أكرم محمد
١
لا تُقصَف أبدًا شرفات المنازل بالحرب،
فقط، تُقصَف غرف النوم، السرائر، موائد الطعام، أما الشُرفَات تبقى كما هي.
توجد مدينة كاملة من الشرفات تنتظر بقايا منزلها، غير مدركة أنها أصبحت مدينة قائمة بذاتها.
شرفات دون سكان؛ لأنها، بالأساس، ذلك الساكن، الذي خانته الحرب، سرقت عضوا مهما: حياته، تركته دون قبر؛ لأنه لن يبرح قبرا يطل على شارع لازمه كأول قاطن للمنزل.
تتكون قبور كثيرة، كثيرة جدا، تكون مقابر كاملة لأناس حقيقيين، أناس قاموا على أنقاض مدينة، شهدوا المدينة بحق في حكايتها القديمة، بتلك المساحة الصغيرة المدعوة شرفة، صغيرة حد أنها لا تحتمل عاشقين، لا تكفي حجمهم المبالغ في ضخامته، حركتهم الكثيرة، ستتهاوى الشرفات، تسقط، فجأة، على رأس عابر، تخيلته الحرب دائماً دائماً كعابر بصورها الشهيرة، حيث النار بالأرض، بالشارع الاسفلتي، شارع بحجم السماء، تسير به الحرب مشدوهةً بالشوارع التي تزورها للمرة الأولى، تنبهر عكس عادة العابرين، الذين لا ينبهرون أبدًا.
الشرفات جميعها جسد الساكن الأول للمنزل، يطل بجسده المُجفَف، الميت، إلى شارعه، بمجرد التقاط الأحذية عليه أن يشتم رائحتها جيدًا، يحتفظ بها، ينقلها للسماء، لتسقطها بمطرها، ليشهد ذلك الساكن، بكل شارع خطته قدماه، بكل عامود نور لامسه، بحثًا عن موت وشيك، بحثًا عن رائحته، أو، بالأدق، رائحة حذائه.
٢
بالحرب لا يهتم الجنود بمن قتلوا، لكنهم، بالواقع، يهتمون ألا تحمل دماء من قتلوهم رائحتهم، ألا يُكتَب على شاهد قبرهم قتلهم “فلان بن علان”، ألا تشهد الرمال المشتعلة عليهم وتقول: هذا أطلق ببندقيته رصاصة في صدري، ليته ألقى سيجارة بها رائحة مدينة أخرى على الجانب الآخر من الكون، سيجارة جيدة الصنع لا تقتل أصحابها..
٣
هناك رجل عجوز،
بسن يذبل فيه ذَكَرُه كمدينته،
يراقب الشرفات القائمة بذاتها،
يجتر رائحة السجائر التي أبقت عليها ملابس الموتى بالشرفات، يلقي التحية عليهم، يطالبهم بتلك الرائحة؛ لأنه لم يعد يملك سجائر محلية.
ما لم يعلمه بحق ذلك العجوز أن أجساد السكان القدامى ذاتها كانت الشرفات.