مؤمن سمير
كانت القرية التي ينتمي لها أبي تسمى “بني صالح” ولا يعني هذا الاسم أن سكان القرية أولاد جد كبير يسمى “صالح” ولكنَّ المقصود أن السكان الأوائل لهذا المكان كانوا من الصالحين الذين تفرع نسلهم وامتد في الزمن.. والصالح في الريف المصري يعني إما الولي (سواء كان شيخاً نال المنحة الربانية بشكل صريح أو رجلاً عادياً ظهرت عليه الكرامات في أي من أشكالها) أو الشيخ المنتمي للأزهر( وكان هذا الأمر قليلاً في العدد وبالتالي مهيباً على الدوام).. كانت عائلتنا تنتهي بالشيخ “علي مؤمن” المنتمي للأزهر الشريف والذي أنجب أولاداً أصروا كلهم على السير على نهجه فأفلح البعض وأخفق الآخر بعد محاولات عجائبية لكنَّ الجميع ظل يتعامل مع نسله بقدر كبير من التقدير حيث أن الجامع بينهم عبر كل السنين كان الصلاح والطيبة المفرطة وهكذا كان اسمي هو” مؤمن محمد محمد علي علي مؤمن”، ثم تم حذف “علي” من السجلات تخفيفاً!! فصرتُ “مؤمن محمد محمد علي مؤمن” وهو اسمي الرسمي في كل الأوراق الثبوتية ثم جاءت القراءة لتُثَبِّت انطوائية الفتى الذي كنته لسنوات لكنها في الآن ذاته تفتح آفاقاً على الطرف النقيض من كل يقينياته الموروثة من الصالحين الذين يملؤون الأفق قبل أن تحل على هذا الأفق الكتابة وكتابة الشِعر بالذات والمرور بمراحله الفنية التي تُقَرِّب الشاب من صوته الفني وتبعده عن كل ما حوله، وهكذا كانت فكرة نشر الديوان الأول بعد انتهاء العام الجامعي الأخير قمينة بتثبيت فكرة أن الفتى ليس صورة مكرورة وهنا كان التخلي عن الاسم ضرورة لا مفر منها، الاسم الذي هو هوية وميراث إلى اسم جديد يختاره الانسان بنفسه بعد أن آمن أخيراً وبعد ارتعاش أنه يصلح للاختيار وبالتالي لفتح الآفاق لوعيه أن يجرب ويقرر أن يختار دوماً ويتحمل مسئوليته ومن هنا تم اختيار اسم “مؤمن سمير” ليكون اسماً مخاتلاً و ليس مجانياً يثبت السلسال المهيمن.. اسماً يبحث عن الانسان وليس واضحاً وصريحاً في انتماؤه لدين معين وهوية لا تعني إلا الاتباع والتقليد.. وخرج الديوان الأول في العام1999(والذي هو أول ديوان ينتمي لقصيدة النثر في محافظتي الفقيرة “بني سويف” في طبعة محدودة حاملاً كل ما يمكن تخيله من تمرد في الطباعة والترقيم والتقسيمات وأبطال وموضوعات الكتابة ومن ثم الأداء اللغوي- وهي قيم جمالية كان من الطبيعي إعادة النظر فيها بعد ذلك) ليتماهَ ذلك مع دراما الصراع لتثبيت الاسم الجديد.. خاصة أن هذه الخيانة جاءت من هذا الفتى “الغلبان” الصامت الذي “لا يرفع عينيه عن الأرض” خجلاً، واحتاج الأمر سنوات وابتعاداً واقتراباً بالإضافة إلى وفاة الكثير من الكبار لتهدأ الحكاية ويتم التعامل معها على إنها “شطحة” شيطانية خبيثة.. وإذا كانت حالتي الشخصية يمكن إدراجها تحت يافطة تغيير الاسم لتغيير الهوية من الانقياد لحالة الاتباع إلى براح القدرة على الاختيار والتنفس الحر، فماهي الأسباب الأخرى التي تدفع الكُتَّاب لاختيار اسم مستعار للتعبير عن ذواتهم وإبداعهم؟ إذا كنا في عالم عربي مرتبك حضارياً فمن الطبيعي أن يبرز سبب الخوف من القمع كسبب معتبر للتخفي وراء اسم مستعار، وتمتلأ الأدبيات الماركسية العربية مثلاً، بأسماء مستعارة أو حركية عرفنا بعد مرور الزمن أنها كانت لأسماء كبيرة مارست الكتابات السياسية والاقتصادية والإبداعية بكل أريحية تحت أسماء كودية.. وربما يتخفى الكاتب تحت اسم مستعار لأسباب اجتماعية وعائلية كما كنا نرى في بدايات القرن العشرين من تخفي كُتَّاب من عائلات وجيهة تحت أسماء مستعارة خوفاً من مساءلة طبقتهم التي لا تسمح بامتهان هكذا مهنة.. وربما يختار الكاتب لنفسه اسماً مستعاراً لأسباب نفسية تخص جرأته وقدرته على عرض أفكاره أمام قماشة متسعة من المتلقين وهكذا تضغط خطورة الأفكار التي يريد أن يوصلها عليه فيضطر إلى السعي لأن يتحرك بحرية في مساحة تصنعها يافطته الجديدة.. وفي حالات قليلة لكنها ليست نادرة، قد يكون هناك سبب يتعلق بضغط الثقافة في موضوع شائك وشخصي هو ما يدفع البعض لمحاولة تعويض التهميش والازدراء بالتواجد والاندماج والتواصل ولكن تحت هوية جنسية مغايرة درءاً للمخاطر، وربما يتذكر البعض معي حالة قدمت نفسها منذ سنوات للوسط الثقافي على أنها شاعرة مقيمة في بلد أوروبي وظلت تكتب شعراً ليس سيئاً مما جعلها تنشر في الكثير من المنتديات والمواقع والمنصات الشعرية بل وبعض الدوريات ويكتب بعض الكتاب عن تجربتها الجمالية قبل أن تفاجئنا شاعرة مصرية شابة بتوصلها عن طريق المصادفة لمعرفة أن الشاعرة المذكورة ماهي إلا ذكر شاذ يعبر عن هويته المؤنثة بهذه الأشعار وهذا الاسم وبعد هذا الانكشاف اختفت أو اختفى تماماً.. ودائماً وأبداً لا يمكن تجاهل “فريناندوا بيسوا” ، ذلك الشاعر والكاتب المغامر الكوني العظيم، باعتباره صاحب أبرز التجارب الطليعية في خلق أسماء وذوات وهويات أخرى، وأبدعهم وأكثرهم جرأة وجنوناً، حيث أبدع “بيسوا” بشكل مكتمل شخصيات وأنداداً كثيرة جداً بتوجهات وأفكار متباينة ووعي مختلف تتحرك إبداعياً بمعزل عنه وهكذا أثبت المبدع اتساع مخيلته و عمق نفسه التي تملك كل هذه الأنداد التي كان يبث من خلالها رؤاه وأجزاء نفسه التي بلا ضفاف.. وإذا كانت وجهتك الإبداع والفكر العربي فالاسم الأول والأبرز والذي سيجول بخاطرك سريعاً هو الشاعر اللبناني الكبير “على أحمد سعيد إسبر” والذي يرسخ في وعينا طول السنين الفائتة باسم “أدونيس” باعتباره صاحب أشهر لقب وأبرز اسم مستعار يخص مبدعاً وكاتباً ومفكراً عربياً على الإطلاق.. ويذكر الكاتب “عبد العالي مجذوب” في موقع “هسبريس” بتاريخ الأحد30أكتوبر2016 اعتماداً على العدد 6 من مجلة “عيون” الألمانية السنة الثالثة1998 وكذلك على حوار “أدونيس” مع “أندريه فيلتر”، في جريدة “لوموند” الفرنسية30 نوفمبر1984 ما يلي: ” قيل إن “أنطون سعادة”(1904- 1949)، زعيمَ الحزب القومي السوري الاجتماعي، هو الذي أطلق عليه هذا اللقب، لكنَّ “أدونيس” ينفي ذلك، ويؤكد أنه هو الذي اختار هذا اللقب لنفسه؛ يحكي أدونيس في هذا الصدد أنه، في بداية حياته الشعرية، وكان يومئذ يتابع دراسته الثانوية في اللاذقية، وعمرُه زهاء سبع عشرة سنة، كان يُرسل بعضَ تجاربه إلى الصحافة موقعةً باسمه