في قصة (المفقود) لـ (أرنولف أوفرلاند)، ترجمة (سميرة أحمد السليمان) لا يعني رجوعك المفاجىء من الحرب بعد الاعتقاد بموتك سوي أن الحياة ستصبح بالنسبة لأم وابنة أكثر عذاباً .. الذي عاد من الحرب لم يرجع إلي زوجته وطفلته التي كبرت، بل إلى بطالة وغلاء وعالم يدبر أبناؤه أمورهم بشق الأنفس .. إننا بقدر بسيط من تعمّد الإنصات بمقدورنا الاستماع لأصوات الحرب في خلفية الحوار الثقيل بين الزوجة والزوج العائد بعد سنوات طويلة: آلات القتل وصرخات الألم والاحتضار، بل بوسعنا أن نشم رائحة الموت داخل صدوع المحادثة العسيرة بينهما .. الكلمات المقتضبة، الحذرة، التي تستكشف استكمالاً بائساً لحياة ماتت، وإعادة تكوين علاقات جديدة بين أشخاص فقدوا عالمهم، وتحتم على أشباحهم البدء في تعايش مظلم ..
إن الحرب بإمكانها أن تنهي العالم لبشر لا يزالون على قيد الحياة؛ إذ تضع الانفصال كطبيعة مهيمنة للعلاقات بين أولئك الذين احتفظوا بصلاتهم السابقة، وتفرض الغربة بين من أعاد القدر تجميعهم في نفس المكان .. الحيز المغلق الذي شهد تباعدهم، وأصبح بعد تلك السنوات أثراً ثابتاً لا يوثق فوق جدرانه التحوّلات القاسية التي ضاعفت أعمار هؤلاء الذين دمرت الحرب دنياهم وحسب، بل يختزن الاستمرار البديهي للحرب داخل بيت لم يعد من الممكن أن يعيش أفراده كما كانوا في الماضي .. الحرب لا تنتهي؛ إذ يتحول الأحياء الذين عبرت فوق أجسادهم، ودفنوا تحت الأنقاض التي تركتها إلى آلات قتل بديلة لتلك الوحوش المعدنية التي صمتت مؤقتاً .. كوابيس متحركة، تتصارع على شكل معتم من الوجود، وجدت نفسها مرغمة على ابتلاعه، بعد أن أصبح تقاسمها للحياة ورطة مجحفة، وعبأً لا مفر من الرضوخ لمسايرته، انتظاراً للحظة التحرر من وحشيته .. يصبح العالم استكمالاً للألم والموت فتبدو الحروب العسكرية كأنها نوع من الرحمة للتخفيف من آلام حروب أخرى يحكمها الدمار الاجتماعي الذي ترتعش لغة التخاطب بين ضحاياه بالحسرة، والتخوّف المكتوم، والجفاء اليائس للعاطفة .. إن الحياة حينئذ لو جاز لنا أن نضع تعريفاُ لها فلن نجد أكثر أمانة من الكلمات الأخيرة في هذه القصة:
(هل سوف أنام هنا؟ سأل هو.
ـ نعم. في الداخل ننام أنا و”إتي”).
المفقود
أرنولف أوفرلاند
ترجمة : سميرة أحمد السليمان
السيدة هيمبل تقف في المطبخ حينما دق الباب. لم تكن قد ارتدت ملابسها كما ينبغي حتى الآن، لكن “إتى” قد غادرت، لذلك ينبغي عليها فتح الباب بنفسها. كان يقف في الخارج رجل بقبعة لها جزء أمامي متحرك يغطي الوجه ومعطف رمادي فضفاض. كان يحمل كيسا تحت ذراعه. لم يقل شيئا، فقط وقف ونظر إليها، يصفي حنجرته، لكنه لم يقل شيئا.
كانت ستغلق الباب مرة أخرى. لم يكن لديها شيء لإعطائه. بالمناسبة، هي لا تحب هؤلاء الذين يأتون ويطرقون على الأبواب – وبالذات عندما تكون وحيدة في المنزل.
حينما اقترب نحوها وأمسك الباب.
– ليزا! قال هو.
هل يعرفها؟ السيدة هيمبل حدقت في ذلك الوجه الرث المحروق من الجو، هذا الوجه يشبه شيئا قد حلمت به. والصوت أيضا.. ثم صرخت. تركت مقبض الباب، نحو الخلف، تلمست طريقها خلال الممر ثم داخل الصالة وأجلست نفسها.
الرجل أتى خلفها.
– إنه أنا! قال هو.
– ما زلت على قيد الحياة؟ همست هي. الفزع يملؤها تماما حتى الحنجرة.
– نعم. قال هو
– ونحن الذين اعتقدنا أنك ميت!
– لا لا، لقد أخذت كسجين.
