عاطف محمد عبد المجيد
يوحي صوته الجنوبي بأنه إنسان يُمثّل دوْرَ الطيبة لحمًا ودمًا على ظَهْر هذه البسيطة، فيما تجعلك بشاشةُ ابتسامةِ صوْته الوديع تُحبُّه من وهْلةٍ أولى.أما ملامح عينيه القابعتين خلف نظارته فتعلن عن إنسان قويٍّ وجاد، وربما صارم لا يعرف المزاح، إنسان يسير في طريقه غير عابيء بما ومَن حوله مُحددًا هدفًا واضحًا لا يحيد عنه، مهما بدت أمامه العقبات.
إنه الحسين خضيري الذي أبصره الوجودُ، أول ما أبصره، في العاشر من يناير من العام 1967, في مدينة الأقصر، ونشأ في عائلة متوسطة من ستة أفراد, كان أبوه يعمل حدَّادًا بالسكة الحديد, وكانت أُمه تجيد القراءة والكتابة، بل وتحفظ العديد من قصائد الشعر، مما كان له بالغ الأثر علي ذائقته فيما بعد.
لكن ما كادت عَيْنا الحسين ترى ضوء الحياة حتى أُصيب بشلل الأطفال, الذي حرمه من الالتحاق بركب التعليم المَدْرسي مبكرًا, كسائر أقرانه. شغوفًا كان بهذا العالم الذي حُرم من الولوج إليه, عالم المدرسة والكتب. لكن ذلك لم يثبط من عزيمته قيد أُنملة، لقد تعلق قلبه بحب العلم وحب الكتب والعوالم التي تفتحها الكتب.
كان صغيرًا يجلس عند ناصية شارعه في انتظار قدوم إخوته وأقرانه من المدرسة مُحَمَّلين بالكتب الجديدة التي تتوق لها نفسه.رأت أُمه ذلك فيه فاقترحت عليه الذهاب إلى مُدرس يسكن بالقرب منهم ليتلقى على يديه الدروس, ورحب الحسين بالفكرة, بل وسارع حبوًا إلى منزل المدرس غير البعيد, والذي لم يكن يفصله عن منزله سوى شارع واحد. وهكذا كان يمضي كل يوم، حبوًا، ليتلقى الدروس التي لم تتح له بالمدرسة كسائر الأطفال في مثل سنه.لم يمنعه شلل الأطفال من مشاركة رفاقه لهوهم وألعابهم, حتى كرة القدم, كان يُمارسها حبوًا ويلعب الكرة بيديه.لم يشعر يومًا قط, بأن ثمة ما يحول بينه وبين ما يريد.وكانت بداية حياته المدرسية هي المرحلة الإعدادية.
بعد ذلك التحق الحسين بالمدرسة الثانوية، رغم اعتراض أهله على ذلك, ثم انتسب إلى كلية الآداب بقسم التاريخ والدراسات الأفريقية بسوهاج.
منذ طفولته بدأت محبة الحسين للشعر، كان يروقه التناغم الجمالي في القرآن الكريم, وتستهويه الأبيات التي دائمًا ما ترددها أُمه وهي تقوم بشئون البيت. لقد كانت أم الحسين تحفظ معظم الشوقيات إضافة إلى بعض قصائد حافظ إبراهيم وغيره من الشعراء.لقد ارتبط الحسين مع الشعر ارتباطًا وثيقًا, إذ كان الشعر مهربه ورفيق وحدته.
حتى الفتاة التي دق قلبه لها, كانت أولى رسائله إليها, أول قصيدة نشرتها إحدى المجلات العربية. للحسين خضيري أربع مجموعات شعرية: ” أُغنية لغد بعيد ” و ” تراتيل المريد ” و ” مدن الغيم ” و ” ليس في انتظاره أحد “.
الحسين خضيري ليس شاعرًا وحسب، بل هو مترجم أيضًا، يمارس فعل الترجمة مثلما يمارس كتابة الشعر، إذ يبدع في كليهما، خاصة وهو لا يتخذ الترجمة مطية لكسب العيش، إنما يمارسها لأنه يحبها، ولذا لا يقوم إلا بترجمة ما يحبه.