الحقيقي(علي أحمد سعيد)، لكنها لم تكن تجد طريقاً إلى النشر. وذات يوم ــ يحكي أدونيس: “وقعتْ في يدي، مصادفة، مجلةٌ أسبوعية، لبنانية على الأرجـح، قرأت فيها مقالةً عن أسطورة أدونيس: كيف كان جميلاً، وأحبته عشتار، وكيف قتله الخنزيرُ البري، وكيف كان يُبعث، كل سنة، في الربيع.. إلخ. فهزتني الأسطورةُ وفكرتُها. وقلت، فجأة، في ذات نفسي، سأستعير مِن الآن فصاعداً اسمَ أدونيس، وأُوقِّع به. ولا شك أن هذه الصحفَ والمجلات التي لا تنشر لي، إنما هي بمثابة ذلك الخنزيرِ البري الذي قَتل أدونيس. وفعلا كتبتُ نصاً شعرياً وقّعته باسم أدونيس، وأرسلته إلى جريدة لم تكن تنشر لي، وكانت تصدر في اللاذقية. وفوجئتُ أنها نشرته. ثم أرسلت نصاً ثانياً، فنشرته على الصفحة الأولى…” ويتضح من النص أن اختيار أدونيس لهذا اللقب وإن أخذ سمت المصادفة إلا أنه ككل اختيار يخرج من مناطق واضحة أو مجهولة في ذواتنا فالشاب طموح لنشر أدبه وهو أمر معتاد، لكنه هنا تماهى مع هذه الأسطورة بالذات حيث يضمن له هذا اللقب هوية أكثر اتساعاً من الهوية التي تربطه باسمه المسلم البسيط وهي قيم حققها بعد ذلك بجلاء في إبداعاته وأفكاره التي لم يكن يحدها مجرد إطار ضيق بل تمتح من أكثر من معين وتحتمل تأويلاتٍ شتى وتفتحُ آفاقاً متجددة طول الوقت.. يقول أدونيس في الحوار سالف الذكر: “بتغيير اسمٍ جِدٍّ إسلامي(علي) لصالح اسم لا علاقة له بالإسلام (أدونيس)، فإنما كنت أضطلع بالعبور إلى الكوني. بإمضائي بهذا الاسم، كنت أتحرر من تراث جامد، وأكتسب حرية أوسع. وبهذا صرتُ قادراً على أن أُدرج التراث العربي نفسه في حركة الثقافة الكونية…” يشير “أدونيس” في هذا المقطع بجلاء لآلية تفكيره التي تؤمن بأن سجن العرب لثقافتهم وانكفاؤهم عليها تحت هيمنة أصولها المقدسة، لهو محض عبث وأن جهود المفكرين لابد وأن تسير في اتجاه دمج ثقافتنا في ثقافة الإنسانية و اكتشاف المناطق المضيئة الحداثية فيها وإعادة تقديمها للعالم، جنباً إلى جنب مع مساءلة هذا التراث وغربلته لإسقاط كل القيم الماضوية البالية وهو ما حققه بجهوده المتوالية.. وهذه أمثله فقط لكتبه الفكرية في هذا الاتجاه: كتابه متعدد الأجزاء «الثابت والمتحول: بحث في الإبداع والإتباع عند العرب» ، مقدمة للشعر العربي، زمن الشعر، صدمة الحداثة وسلطة الموروث الديني، صدمة الحداثة وسلطة الموروث الشعري، الشعرية العربية، الصوفية والسوريالية، النص القرآني وآفاق الكتابة، ديوان الشعر العربي(ثلاثة أجزاء).. وربما وضعت لجنة التحكيم لجائزة PEN/Nabokov العام 2017، في تعليقها على مسيرة “أدونيس” إطاراً معرفياً محموداً لهذه الجهود حيث ذكرت أنه: «من خلال قوة لغته، والجرأة في ابتكاره، وعمق مشاعره، ساعد “علي أحمد سعيد إسبر” المعروف باسم “أدونيس”، في جعل العربية والتي هي واحدة من أقدم اللغات الشعرية في العالم، نابضة بالحياة وحديثة. هو صاحب رؤية يحترم الماضي بعمق، وقد عبَّر عن موضوعاته المفضلة والمرتبطة بالهوية والذاكرة والنفي في شعر جميل مؤلم، في حين أن عمله كناقد ومترجم جعله جسرًا حيًا بين الثقافات. إن