقت يربطها بالراهن وهو يلملم مسارات رؤيته فى اطار روائى تحرر من البنية التقليدية المألوفة ، حتى وإن تتبع فوتوغرافية النشأة التاريخية المعروفة للذاكرة العامة والتطور عبر آلاف السنين وفيما بينهما دوافع الصراع لأجل البقاء انتصارا ً وانكسارا ً وبقاءً وفناءً ، إنه صراع الكائنات التى تقودها غريزة الوجود دفاعا عن نفسها ، وفى ذات الوقت تقدح تفكيرها لأجل تطور حياتها وتلمس الوسائل التى تحقق لها الرقى والدفاع بمستوى أكثر قدرة على الحماية وتوفير الأمان .
بدافع من الحياة البدائية تشكلت وانطلقت الأفكار والتصورات المتطلعة لاكتشاف المجهول لأجل أن تكون الدنيا أكثر أمانا ً وأكثر احتواءً للعاطفة الانسانية ، كذلك أكثر اتساعا ً لأن تنهض الأجيال الجديدة وقد تجاوزت كل المعوقات ، لهذا ربطت الكاتبة ( نجلاء علام ) بين الماضى والحاضر فى لقطة وفى جملة وفى خيال مجنح وفى نزوع فلسفى وفى رؤية تقف على باب الانتظار حتى تفتح لها المغاليق .. الخ ، وذلك منذ بداية الصراع بين الرومانسى المحب هابيل والطامح القوى قابيل حيث أطلت الدنيا من بينهما آمله أن تكون لإحداهما .
ففى رؤيتها للبحث عن كنه الوجود عادت الكاتبة إلى البداية كما سبقت الإشارة حتى ترى لحظة الكون الراهنة ممثلة فى الشهادة والاستشهاد ، لذا ربطت فى خروجها الدلالى ما بين تلك البداية وثورة يناير التى قامت في مصر بعد آلاف السنين ، فالخروج إلى النهار يحيل دلاليا إلى الخلود وتجدد الحياة ، بمعنى أن ذلك الشهيد المبتسم الذى أهدته نجلاء علام روايتها هو الذى صنع باستشهاده هذا التحول المصيرى للبشر ذاهبا للخلود الأبدى فى حقول الجنة ، وهو ما يعنى الانتقال من الموت الحياتى إلى حياة مخلدة فى الموت ، تلك الحياة وكل هذه الملامح تنتهى بنا إلى أننا أمام رواية حالة قامت على نسق معرفى لذات واثقة تخلصت من عقدها التاريخية كامرأة وكأنثى ، وقد حملت لنا تلك الحالة من تجليات الذات ما حملت ومن همسها أيضا ً فلم تنفصل عن واقعها وهى تتأمل وتسافر بالرؤية للماضى وتعود ، كما أنها تسبر أغوار علاقة الرجل بالمرأة والتفكير الأزلى الذى يربط بينهما ومفهومهما لتلك العلاقة الوجودية ، ناهيك عن تلك النظرة الأكثر فلسفة عند المرأة وهى تتعامل مع أولادها وزوجها ومع الحياة بشكل عام .
عبر متوالية قصصية قامت على إيقاع الحكى المحلق مثلث الفانتازيا حضورا ً لافتا وإن كان غير مباشر فى مواضع كثيرة ، حيث تبنته الذات الساردة على ألسنة متعددة سواء كانت أصواتا ً أو صورا ً ، فى المقطع السابع تقول الكاتبة ( وتوالت الصور ) .. أى أن الإيقاع حركى مستمر فى مضيه السردى ، ثم تكمل .. ( كأننى فى لجة اتخبط بين صحو ونوم – أحلام يقظة – ، أعلو بسرعة جنونية ، أطير بسرعة جنونية ، أعبر نفقا طويلا من الزمن نفقا معتما موحشا خاليا من الهواء .. أخرج منه على ديار واقوام كلما أمر على أحدهم يلقننى الأمانة كى أفرغها بين يدى مولاى عند المثول ) .. ص 23 .
فى نفس الوقت تتماهى الكاتبة من خلال قصة آدم أبو الخلق مع القرآن الكريم لترسم عبر رؤيتها وهى تحكى متوالية من الصور السردية لآدم الجديد … ( وتعلم آدم السعى للطيبات والندم على الخطيئة ، واكتملت الفطرة ) ،وهنا تأتى الصرخة منبهة لآدم بأنه سيصلى بنار اختياره .
