الحفرة

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

خديجة إبراهيم

تبدأ الحالة دائما بإحساس مؤلم بالفراغ.  بعدها كنت أسقط في حفرة هائلة تبتلعني وتحرمني نعمتي النظر والإحساس. أصبح عمياء نهارا فلا أرى من الحياة ما يثير اهتمامي، ومتبلدة ليلا فلا أكاد أحس ببرد ولا حر ولا نعاس.

المرة الأولى كانت بعد وفاة زوجي. رجل يناهز الستين مقابل فتاة دون العشرين. سقط أمامي عاريا كما ولدته أمه. سترته وأنا أرتعد ثم صرخت.  كنت في قاع الحفرة فلم ألتفت لميراث ولا لحقوق. بعد العدة طردني أخوه من منزلي. يقول إنني وقعت له على أوراق تنازل فلم أنف. لا أعرف. ربما كنت فعلت. لا أتذكر سوى أنني كنت في قاع الحفرة تؤلمني مفاصلي بقوة.

ثم نجوت. نجوت لأنني دأبت على رفع بصري كل صباح نحو السماء. لا أدري كيف اهتديت إلى الفكرة. ربما سقطت علي كما سقط الطائر الميت على رأس قاتل أخيه. كان حل النظر إلى السماء ناجعا جدا. شفتني زرقتها وأشعة الشمس. لكن امي قالت إن الشمس جففت عودي. وقالت لأبي بصوت خفيض أنني لن أجد بعد كل ما حصل ويحصل رجلا يسترني.

لكنني تزوجت مرة ثانية من رجل طيب عاملني بالحسنى فأحسست بالأمان وهدأت روحي. ثم عدت إلى السقوط مباشرة بعد ولادة ابني الثاني. هكذا. بدون مقدمات ولا تفسير. استيقظت فوجدت رضيعا يرضع من صدري بينما كنت ممددة في الحفرة. لم أر الطفل بعدها كثيرا. انتزعوا فمه من ثديي فلا هو بكى ولا أنا اعترضت. ربته عمته ولم أنظر مباشرة إلى عينيه حتى تجاوز سن السادسة.

لم يشفني شيء هذه المرة. حاولت مع السماء والشمس فلم تتجاوبا معي. كان صراخ الطفل يمنعني من التركيز. اقترحت على عمته أن تأخذه معها إلى منزلها أو تجعله يسكت فندبت حظها وحظ أخيها وحظ الطفل. لم ينبذ حظي أنا أحد.

أخذني أخي الأكبر إلى طبيبة قاسية. كانت نظرتها ميتة وعيونها زجاجية. كتبت لي أدوية كثيرة. وبعدها غرقت في النوم حتى تقرحت روحي.

شفيت نسبيا وإن بقيت عاجزة على النظر مباشرة في عيني صغيري. كنت أجهز طعامهما وأغسل ملابسهما وأراعي أباهما وعيوني في الأرض. بدأ وجهي يذبل ولوني يتحول إلى الأزرق.

بعد سنتين عدت إلى الحفرة. هذه المرة دون سبب يذكر. وجدتني مرة أخرى ممددة في القاع وأسأل الله أن يخلصني من ثقل قدمي. أخذني زوجي إلى نفس الطبيبة فصرخت. ألقيت على وجهها علب الأدوية التي كانت أمامي في مقدمة مكتبها فلم ترمش. فقط عيون زجاجية قاسية ويد معروقة تكتب بهدوء:

  • ساءت حالتها كثيرا. ستحتاج دواء أقوى.

ثم أضافت وهي لا تنظر إلي:

  • انتبه جيدا. ربما تحاول الانتحار.

أحاول؟ يا لها من غبية. لا انتحار في قاع الحفرة. فقط فراغ هائل أسود. مساحات شاسعة تحيط بي. عجز تام عن رفع عيوني إلى السماء. ثقل في قدمي وخدر في يدي. صور تمر بسرعة حصان جامح أمام ناظري: صفعات متتالية ورجال يمسكون بطفلة بللها ماء آسن. الرائحة تملأ المكان. كيف أنتحر حيث لا يوجد سم ولا حبل ولا بحر ولا جدار؟

    عدنا إلى المنزل وإليه أيضا عادت عمة الأولاد. كانا نائمين. وجدتها تبكي فازدادت الحفرة اتساعا ومادت الأرض تحت قدمي.