مجموعة أعماله العظيمة هي تذكير بأن أي تعريف ذي مغزى للأدب في القرن الحادي والعشرين يجب أن يشمل الشعر العربي المعاصر».. وإذا كان هذا التعليق يشير إلى تعدد مناحي إبداع “أدونيس” من الشِعر إلى نقده إلى الترجمات بل وفنه التشكيلي وجوائزه الخ فإن المقام لا يتسع لذكر دوره الشعري البارز بشكل مفصل ونكتفي بمقولة الشاعر “صموئيل جون هازو” الذي ترجم إحدى مجموعات “أدونيس” الشعرية: «هناك شِعر عربي قبل “أدونيس”، وهناك شِعر عربي بعد “أدونيس”» وسيظل اسم صاحب “أغاني مهيار الدمشقي”، “وقت بين الرماد والورد”، “الكتاب”، “تنبأ أيها الأعمى” مرتبطاً رئيساً بالحداثة الشعرية العربية حيث شارك في العام 1957 في مجلة “شعر” لصاحبها الشاعر “يوسف الخال” وهي المجلة التي يعتبرها العديد من النقاد العرب فاتحة للتجديد الفني الراديكالي.. وعندما نتطرق لشخصية عربية عظيمة أخرى اختارت أن تتمترس وراء اسمٍ مستعار سنجد الناقدة اللبنانية وأستاذة النقد العربي في أكثر من جامعة عربية وغربية: “د. يمنى العيد”، المولودة في العام1935 والتي اختارت أن تنشر بهذا الاسم، بدلاً من اسمها في الأوراق الثبوتية :”حكمت المجذوب الصباغ”، وكانت تعرف أيضًا باسم: حكمت الخطيب.. وقد أوضحت في مذكراتها الصادرة عن دار الآداب “أرق الروح”، أن والدها اختار لها اسم “حكمت” لأنه تمنى أن يرزق بصبي، وهذا الاسم كما تراه اسماً ملتبساً يصح أن نطلقه على البنات والصبيان، لذا فضلتُ عليه اسم “يمنى العيد” وهو الذي عُرِفَتْ به في الأوساط النقدية العربية.. وهكذا يكون الدافع لاختيار اسم مستعار نابعاً من محاولة الهروب من السجن في حلم الأب والإصرار على النجاح بالهوية الأصلية كأنثى وسط مجتمع يحترف التمييز، و يكون بالتالي تجاوزاً للماضي وأشباحه وانتصاراً للأنا التي تكتشف قوتها وتناضل لأجل فرادتها.. حازت ناقدتنا الكبيرة عدة شهادات تقدير وجوائز عربية منها “جائزة سلطان العويس”، كما اختيرت شخصية العام الثقافية في الدورة 38 لمعرض “الشارقة للكتاب” وكانت دائماً من الأساتذة الأوائل الذين يعول على جهودهم في مقاومة الذوبان في الآخر النقدي الغربي، ليس التجاهل الأعمى وهو أمر غير ممكن مطلقاً ولكن بالهضم والاستيعاب واختيار ما يلائمنا والبناء عليه ومن الاستفادة منه لبناء نسق نقدي عربي ذو جهود معتبرة. واستطاعت “د.يمنى” أن تحظى بمكانة مؤسسة في مشهد النقد الأدبي العربي عبر كتبها المتوالية ومنها «في معرفة النص» (1983)، و«الكتابة، تحوّل في التحوّل» (1993)، و«في مفاهيم النقد وحركة الثقافة» (2005)، و«حول نظرية الرواية: الراوي، الموقع والشكل» (1986)، و«تقنيات السرد الروائي» (1990)، و«فن الرواية العربية» (1998)، و«الرواية العربية: التخيّل وبنيته الفنيّة» (2011).. وقد شاركت كاتبتنا الكبيرة في مؤتمرات وندوات أدبية وفكرية في أكثر من بلد عربي وغربي، وهي عضو فاعل وعضو استشاري في أكثر من مؤسسة ومجلة ثقافية أدبية عربية، وعضو ورئيسة لأكثر من لجنة تحكيم آخرها جائزة البوكر للرواية العربية..
……………………. .
نقلا عن مجلة عالم الكتاب مايو 2025