وبينما ترتكز الرؤية على شاعرية الصياغة وتتكئ على دلالة شعرية وتاريخية نجد أن المناخ الكابوسى يمثل حضورا ضاغطا على نحو ملحوظ ، الخيال يأخذ المنامات إلى هذا الجو أخذا ً لأجل أن ترتفع ألسنة النار مثلما جاء فى المشهد رقم ( 15 ) ص 52 .. ( كنت فى منامى أرى نارا ً عالية صاعدة إلى السماء ، نارا ً من شدتها أذابت السحاب وجعلته مطرا ً ، كنت واقفا ً وخلفى ملايين البشر ، وحسبنا أن المطر سيطفئ النار ، ولكن كانت حبات المطر كاللهيب تزيد النار اشتعالا ، الكل يجرى باحثا عن مأمن له ، جرى الكثيرون خوفا من النار فى كل اتجاه ، وجرى الكثيرون إلى النار ذاتها فاحتضنتهم وكنت أراهم كراقصى الإيقاع داخلها ، وحسبت أنهم يستمتعون بشكل ما ، فقد تحرروا من خوفهم ) هذا قبل أن تفضى إلى حالة الأنعتاق والتحرر والتطهر فى المشهد رقم ( 16 ) ص 53 ، وهذا واحد من المشاهد المفصلية فى الرواية ، حيث تتحقق فيه الصياغة المعبرة عن رؤية الرواية برشاقة ووعى شديدين، فالذى يتلوى ويرتطم بالصخور ويخور كالثور ويطن كالذبابة قابض على شريحته فى كفه رغم انهياره ، كما يمتلك يقين يبثه لحواء بأن – الحياة لا توهب ، انشبى أظافرك وخذيها – .
تحاول بعدها هى الأخرى ان تنشب أظافرها لأجل أن تشد شريحتها فعانت قبل أن تقتح رتقا فى الجلد لتنتزعها بالدم ، علا صوتهما كل يعبرعن جنسه على الرغم من أنهما كانا يتحدثان بلغات كثيرة مختلفة لم تكن معروفة لهما من قبل .
أيضا يتجلى المنظور الفانتازى أكثر فى المقطع التالى ( 17 ) على فتيات كالملائكة يرحبن بها ويحملنها عارية لجدول ماء رائق وطيب أمامه جبل ليس له نهاية ، وهنا يصعد الواقعى للفانتازى المعنوى قبل أن يعود المادى الجسدانى ليطل فائرا ً وثائرا ًتواصلا مع التأكد على قضية الوجود التى انطلقت بالحياة من العدم ، ثم مضت مساعيها على طريق التحرر والانعتاق من قيود وأفكار ظلت بمثابة سجون لحقب كثيرة ، وما تزال حواء تبث روح البعث فى بنات جنسها اللائى هن مبعث الحياة وتجدد ديموتها الأبدية منذ النزول إلى الأرض .
ثم مع تطور الوعى ورقى الأحاسيس تنبنى الأفكار وتنهض ببعضها البعض ، كما ترتقى المشاعر فتنضج العلاقة بين الرجل والمرأة فى مختلف شئون الحياة بشكل طردى ، لكل هذا وليس باعتبار أن العلاقة علاقة صراع بل علاقة أدوار ومسئوليات تكمل بعضها البعض .
فى المقطع العشرين تتواصل الذات مع الحياة لذلك بنت الكاتبة دلالة اللوحة الروائية على فكرة ( الخروج للنهار ) ممثلة فى الحضور الموحى للوحة البديعة للعبقرى بيكاسو دون أن تسميها باعتبارها من خلال حواء المطلة من النافذة تعبر عن الوجود وعن قيمة الحياة فى سياقها المعنوى ، فالرسام الذى جاء به الأب ليرسم لكل فرد فى الأسرة لوحة كان نصيبها تلك الصغيرة أن رسم لها صورة حققت بعد ذلك شهرة واسعة وقيمة مادية عالية ، غير أن الإدراك بأن الصورة الزيتية الجميلة هى دلالة معنى الوجود ، لذا رفضت أن تبيعها مهما كان الثمن المعروض حتى بعد أن انتقلت إلى بيت الزوجية .
غير أن الأسطورة فى المقطع الواحد والعشرين تبرق أكثر فأكثر من معرض للآثار القديمة ، حيث يتجلى المادى فى المعنوى والعكس – أسطورة ايزيس وأوزوريس – تسقط دلاليا على مخيلة البطلة وأفكارها المتوزعة فى زوايا عدة ، كذلك الحال فى المقطعين الثانى والعشرين والثالث والعشرين حيث تمضى السباحة الشعورية بين شاطئين على ايقاع شاعرية اللغة ، ومع حضور الأسطورة تنتقل الرسائل عبر الزجاجات المتبادلة فيتحقق التواصل العاطفى رمزيا ً فى همس خال من الشوفينية ، فبعد تبادل الرسائل عبر الأمواج والفرح بها تتفجر المشاعر ويحضر اليقين لدى كل منهما عبر السؤال المؤجل منذ قرون – من أين نبدأ – هذا سؤال وجودى يبحث فى رقى العلاقة بين الرجل والمرأة ومدى تمكن الوعى المتبادل من التغلب على ما هو مصطنع من حواجز وعراقيل ورفع التصورات والمفاهيم الخاطئة وظلت على ذلك لقرون مضت ، لذلك جاءت اهمية السؤال وأهمية البحث عن اجابته .
