وبشكل عملى يثبت أن القصيدة المكتوبة وفق نسق الإيقاع الخليلى بتنويعاته كانت وستظل – مهما كان قالبها – قادرة على التعبير عن حساسية اللحظة الزمنية المعاشة وقادرة كذلك على استيعاب الواقع بكل تشابكاته وتعقيداته والتعبير عنه وترجمته شعريا ، وأنها مازالت قادرة على الوقوف فى وجه هؤلاء الذين حاولوا ولا زالوا يحاولون هدم أساسها المتين فيما لم يستطيعوا بناء – حتى- أكواخ شعرية بديلة فعاشوا فى عراء إبداعى وانقلبوا خاسرين ..
فبتأمل ديوانه ” الحفر بيد واحدة ” الصادر عن دار المرسم يبرهن لنا سامح عمليا على ما سبق وقد اختار أن يبدأه بمرثيته ” على إيقاع ضحكته يمشى ” ص5 ، وهى القصيدة التى أهداها لشاعر العربية الكبير محمود درويش الحاضر دائما وأبدا فى الذهن والوجدان العربى لاسيما وجدان الشعراء العرب
ومنها نذكر : هو حامل المفتاح والأبواب تعرف / دقة الأيدى القريبة /هو فى الجليل سحابة بيضاء تمطر/ حين تبتسم الحبيبة / هو دمعة الأعتاب روعها العناق / على العناق / هو صوته المجبول من أرواحنا / هو نفحة الميلاد من روع التراب / كم ياترى سيمر كى تتخلق الأسطورة / الخضراء فى قاع الخراب /كم ياترى سيمر كى تلد السماء / قصيدة فى الظهر تنتظر الحراب / أتعبت موتك فى الحضور وفى الغياب .
وقد اشتبك فيها محجوب كما هو واضح مع شخص درويش ونصوصه مستحضرا الشاعر الفلسطينى الكبير فى نصه حضورا ينفى ويقاوم فكرة موته وغيابه ؛ فكأنك عندما تستمع للقصيدة أو تقرأها تسمع أو ترى درويش أمامك بشحمه ولحمه وقصائده .. ومنها أيضا نذكر قوله :
أتعبت موتك فى الحضور / وفى الغياب/ ” كن أنت يا محمود ” .قالتها وغابت فى الممر اللولبى / كن أنت يا محمود ..كن ” / من يومها والاسم ثاو فى مناقير المخافر والمنافى والحدود ” .
والحقيقة أن لدرويش حضور كبير وطاغ بحجم ما يستحق فى نفوس الشعوب العربية ، بل وشعوب العالم فضلا عن الشعراء ممن تعرفوا على حقيقة الشعر على يديه ، ولما لا وهو شاعر العربية الكبير وشاعر فلسطين وشاعر الإنسانية قبل ذلك ؛ بل لا أكون مبالغا قط إن قلت : إن درويش نفسه قصيدة رائعة وخالدة تمثلها سامح – وهو ليس وحيدا فى ذلك – وتماهى معها فتجاوز فيها حد رثاء درويش إلى رثاء الذات ، فضلا عن محاولته المخلصة فى أن يرتقى بتجربته الجمالية فى القصيدة ليقف ندا إبداعيا للشاعر العظيم
وقد حافظ محجوب بوعى شديد على حبل سرى يربطه بجوهر القصيدة العربية قوامه أوزان ابن أحمد بتنويعاته بالإضافة إلى خيال طازج ولغة ناصعة التقط مفرداتها من محيط تجربته الخاصة ، كما تفادى برهافة حسه الشعرى ونقاء تجربته حشوها الزائد وزخارفها العقيمة واستبدل ذلك بتفاصيله الخاصة وهموم زمنه وجماليات عصره ؛ فمثلا فى قصيدته ” سورة الإنسان ” ص29 استطاع أن يجعلنا نستنشق معه رائحة الوطن عبر مجموعة من الصور ساقها فى نصه تباعا وبشكل خاطف متكئا على كل رمز أو صورة ذهنية وجدانية مستقرة فى الضمير والوجدان المصرى