وها هو يتحدث عن علاقته بالترجمة فيقول: أما عن الترجمة, فكما عشقت الشِّعر, عشقت اللغة الإنجليزية, بدايةً كنت ألتقط القصص القصيرة والمقالات من المجلات والصحف الأجنبية التي تقع تحت يدي, كنت أقرأ لنفسي وبدأت أقص على أصدقائي أروع ما أقرأ, فانبثق شئ في ذاتي..لمَ لا تشرك الآخرين في هذه المتعة أيضًا؟..
ما أغراني بالترجمة دخولي إلى عوالم مختلفة لم أرْتَدْ مثلها من ذي قبل، فالعديد من الكتّاب أمثال مارك توين وجيس ستيوارت وإدجار آلان بو وكيت تشوبين وشيرلي جاكسون لم أقرأ لهم سوى بلغتهم.
عثر الحسين خضيري على كتاب فرسان الفن لـ إيمي ستيدمان الذي يحكي قصص حياة الرسامين الإيطاليين وكفاحهم وآلام وآمال كل منهم إلى أن وصل إلى ما صار إليه من مجد في عالم الفن، وتم نشره في المركز القومي للترجمة.
وإضافة إلى فرسان الفن أنجز ترجمة عدة كتب: الزهرة الأخيرة..رحلة السندباد الثامنة..نوافذ ملونة..دائمو الاخضرار..أيام أورشليم الأخيرة..فتيات صنعن تاريخًا. هذا ويرى الحسين خضيري أن متعة الترجمة ما بعدها متعة, لا يفوقها سوى فرحك الصغير: فرحك الخاص بكتابة قصيدة جديدة.
الترجمة ليست سوى إبداع بالفعل.إبداع من نوع آخر, فالمترجم ليس مجرد ناقل, بل هو الوالد الشرعي للنص الجديد, على ألا يخون, مع الحفاظ على روح النص وما يريده المؤلف أن يصل إلينا.
مترجمًا يقدم الحسين خضيري أسلوبه ولا ينسى قط أنه يترجم إلى لغته الخاصة وبلغته الخاصة. لدي الحسين خضيري إيمان راسخ بأن كلاً منا يوُلد وفي قلبه جوهرة, إما أن يصقلها فتتألق, أو يهملها فتخبو.وحدهما الجهد والمثابرة، يكللان هذا الإيمان ويرسخانه. كما يؤمن كل الإيمان أن ليس ثمة جهد ضائع.
هذا هو الحسين خضيري الشاعر والمترجم، المبدع الطموح، الذي تحدى إصابته بشلل الأطفال الذي جعله حبيس كرسي لا يتحرك إلا به، أو مستعينًا بعكازين.
لقد تغلب خضيري على ظروفه الخاصة سواء في دراسته أو في إبداعه. لقد تحدى عقبات شتى: عقبة شلل الأطفال الذي قلل من حركته بعض الشيء، إضافة إلى عقبة إقامته في صعيد مصر بعيدًا عن العاصمة، بما يقرب من ألف كيلو متر. لكنه على الرغم من كل هذا مارسَ حياته، ويمارسها كما يحب وكما يحلو له، بعد أن حَوَّل الإعاقة الجسدية التي سببها له شلل الأطفال، إلى إبداع شعري وتَرْجميّ مذهل، أثمر العديد من الكتب الشعرية والكتب المترجمة.
ومما أعجبني من أقوال الحسين خضيري قوله إنَّ الحياةَ ملآى بالصعابِ، لكنها أيضًا تستحقُّ أنْ نُكابدَ مِنْ أجْلِها. يقول الحسين خضيري في قصيدة له عنوانها ” شريد على درب النخيل “:
” نخيل البلاد التي صادقتني بخيل
وعشب الأعالي التي لم أطأها ذليل
وبدر السماء إذا ما رنا
يفتش عن مقلتين تضوعان عشقا
ويصرخ حين يراني بوجهك
ظل قتيل
أنا ما توقفت عن سيري المتمرد وحدي
وعافت خطى العابرين السبيل
وكيف لمن ينتمي مستهامًا
إلى وردة تحتفي بالرحيل
إذا عاينت في الغصون التعبْ
و يسرق من عمره عمرَه
لعل الغياب يجُبُ النَصَبْ
أنام على هسهسات البيوت
رفاقي الحفاة
جبيني اللهب
وفي وسع من شردتني
رمتني
تهز الليالي صلاة عليّ
فلا أستطيب الرجوع إليها
ولا أستطيع الرجوع إليّ “.