تستكمل ( نجلاء علام ) توسيعها لدائرة الفضاء الدلالى فى المقطع الرابع والعشرين بالحوار حول تسمية الكائنين البشريين لكل منهما ، فهى استقرت على تسميته بآدم فيما هو مختلف على تسميتها بإيزيس ، فإما أن يكون أوزوريس أو الاسكندر أو هانيبال أو تكون هى حواء ، لكن لأنها تسعى للجديد فرأت باختراع أسماء تعبر عنهما ، يأكلها القلق بعدما ذهب ليختار لها اسما فاختار ديما واختارت له جبل ، لكن على الرغم من استئناسهما للإسمين اتفقا على تغيرهما كلما كانت الحاجة لذلك ملحة وانتهى الآمر على أن الإسمين لم يعدا يعبران عنهما ،وهنا تحرص الرؤية علي رفض التكلس والتحررمن النمط السائد.
وفى محاولة متجددة يأتى المقطع الخامس والعشرون ليكشف القدرات الداخلية للذات ، كذلك قدرات العقل على إدراك غير المدرك فى تلك الذات ، فبالنظر للطائر المغنى وتحليقاته تتحرك الرغبة فى الطيران ومصادقة هذا العالم العلوى الحر ، لكن كيف وفى سياق هذا المقطع تقاطرات الحكمة الدلالية التى تخلخل تقليدية الفكر والخيال .
فالطيران لا يعلم لكنه شئ ينبع من الداخل تحقيقا للحرية والانعتاق ، عدم النظر حول النفس بل النظر داخلها حتى يمكن باغماض العين رؤية بقعة الضوء التى تدفع إنطلاقات الطيران إليها .
ثم تتجلى الحكمة أكثر على لسان الهدهد على أن الذى تحول إلى طائر مثلهم يطير كما يطيرون ، فكان أن قال ( الطيران ليس جناحين وكفى ، بل تدريب للنفس ومحاولة اكتشافها ، وكلما وجدت داخلك شيئا جديدا جميلا ، علوت وسموت ) . ص 74 ،وهنا تبدو الدلالة المضمرة قائمة على التوحد مع الطبيعة ،أى أن الانسان كلما كان متواصلا معها كلما كان قادرا علي كشف الكامن في ذاته باكتشافه المزيد من الأسرار0
غير أن أحلام التحرر ليست هى النهاية عند التحقق لأن أشواك الأحلام الساعية للسلام كثيرا ما تدفع بالشوق المتحول للعودة للبشرية طالما أن القلوب تحمل أصحابها ، وها هى الرغبة تتحول إلى عناق أسطورى تحول فيه الجسدان إلى جسد واحد يخاف أن ينشق، وهو ما يعنى أن الرؤية تربط فى نظرتها للوجود وعبر التحول الانسانى بأن مسعى التحرر والتخلص من العقد لا يكون إلا بالعناق وتحقق الحضور البشرى فى كل شئ، وهو ما عكسه المقطع السادس والعشرين استمرارا وتواصلا وتحققا ، حيث ما يزال التحليق بجناحى الطائر وخيال الحالم ، خاصة وأن الذات تذهب لأقصى مدى لها فى التحليق بعدما تحقق على المستوى الحميمى دون تحسب لأية حواجز ، فالرومانسية تأخذ النفس إلى أعلى مراتب الخيال لتأتى بأعلى ما تتطلع إليه المشاعر وهو ما كشفت عنه الإشارات فى المشهدين ( 28 ، 29 ) ، غير أن المشهد ( 29 ) انتهى إلى استلهام الحكمة متصلا بوقفات سابقة ارتبطت كلها بفكرة الوجود التى تستلهم من بقائها وتجددها نزعة الخلود .
