إبراهيم سلامة
في حوش أحد مقابر البساتين جلس “عبد الحميد” ابن السبعة عشر ربيعاً يدخن سيجارته..
دائماً ما كان يحضر هنا هرباً من أمه أو من أمر يقلقه ويجلس وحيداً فى هذا الحوش الذى لا يعرف صاحبه، فقد اكتشفه بالصدفة، عندما أراد يوماً ان يهرب من مطاردة أحد الأسطوات الذى أخذ منه أجرة عمل متفق عليه ولم ينجزه، فأخذ يلف بين القبور الخالية من السكان حتى وجد باب الحوش مفتوحاً على مصراعيه وليس به أحد، فاستخدمه ليخلو بذاته عندما يريد أن يهرب من شىءٍ ما..
وهكذا “سعدية” تعودت على غياب ابنها عبد الحميد كل فترة من الزمن، فلا تسأل عنه، فهو دايماً ما يغيب أياماً ثم يظهر..
عبدالحميد، صنايعى مبلط يعانى من الكسل يعشق القهاوى.. يحلم بامتلاك توك توك ليرتاح من الصنعة ومن أسطوات الصنعة..
**
فى تلك الأثناء كان “فتوح”، عامل التراحيل الوافد من الصعيد منذ فترة وجيزة، يجلس على طرف الرصيف المقابل لمحطة المترو القديمة ومعه ثلاثة أجنات و مَرَزَبَّة هى كل عِدَّته، منتظراً الفرج فى زبون للقيام بأى عمل يرتزق منه بضعة جنيهات يسد بها احتياجات بناته الثلاث و زوجته الحامل،
وصل الزبون الذى يحتاج إلى تكسير المحارة فى الحمام لتركيب القيشانى،
ذهب معه فتوح بعد أن اتفقا على الأجرة..
انتهى فتوح من عمله لدى الزبون ونزل من عنده يسب ويلعن بعد أن اختلف معه على الأجرة، بعد وجد أن العمل أكتر مما اتفق عليه وطلب بضعة جنيهات زيادة عن أجرته فرفض الزبون وقامت بينهما خناقة..
بعد سماع سكان المنزل صوت فتوح العالى، تدخّل جاره لفض الخلاف..
نزل على أثرها فتوح يزفر وينفخ على الدرج المتهالك للبيت القديم، وكاد أن ينقلب على وجه من بعض الدرجات المكسورة، اثناء مروره بالدور الثانى وجد باب شقة ذي ضلفتين مفتوح نصفه، يظهر من خلفه صالة الشقة، والست أم سعدية جالسة نصف ممددة على الكنبة القديمة من بقايا أنتريه مغطاه ببطانية على ساقيها وجزء من جسدها، وأمامها التليفزيون مفتوح بدون صوت :
– سلام عليكم يا حاجة
كان ريقه جافاً فأراد أن يطلب منها كوب ماء، ولكنها لم ترد، فكرر السلام
– ممكن كوباية ميه يا أمى..
لم ترد أُم سعديه، فوقف أمام باب الشقة لحظات، ثم تقدم خطوتين داخل الشقة، ووضحت الصورة، فقد كانت المر’ة الجالسة مغمضة العينين، التفت بطرف عينيه سريعاً داخل الشقة فلم يجد أحداً سواها.. نادى عليها مرة أخيرة قبل ن يغلق الباب خلفه من الداخل بعد انأ تأكد أن لا أحداً بالشقة سوى هذه السيدة العجوز.. نظر إليها مرة أخيرة وجدها لا تتحرك، ظن أنها تغط فى نوم عميق من اثر أدوية كبار السن، فلم يقترب منها حتى لا تستيقظ.. جف حلق فتوح أكثر عندما اتخذ قراراً جريئاً مجنوناً فى لحظات، ولم يترك لعقله التفكير بعد أن أصبح وحيداً مع العجوز وأمامه فرصة لن تتكرر.
***
مرت الدقائق قبل أن يطل فتوح برأسه من باب الشقة بحذر، وينظر يميناً ويساراً، خرج وترك الباب مفتوحاً كما كان، حاملاً أشياءه وأشياء الست أم سعدية..
لم يمر وقت طويل، فأثناء نزول أحد السكان وجد باب الشقة مفتوحاً وماز الت ام سعدية على وضعها إلا أن رأسها قد مال على كتفها، نادى عليها ولم تجب، دخل يطمئن عليها فهو يعرف انها دائماً وحيدة، ليكتشف موتها..
جاءت المباحث ليجدوا بها عدة طعنات فى بطنها، وغارقة فى دمها تحت البطانية، وبعض الأثاث مبعثر والدولاب مفتوح..
بعد التحريات ورفع البصمات الغريبة عن البيت قُبِض على فتوح، فبصماته متفرقة فى أنحاء الشقة، كما أنه الزائر الوحيد الغريب الذى كان يعمل فى المنزل..
اعترف فتوح بالسرقة، لكنه أنكر قتل السيدة العجوز أم سعدية..
***
كان حُزن سعدية على فقدان الكردان أكبر من حزنها على أمها، مرددة: “جت الحزينة تفرح”، فلم تعثر على الشكمجية مكانها كما ذكرت لها أمها، متذكرة الحديث الذى دار بينهما قبل مقتلها بيومين:
– بت يا سعدية، حيا من موت، الكردان بتاع سِتّك أم عبد الله شايلاه فى الشكمجية القديمة فى سحّارة الكنبة الإسطمبولى اللى فى الأوضة البحرى، أمانة عليكى لو جرالى حاجة، تاخديه وتفكى بيه الرهنية اللى عليكى وترجعى حتة الارض بتاعة المرحوم جوزك..
– ربنا يطول لنا فى عمرك يامّه، انتى بتفوّلى على نفسك ليه،
– كلنا هنموت يابت، خللى بالك الكردان ده تقيل ويعملّه شىء وشوَيّات
جاء صوت عبد الحميد ابن سعدية من البلكونة فى الغرفة البحري، وهو ساند على سورها المتهالك واضع ساقه اليمنى بين العمدان المخروطة من الحجارة لسور البلكونة، يدخن السيجارة بشراهة مستمعاً لحوار سته وأمه ضاحكاً:
– ياستّى انتى حيلتك حاجة ماتخلى الطابق مستور
– بس يا واد يا صايع روح شوف لك شغلانة بدل مانت قاعد ترازى ف أمك
ضحك قائلاً لامه:
– متصدقيهاش يامّه تلاقيه حتة كاتينة فالصو..
***
خلف قضبان السجن جلس فتوح يندب حظه وحظ بناته الثلاث وزوجته الحامل..
فى المقابل وخلف قضبان شباك حوش البساتين، جلس عبد الحميد يدخن سيجارته الملفوفة، بعد أن انتهى عزاء جدته، لا يريد أن يخرج من هنا لرؤية أحد حتى أمه
**
بعد مرور شهر على حادث مقتل الست أم سعدية..
جاء أصحاب الحوش بمقبرة البساتين يشيّعون جثماناً، ليجدوا جثة اخرى..
جثة عبد الحميد ابن سعدية الذى لا يعرفونه، مسجى على وجهه فى فناء الحوش وميت إثرَ جرعة كبيرة من المخدرات..
والتوكتوك الجديد واقف امام المقبرة ينتظر صاحبه من ثلاثة أيام.