ويقول فيها: ” لعينيها سأكتب / لا لسيدها الخؤون /” لقلة ” عابر تسخو.. إذا ما الحر مدد فى البطون / لمحراث / يقلب طميها المنحوت من عرق الجبين /لفأس ” باسمك اللهم ” تفتح ما تبقى من حصون / لعاملة على ” نول ” تروض لقمة العيش الضنين / لعمال ” المحلة ” للمصانع / للمواويل الموقعة الانين / ….. وفى سطور أخرى من النص نفسه يقول : لشمس فوق سطح البيت ترقص بين أقبية الخزين / لـ ” محمود على البنا ” يهدهد نا على آى من الوجد المبين / ” لثومة ” تستحث الصبح من مقهى الحنين ”
وكما هو واضح فى تلك السطور استطاع الشاعر بمهارة ودربة أن يخايلنا بعدد من الصور ذات بعد عاطفى وقوة إيحائية نافذة أضاءت كالبرق الخاطف بشكل متوال جوانب رؤيته واختزلت آلاف السطور ، فى عرض بانورامى لمعنى الوطن وصورته فى خيال الشاعر كما يعشقها ويؤمن بها ، ويؤكد لنا قول عزرا باوند ” إنه من الأفضل للكاتب أن ينتج صورة واحدة طيلة حياته من أن يخلف كثيرا من المجلدات الضخمة “، فتلك هى مصر التى نحسها ونعشقها فلاح بسيط يروى أرضه بدمه ودمائه و” قلة ” وهبها الطيبون لوجه الله لتروى العابر العطشان وعاملة بسيطة تنسج على ” النول ” لتقات منه برضا وزهد وصوت ” ثومة ” يسرى فى عروق مصر فتنتشى وتنسى آلامها وشقائها وشعب يعشق القرآن بصوت ” محمود على البنا ” ثم يجرى ملبيا إلى الجوامع بعد سماعها ” حى على الفلاح ” تنطلق من آلاف المآذن .
سطور معدودة وكلمات قليلة اكتنز بها وفيها محجوب مشاعر وإيحاءات عظيمة وضخمة فى عرض بانورامى استخلص فيه رحيق تلك الصور جميعا وقدمه للقارىء يتنفسه على مهل
وقد كان للتناص فى الديوان حضوره أيضا ففى غيرموضع من قصائده تناص الشاعر مع نصوص خارجية استدعاها ونسجها وزرعها بمهارة جراح لتقوم بوظيفة جديدة فى جسد نصه بما تنطوى عليه من إيحاءات ودلالات مرتبطة بسياقها الأصلى ؛ فعل ذلك فى قصيدته الأولى المهداة إلى محمود درويش ، ولعل طبيعة ذلك النص تجعل للتناص مع نصوص درويش تأويل خاص كما ذكرنا ،
أما فى قصيدة ” عروة الوقت ” ص41 فالنص القرآنى شكل خلفية بارزة وحضر القاموس القرآنى بقوة وأعنى بالقاموس هنا الكلمة المفردة والتركيب اللغوى وكذلك الأسلوب ، ولاشك أن الشاعر بخلفيته الثقافية الواسعة والتى تشكل الثقافة الإسلامية وفى القلب منها البلاغة القرآنية رافدا مهما فيها ، مكنته من أن يمتاح من النص القرآنى المحتكر لفنون البلاغة والإعجاز اللغوى ما ضخ به المزيد من الدماء فى عروق قصائده مستدعيا ماتتمتع به نصوص القرآن وأساليبه المختلفة والمتنوعة من زخم بلاغى، و التناص مع القرآن فى القصيدة اتخذ أشكالا مختلفة منها : استحضار التعبير القرآنى كخلفية مشعة ، كما فى قوله ” ابسط رداءك – وانت صاغر ” ومنها التداخل المباشر مع