طبعاً خلال هذه الرحلة، لن أجد أفضل من “إرنست هيمنغواي” مرشداً ورفيقاً بين شعاب هذه المدينة، لأنه أشهر من زارها وكتب عنها وأحبها إلى آخر يوم في حياته. يذكر كُتّاب سيرة هيمنغواي أنه أقام في هذه المدينة عشرات المرات، واستوحى منها أحداث روايته الرائعة ” وما تزال الشمس تشرق”. وقد عثروا في حجرته، عقب انتحاره في 2 يوليوز 1961، على بطائق وحجوزات لحضور هذا المهرجان الذي كان سيقام بعد أيام قليلة. إذن سأصل قبل يوم الافتتاح بليلة، وأختار الإقامة في فندق “لابيرلا”، على عادة هيمنغواي أيضاً، لكن ليس في الغرفة رقم 217 التي كان ينزل فيها، والتي صارت تُؤجّر حالياً بأثمنة خيالية.
في الصباح، سألبس بدوري اللّباس الموحّد الخاصّ بالاحتفال. سروال وقميص أبيضان ومنديل أحمر صغير، أعقده كيفما اتّفق حول عنقي، قبل أن أنزل مع الجميع إلى الساحات. في الخارج سيكون كل شيء معدّاً وجاهزاً لاستقبال الثيران. الشباب يتربّصون على مداخل البيوت والعمارات، والأطفال والنساء والشيوخ يراقبون المشهد من الشرفات والسطوح. لن أدّعي شجاعة زائفة أو تعلّقاً مبالغاً فيه بروح المغامرة، على غرار هؤلاء الأمريكيين والإنجليز المواظبين على المشاركة في الميدان منذ سنين. سأنتبذ فقط سطيحة مقهى تطلّ على شارع أو زقاق تعبره الثيران وأنتظر بشغف ما سيحدث.
بعد قليل، ستظهر الطلائع الأولى للراكضين إيذاناً بظهور الثيران الهائجة. سيكون عليّ التركيز على أوّل ثور سيتقدم هذا السباق/المطاردة. إنه الثّور الأقوى والأسرع، والأكثر قيمة بين جميع الثيران. لأنّه حسب التّقليد العريق، كان المزارعون يسوقون الثيران إلى وسط البلدة لبيعها ويطلقونها في سباق، ثم يحفّزونها بالركض معها لمسافة بعيدة، لإقناع المشتري الذي كان في العادة يفضّل الثور الأسرع.
أخيراً، هاهو الثّور الأول يظهر مع جموع المطارِدين. يتقدّم بسرعة واهتياج، وينطح ويرفس كل ما يجده في طريقه. يسقط شاب تحت أقدامه، ويسقط الثاني والثالث، وفي تلك اللّحظة تظهر بقية الثران. وتبدأ المطاردة الكبرى. يستمرّ المشهد لدقائق معدودات، لكنه سيخلّف جرحى ودماء على الأرصفة والقمصان. نعم، إنّه احتفال بطعم الدم. الجرحى سيُنقلون إلى مصحّات خاصة مجهّزة أحسن تجهيز، فيما الثيران سينتهي بها الأمر للاستسلام تحت طعنات مصارعين محترفين، ينتظرونها على أحرّ من الجمر في كواليس الحلبة المستديرة. المهمّ في هذه المطاردة، أن الضحية في النهاية قد تكون ثوراً أو شاباً في مقتبل العمر. مع ذلك تبدو المسألة، من هذه الزاوية، متكافئة إلى حد مّا.
بالنسبة إلي، ليس مهمّاً أن أكون مع أو ضدّ مصارعة الثيران، والّتي تقريباً صارت رياضة من الماضي، بعد أن تعالت أصوات مُطالبة بإلغاءها في أغلب ولايات إسبانيا، وقد تمّ حظرها فعليّاً بمقاطعة كاتالونيا منذ أعوام. لكنّي حين أرى ما يفعله الأدب بخيال الناس، ومدى التّأثير الّذي تركه “هيمنغواي” على أجيال من قرّاءه بسبب وصفه لمهرجان “سان فيرمن” بتلك الدّقة، وهو الوصف الذي حرّض الكثيرين لشدّ الرحال إلى مدينة “بامبلونا” لحضور هذه المطاردة مع الثيران على مدى قرن تقريباً، أفهم جيّداً لماذا ما نزال في حاجة للأدب حتّى اليوم، ولماذا نحن في حاجة للحلم أيضاً ودائماً، بغضّ النظر عن محتواه، لأنّه السّبيل الوحيد لتجدّد الإيمان بإمكانية الإقامة على هذه الأرض.