– كنت ضمن قائمة المفقودين. ولم نسمع منك المزيد. ولا كلمة واحدة. لماذا لم تكتب؟
– هناك، لم يكن بريد. لقد حاولنا بعض المرات إرسال مكاتيب، وقالوا إنهم سوف يرسلونها، لكن.. بعدها لم يكن لدينا أوراق.
– هل كنت في روسيا؟
– نعم في سيبيريا.
– طوال الوقت؟ كانت سنة 1915 حين اختفيت؟
– نعم.
– والآن نحن في سنة 1930، (5ا) سنة!
– نعم.
– ولكن لماذا لم تأت قبلها؟ الحرب انتهت سنة 1918!
– في 1918؟، لا. كنا في مخيم المسجونين في كراسنويارسك لمدة ثلاث سنوات، ثم أتى إلى منطقة كولتسياك. وحاربنا بجانبه ضد البوليسفيك. ثم أصبحنا مسجونين من جديد. كان هذا سنة 1919. حينها كنا نقوم بأعمال الطرق معظم الأوقات، وأعمال البلد.
– إذن لم تكونوا في مخيم المسجونين طوال الوقت؟
– لا، السنوات الأخيرة كنا فيها أحرارا.
– ألم يكن باستطاعتكم حينها القدوم إلى الوطن مرة أخرى؟
– نذهب حول العالم؟ لا.
نظرت إليه. إنه زوجها الذي عاد. رجل رمادي، نصف عجوز، يشبه أب جورج. ذات مرة تزوجت منه الأفضل أن تقول إنها كانت في الواقع متزوجة منه.. تنظر إليه. لم تعد خائفة. هذا الرجل الفقير العجوز لا تخافه. لكنها لا تعلم ماذا سوف تصنع معه.. يقف هناك أمامها والكيس تحت ذراعه حتى الآن، لكن لا تستطيع أن تطلب منه الجلوس، لأنه وبطريقة ما كان في منزله. خرج بعضهم في ممر الدرج الخارجي. لقد نسيت إغلاق الباب خلفها. كانت ضعيفة قليلا في ركبتيها حتى الآن، ذلك ما تدركه.
– ألن تضع الكيس؟ قالت هي.
– بلى. ذهب هو نحو الباب ووضعه هناك. هناك كان كرسي أيضا. أجلس نفسه هناك. قبعته ألقاها فوق الكيس. كان على الأصح متعبا، قد مشى على قدميه من “باهنوف“.
– هل تناولت الفطور؟ هل ترغب في أن أقوم بإعداد بعض الطعام لك؟ سألت هي.
– نعم شكرا.
خرجت ووضعت إناء القهوة.
بعد برهة دخلت مرة أخرى مرتدية معطفا وقبعة.
– نعم، الآن كل شيء جاهز لك. سوف أذهب الآن، أنا. أنا سأرجع على الغداء.
– هل ستذهبين؟
– نعم، يجب علي الذهاب إلى المتجر.
– المتجر؟
– نعم؟ – المعمل؟
– أوه نعم نعم! هل لديك ذلك حتى الآن؟
– نعم نعم!
– هل تستطيعين أن تديريه إذن؟
– نعم، هذا أستطيعه، ما الذي كنا سنفعله أو نعيش منه؟
– لا. لكن هل استطعت تعلم شيء؟
– نعم، استطعت ذلك. كذلك لدى “نولتا”. نعم، “نولتا” هو صانع ساعات أيضا. وأنا أقف في المحل.
– مفهوم، نعم.
– نعم، الآن يجب علي الذهاب. يا إلهي، الساعة الآن بعد التاسعة! إلى اللقاء إذن.
ذهب إلى المطبخ وأكل. ثم ذهب مرة أخرى إلى الصالة. وهكذا يجلس هنا في المنزل. في المنزل مرة أخرى. غريب هذا الشعور. لكنه لم يكن قد فكر فيه هكذا. الصالة كانت كما هي تقريبا، وبطريقة ما – الأريكة القديمة والطاولة القديمة والكراسي القديمة كانت هناك. ما عدا بوفيه خشب البلوط مع الكئوس الألماسية والصحون الفضية. لم تكن له. لكنها كانت جميلة. لكنها ليست له.