نمت بعدها دهرا ولم أستيقظ إلا وطفلي الصغير يرتاد المدرسة. عندما استيقظت طلبت قهوة بالحليب فزغردت العمة. سألتها لم تفعل فأجابتني أنني لم أبتسم منذ سنة ونصف.

هل ابتسمت؟ ربما. لست متأكدة. لكنني ولأول مرة أبصرت الولدين. كبرا وارتديا وزرة المدرسة. لم يلتفتا إلي.

احتضنا عمتهما وطلبا منها أكلا فهما يتضوران جوعا.

أخذت أنظر إليهما وأنا أشرب قهوتي.

 أحسا بنظراتي فاقتربا مني. فتحت ذراعي فسقطا في حضني. ونظرت مباشرة إلى عيونهما. عيون بنية تقطر طيبة.

بعدها بدأت أـتسلق حواف الحفرة شيئا فشيئا. استغنيت عن الدواء وبدأت مرحلة ترويض قلبي على الحياة.

لكن خوفا هائلا ظل يسكنني. أخشى أن أحبل فأسقط. أن أغضب فأسقط. أن يتزوج زوجي علي فأسقط. لا أخشى الموت. أخشى الحفرة. يحدث أحيانا أن أحس برائحتها فيجافيني النوم. أو تتراءى لي وأنا أنظف أرضية منزلي فيدق قلبي بعنف.

كل ما أفعله اليوم هو أنني أتعب كثيرا ثم أنام كجثة. زوجي لا يكاد يقربني زهدا أو خوفا أو …. لا يهمني. لن يخيفني شيء.

شفيت منذ شهرين وعادت عمة الأولاد إلى منزلها وأحفادها. أصبحت قادرة على الوقوف وعلى الاعتناء بولدي وزوجي. بدأت أحس بالأمان وأنظر إلى المرآة أحيط عيني بالحكل فأرى جمالا لم تفلح أدوية المرأة الزجاجية في طمسه. أصبحت أبتسم وأضحك وأحيانا أغني. زرت والدتي وقبلت رأس والدي. دعا لي من كل قلبه أن يحميني الله من عيون البشر فهي قاتلة.

 لكن الطنين عاد إلى رأسي ذات صباح.

حلمت أنني جثة تنتشلها أياد كثيرة من نهر هادر أزرق. رأيت زوجي الأول فوق رأسي. فتحت عيني فارتعبت منه وحاولت الوقوف لأهرب، لكنني كنت ملتصقة بالأرض. ثم أحسست بالأيادي التي أنقذتني تنهشني. هنا أخذت الرائحة تنتشر حولي. رائحة ثقيلة لزجة. خليط من روائح جيفة وبخور.

استيقظت واستيقظت معي الرائحة. اغتسلت فلم تختف. تعطرت فلم تذهب. بدأت الشمس تنحسر وسط الفناء وأذن المؤذن لصلاة العصر والرائحة معي.

مع ظلمة الليل كانت قد سكنتني بالكامل. بكيت وحدي في غرفتي وأنا أدعو الله ألا تكون الحفرة تحت قدمي.

رائحة الحفرة أعرفها جيدا. هذه مختلفة تماما. انتظرت والخوف يسكنني يوما بعد يوم فلم تختف.

الرائحة تسكن معي، وتنام معي، وتستيقظ معي. لا يشمها غيري. لكنها لا تنتهي بالفراغ وهذا يطمئنني.

اليوم أنا أمشي بثقة ولا أتمايل. وكلما آلمني أنفي أغرقت جسدي وملابسي بالعطور. أتعطر وأتكحل وأنظر في عين الشمس وأراعي ابني وزوجي.

أعرف جيدا أن الحفرة في الجوار، وزوجي كذلك يعرف. لكننا نجلس قبالة بعض مثل إخوة. لا هو يسأل ولا أنا أجيب. المهم أن الأرض ثابتة تحت أقدامي. والأهم أنني أشرب قهوتي وأبتسم.

 

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب