فتحي مهذب
سامحها يارب
سامحها يا رب
هذه الأرملة الشقراء
في العتمة تغشى الغابة البشرية
تنادي القنادس والنمور والضباع
لتبيع بثمن بخس
نهدين من العاج الفاخر
جسدا مليئا بالموسيقى والفراولة
بكثبان من الجنون الخالص
ثم تعود إلى بيتها آخر المساء
فارغة من ديكور الأنوثة
مكدسة مثل كومة من القش
لتطعم فراخها الثلاثة
وتطرد العدم من البيت
كطفل مشاغب
تطرد قافلة الجوع من البلكونة
المقدسات الهرمة من ثقب الباب
رائحة اللاشيء الكريهة
سامحها يا رب
هذه الأرملة الشقراء
هذه الغزالة الضائعة في السافانا
التي افترسوا بعلها في المعتقلات
نزعوا عينيه الزرقاوين
ورموهما من شباك الطائرة
أخفوا مخيلته الواسعة
في جرن قديم
أهدوه مساحة كبرى من اللاوعي
مطرا متواصلا من القلق
سامحها يا رب
لم تجد أحدا بجانبها
لا حائطا متينا تتكئ عليه
لا ملاكا يحمل مصباحا
في كلماتها المعتمة
لتشق الطريق إلى الضفة الآمنة
لم تجد يدا حنونة
يدا طويلة وعذبة
مثل يد الله
لتقطف نجوما ناعمة من سماء المحبة
وتدسها في قلبها المرقوع
لتبدع حياة ملآى بصراخ النوارس
لتملأ بيتها بالقمح والصلوات
مخيلتها برائحة التفاح الأحمر
سامحها يا رب
اشرح قلبها المشبع بالثقوب
وهواجسها المليئة بالعربات المعطوبة
البائسة يطاردها الحزن
بعكازة من خشب الخيزران
دببة هاربة من السيرك العبثي
سامحها يا رب
كان خازن النار قاسيا جدا معها
في الجحيم الأرضي
الحظ زنجي غليظ الشفتين
الطيور لا تحط
على أغصان جرحها اليومي
والرياح تدمر أعصاب النوافذ
سامحها يا رب
واملأ قلبها بالمحبة والصلاة
والسلام
البائسة لم تفكر في نعيمك الأبدي
لم تلتحق بمركب نوح
بل صعدت الجبل
وعرت عورتها للشواذ والهراطقة
لم يكن يهمها التحديق
في لججك السماوية
والتفكير العميق في ما وراء الطبيعة
لم يكن همها غير شحذ المزيد
من قطعان الغرائز
وإطعام فراخها الثلاثة
البائسة لم تلتفت يوما واحدا
إلى كتابك المقدس
امنحها يا رب بيتا متواضعا
ثيابا مطرزة وعربة ليموزين
جرارا ملآى بكنوز الفراعنة
وليكن حبيبنا رهين المحبسين
مطربا في حديقتها الأبدية
في الخط الفاصل
بين الجنة والنار.
**
الجالس على سرير الوحدة
غاطسا في سحابة الباركنسون
بعد طرده من العالم
بوابل من مطر الباركنسون
وغابة كثيفة من التجاعيد
مستوحشا فاردا جناحيه
مثل ذئب على شفا الهلاك
أقول له بنبرة متقطعة :
– لك في مخيلتي
غرفة فاخرة
قصائد تصلح أن تكون
أقراصا مهدئة
متران من الضحك العبثي
أجنحة شفافة
لاكتشاف ذهب الوحدة
براهين على صحة اللاشيء
جيران طيبون من الكلمات العذبة
إذن تخل عن الطين
عن البشر السيئين
يمم وجهك شطر مخيلتي
غرفتك جاهزة
في حديقة رأسي.
بعد طرده من الكازينو
كآخر ملوك الطوائف
ها هو يقيم طويلا
بعيدا عن نباح الشياطين
مستأنسا بعطور جنوناتي
في حديقة رأسي.
**
الأرجوحة
بعد سقوطي من الأرجوحة
نمت على قارعة الطفولة
مثل طيار قفز من شرفة الله
بدموع من اللؤلؤ
وكدمات حمراء
على تقاطيع وجهي
وحين صحوت
لم أجد أحدا بجواري
لا ضحكتي المليئة بالذهب
لا طفولتي الساطعة جدا
لم أجد شجرة التوت
لا فراشات من الضوء الخالص
ولا أصدقاء من الملائكة
لم أجد أمي
بحزمة مفاتيح الجنة
لا أبي محلقا بجناحي إيكاروس
لا أخي الأحدب الضحاك
لا بيتنا المشمس في العتمة
لم أجد غير حزمة من العظام
مطوقة بحبال ستين سنة
وبضع ذئاب نافقة
***
الحقيقة في مكان ما
الحقيقة في مكان ما
من هذا العالم
تصعد معنا الباص مثل شبح حزين
تظل مطرقة طويلا تفكر في الإنتحار
القفز من الشباك على قفاها الزجاجي
لأن رواد الباص لا يفكرون
إلا في استخلاص الديون
وشطائر البيتزا
الحقيقة في بطن الأرض
يحفر الفلاسفة أنفاقا عميقة
كل يحمل مصباحه السحري
سلة مثقوبة ليملأها بمياه التفكير
لا ينحني أبدا لاينام ولا يصحو
مثل إله كلاسيكي
الفلاسفة يموتون
كلما اقتربوا من شرار الحقيقة
مخلفين ظلالهم معلقة على حبل الجنون.
الحقيقة تعشش في فم الطفل
في غمغمة المجانين
تفر كلما نبح كلب المخيلة
في حديقة الرأس
مثل أرنب مذعور
الحقيقة في مكان ما
من هذا العالم
قد تكون في تلافيف وردة البستاني
أو ريشة حمراء في ذؤابة هدهد
أو في قفص يحرسه السحرة
ببنادق صيد معطوبة
ذهبوا جميعا إلى النسيان
والحقيقة ترشق المتلقي بوابل
من اللامعنى.
إنها في مكان ما
من هذا العالم
هذا البطل الكوميدي الساخر.
****
صخرة سيزيف
آخر الليل
بعد هروبي من الحانة
مثل موريسكي في الهزيع الأخير من الجنون.
تطارده قافلة من الهواجس
ناس مظلمون على أحصنة عمياء
آخر الليل
بعد هروبي خلسة من سم الخياط
من قاع الحانة
كأحد الناجين القلائل من عضة أفعى المامبا.
تاركا الغرسونة معلقة على حبل الشهوة.
تلعق رائحتي بحوافر أنفها الطويل
تاركا النوافذ تتخبط من السكر والهذيان.
والأشباح تتقاتل بالعصي
بعد هروبي المباغت من ذئب المسلمات الأشقر
تاركا غابة كثيفة من القلق
تحترق على مهل.
تاركا قراء يموتون مشنوقين أسفل النص.
أرتاد قبرك يا سيزيف
أبكي طويلا
أفرغ دورق دموعي على شاهدة قبرك
لأنك تعبت كثيرا
خذلتك الآلهة منذ القدم
خذلتك الحقيقة في البرية المعتمة
خذلتك جنازة المعنى
موت الفلاسفة في المبغى
هشاشة الأشياء الجميلة
آه يا أخي أنا مثلك مضطهد ومعذب.
تهاجمني ثعالب العادة القرمة
لعنة مالدرور الأبدية
يهاجمني العدد العدمي
أخطبوط الزمن الضاري
لم يزل حذاؤك مليئا بالثقوب
لفرط احتكاكه بالجبل
والطرق الوعرة
في خزانتي الصغيرة.
ثيابك الرثة
ألبومك العائلي
لم أزل أعتني بمسدسك الأشيب
وصخرتك التي أهديتها لي
قبل موتك العبثي في دار المسنين.
لم أزل بدلا منك
أحملها كل يوم
منذ ستين سنة
من القاع إلى القمة
برأس يشبه تابوتا صغيرا
وقدمين من الصلصال الخالص
وروح متهدلة مثل شفتي عجوز
تترصدني نسور اللاجدوى من عل
كلما زرب دم من أطرافي المكسورة.
لم أزل أعتني بصخرتك
أحملها على كتفي المشققتين
في السلم والحرب
في الباص المتوج باللا جدوى
في الحانات الفقيرة
في طريقي إلى الهاوية