وإذا كانت الكاتبة قد ارتكزت على الصورة القصصية فى صياغة التحليقات فإنها لكى تدخل فى الجو الثورى كان لابد لها من الذهاب إلى تونس عبر أدب الرحلات ، ففيما بين تداعى التفاصيل تجيئ دوما اللحظة التى تراهن عليها الكاتبة فتحكى طرفا مما جرى فى تونس بان ثورة الياسمين ، وما جرى معها وهى فى صفاقس وكيف دارت عجلة الحياة فى الشوارع والتفكير فى المستقبل .. إلخ ، ثم ترصد توالى الثورات العربية من صورتها الخارجية ، لكنها تتوقف دلاليا ونفسيا مع الثورة المصرية باعتبارها مفرد فى التشكيل الجماعى .. ( يومها نمت وحلمت أننى وردة تخرج من قلب ميدان التحرير ) وتنتهى بها حالة الفضفضه إلى أنها حلقة من حلقات قضية الوجود كأنثى وكإنسان بشكل عام وحالة الحصار الاجتماعى التى تلازمها 0
وإذا كانت الثورات العربية قد أخذت الإنسان العربى للحرية والكرامة فذلك لأنه بالعقل يستحقها وهنا يتجدد الأمل فى الحمل والانجاب بعد فشل دام لخمس مرات على أن تواصل الأجيال هوالتحدى والرغبة المتأججة دوما فى إطار فكرة الوجود والخلود ، والتى بدأت الرواية من عندها وانتهت عندها أيضا مستشرفة فكرة التحرر والتطهر والتى تهيأت فى المقطع الثانى والثلاثين لتكون ثورة المصريين يناير 2011 هى الحلم الذى صار حقيقة وكبر معه الخوف على الأبناء القادمين مع الميلاد الجديد ممثلين فى المولودين الجديدين آدم وحواء – ، لكن نذر الشئوم ماتزال تحلق فى السماء من خلال ذلك الغراب الأسطورى .
لقد استخدمت الكاتبة ( نجلاء علام ) مجموعة من العناصر الفنية منها تقنية القصة القصيرة كما سبقت الاشارة ممثلة فى أن كل مشهد هو قصة قصيرة قائمة بذاتها ، لكنها موضوعة فى سياق تتابعى يشكل بنية هذه النوفيلا التى جاءت مثل قصيدة نثرطويلة باعتبار ما قال به بن جنى فى كتابه ( الخصائص ) بأن ( اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ) ، كذلك ما فعلته فى المشهد رقم ( 13 ) والذى جاء فى خمسة مقاطع مكملة هى الأخرى بعضها البعض رغم أن كل مقطع هو بذاته أيضا قصة قصيرة ، كذلك ارتكازها فى المشهد ( 14 ) على مقطع من قصيدة ( الطفل الضال ) للشاعر العظيم ( بابلونيرودا )
واصلنا السير في درب الوجود
أقداما أخرى،
أياد أخرى،
عيونا أخرى،
واصل كل شىء التحول،
وريقة و أختها،
علي غصن الشجرة
وماذا عنك؟
تبدل جلدك،شعرك،ذاكرتك
لم تكن ذلك الآخر
ذلك الآخر كان طفلا
مر عدوا،
وراء نهار،
خلف دراجة، الخ
أما التاريخ فحاضر كما لاحظنا مباشرا ً ومستلهما ً ومؤولا ً ومتجليا ً ، ناهيك عن العجائبى والغرائبى والفجائعى الذى استغرق مواقف متعددة لتحليقات الرؤية ، ثم ناهيك أيضا عن جملة من الشفرات الكتابية الممثلة فى جعل الأرقام بديلا لأسماء وغيرها من دلالات الربط بالطبيعة .
من هنا فإن الخروج إلى النهار هو منطلق لدبيب الروح فى حياة تنهض من العدم إلى وجود يضج بالعمار ويبدل همجية الأرض ويرتقى بمشاعر الانسان ويطور قدرته على ترويض الكائنات وتوظيف المخترعات ، كما يدفع بالإصرار إلى البحث عن مسارات جديدة للكشف والتحليق ، وتلك كانت مساعى الخروج التى استلهمت من تاريخة البشرية تأملاتها وهى تحلق بحالتها السردية من موضع إلى موضع دون أن تعنى إلابأن يكون تشكيلها المشهدى قائما ً على المعرفى المستلهم والخيالى المحلق والإنسانى المدرك 0
فإذا كانت هذه الرواية قد حققت درجة عالية من تأمل فكرة الوجود من خلال تفاعل الإنسان مع تجليات الحياة وتجليه معها ، فإنها تؤكد ما جاء فيما وراءها من محاولات لم تتوقف عن تدقيق التأمل والتأويل فيما وراء ما تتماثل معه الرؤية .
_____________________________________________-
نشرت هذه الدراسة بمجلة الرواية – ملف خاص – العدد 15 – يونيه 2015