النص وتضفيره بالنص الجديد سعيا وراء إنتاج وتوليد معان ودلالات جديدة ترتكز على قوة النص الأصلى ورسوخه كما فى قوله ” فبأى آلاء المفاتن أنت كافر – أسررت أم أعلنت فالمخبوء ظاهر ” وفى السطر الأخير تفاعل نصى بارز مع قوله تعالى ” و أسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور” سورة الملك 13آية ، فقد استمد حالة افتضاح الأمرعند الله فى الآية ليسقطها على عشقه المفضوح أمام الناس معتمدا على ما تكتنزه الآية من إيحاء بلا جدوى الكتمان
ومع التسليم بأن لسامح محجوب أو غيره من الشعراء كامل الحق فى التفاعل مع أى نوع من النصوص سواء مقدسة أو غير وسواء كنت شعرية أو سردية يظل شرط حسن توظيفه لتلك النصوص وإعادة استخلاص دلالات جديدة منها قائم و إلا يتحول نصه إلى عبء على تلك النصوص المستدعاة أو العكس
ورغم حفاظ الشاعر على أساس القصيدة العربية ، فقد صمم طرقاتها وممراتها من الداخل على أحدث طراز ولونها بألوان تعبيراته هو، وزينها بمفردات قاموسه الخاص المنحوت من صلب تجربته حيث جاء ذلك القاموس غاية فى الجدة والعصرية والتماس مع اللحظة والواقع ، وفى الوقت الذى تقرأ فيه لبعض شعراء القصيدة الخليلية فتشعر بأنه كالذى يجر رجليه من صعوبة خطوه فى الرمال ترى شاعرا مثل محجوب يبدع على ذات البحور الشعرية وكأنه يمشى على الماء ؛ حيث بدا فى أغلب قصائده كراقص باليه يتحرك بثقة ورشاقة وإتقان ويتركك فى حالة ارتواء كامل من نهر الإيقاع العذب دون شوائب تصيبك بغصة
واقرأ مثلا قوله فى قصيدة غواية ص 55 :” مر نجم ثم نجم / مر بين النور نور / علقتنى من كلامى / وتمادت فى الحكاية / ليس حبا بل غواية “
،فيما تدفقت لغته فى الديوان بسهولة وسلاسة ؛ بلا التزام بالقافية التزاما يحد من انهمار الرؤية ولكن القافية عنده تشرق وتغرب “بحسبان” وهى حين تغرب تترك مكانها فى سماء النص ينيره شكل آخر من الإيقاع
وقد كشفت قصائد الديوان فى مجملها – والمساحة لا تفى بعرض الكثير من النماذج – عن شاعر مهموم بكل معنى الكلمة ؛ فهو مشغول أولا بالهم الجمالى ؛ حيث بحث مخلصا عن إضافة جمالية وبصمة يتركها علامة تدل عليه فى طريق الشعر الصعب لمن يقتفى أثره ، وهو مهموم كذلك بكل ما يشغل بال إنسان تصادف أن يعيش عمره فى سنوات حرجة كتلك التى نعيشها جميعا
وجاءت تجربته ثرية بتنوعها اللافت والممتع ؛ فأنت ترى شاعرا يجرب ويغامر ويخطو بقصيدته فى كل اتجاه مدفوعا بموهبته وأصالتها دفعا للولوج إلى أتون الشعر الحارق ، وإلى السعى خلف اكتشاف مساحات جديدة مفارقا كل ما يمكن أن يكون اجترارا لموروث قديم من رؤى أو مضامين ، يحكمه فى كل نص من نصوص ديوانه فقط همه الشعرى والجمالى
ولعل قصيدته ” من أوراد المنبطحين ” 75ص التى ختم بها ديوانه نموذج دال على الكثير مما ذكرناه من تنوع وثراء وانشغال بالهم العام وتأمل اللحظة بتفاصيلها.