وهكذا – زوجته – مالذي أصابها؟ فأصبحت أكبر سنا، نعم، نعم، أصبحت كذلك. لكنها لم تكن بهذا الكبر. دعني أرى، سنة 1914 كانت حينها 25 سنة، بلى، إنها الآن 40 سنة. لكنها كانت جميلة حينذاك. سمينة فقط قليلا، يا إلهي. ظل من الخوف قد أتى من خلاله بالضبط وبما فيه الكفاية لكي يقول لنفسه إنه عاد إلى منزله مرة أخرى. لكنه اعتقد أن يكون ذلك الاستقبال مختلفا إنه كان غير منتظر. وكان ذلك منذ وقت طويل جدا. لا بد أنه قد تغير كثيرا، لذلك لم يكن من السهولة تعرفه من جديد. وكذلك كانت هي تعتقد أنه قد مات – ولكن عندما تعرفته من جديد وبعد لحظة المفاجأة، بعدها كان من الواجب أن يعانق كل منهما الآخر، وأن تكون فترة مقدسة عندما يرجع الأب من الحرب إلى بيته.
وبالضبط بسبب اعتقادها أنه كان ميتا، كان من الواجب أن تكون سعيدة بمقدار الضعف لأنه ما زال يعيش على قيد الحياة. وكان من الواجب أن يكون أمرا مقدسا وبهيجا الجلوس على طاولته مع زوجته وطفلته. لحظة فرح حقيقية كان هوالواجب حدوثها.
وكانت هي مشغولة جدا لدرجة أنه لم يملك الوقت المناسب ولو لمرة واحدة للسؤال عن “إتى”. يجب أن تكون الآن فتاة كبيرة، يا إلهي، هذا ما يجب أن تكونه.. يجب أن تكون في الثامنة عشرة تقريبا.
ألم تكن هي التي قابلها على السلالم؟
المرأة الصغيرة القادمة نحوه، نحو الأسفل بجورب حريري ومعطف جلدي؟ والتي أدرك عطرها حينما مالت نحو الحائط عندما مرت به؟ – مستحيل.
لا يستطيع الحصول على صورة لها؟ كانت هناك بعض الصور المعلقة على الأريكة.
بلى، الفتاة الصغيرة في فستان التعميد يجب أن تكون “إتى”. إنها جميلة إنه لأمر غريب أن تكون هذه الفتاة الناضجة ابنته.
وهذا هو، في منتصف الحائط، في اللباس الرسمي. هذه هي الصورة التي التقطها في يوم الحشد للحرب. ومع الحداد الأسود على الإطار وزهور الخلود والصليب الحديدي!
أحببناه وفقدناه!
أجلس نفسه لينتظر. هذا ما تعلمه. الانتظار هو ما قد تعلمه. الوقت أصبح طويلا. ذهب مرة أخرى إلى المطبخ ودهن لنفسه شريحتي خبز. قليل من التبغ لديه حتى الآن.
وفي الساعة السادسة قدمت ليزا وبدأت تحضر للغداء. في الساعة السابعة حضرت “إتى“.
أخرجت صرخة تعجب عندما رأته. قدمت الأم نحوها.
– هذا هو أبوك، قالت هي.
نظرت إليهما الابنة دون أن تفهم شيئا.
– إنه أبوك قد عاد مرة أخرى من الحرب.
– أي حرب.
– الحرب، يا ابنتي، الحرب العالمية!
– أوه.. لكن..
– كان في الأسر في سيبيريا
– لكنك كنت تقولين دوما إنه..
– نعم، هذا ما اعتقدناه!
– “إتي” قال هو ومد ذراعيه نحوها.
– مساء الخير! قالت هي. أصبحت منتصبة وهي تنظر إليه. إن لديها أبا، وإنه قد أتى إلى المنزل – سمعت والدتها تقول ذلك، وأنها يجب أن تعرف ذلك. أن تستوعب ذلك. كانت هناك قضية أخرى وهي. هل سوف يعيش معهما على سبيل المثال؟ هذا الرجل.
غادرت الأم مرة أخرى إلى المطبخ. فأصبح الاثنان وحيدين في الصالة. إنه مؤلم.
– لحظة واحدة! قالت “إتي” واختفت. أتت مرة أخرى مع مفرش وأطباق وأعدت الطاولة.
تناولوا الطعام بصمت. بعد الغداء خرجت “إتي”، سوف تقابل أحدهم. وأصبح الاثنان جالسين.
– وهكذا رجعت إلى البيت مرة أخرى إذن. قالت هي.
كان شيئا حقيقيا بما فيه الكفاية. ليس لديه ما يقوله لهذا الأمر.
– ما الذي فكرت في البدء به الآن؟
– سوف أبدأ في المعمل مرة أخرى.
– ليس هناك الكثير لعمله هناك، قالت هي. ليس هناك عمل لأكثر من اثنين. و”نولتا” له نصيب في المتجر : إنه شريك. لم يقل شيئا عن هذا أيضا. لم يقل إنه معمله. لأن ذلك كان منذ وقت طويل. ولم يكن واثقا أنه قادر على ذلك أيضا الآن. ليس لديه اليدان لمثل هذا العمل الدقيق. يجب أن يبحث له عن شيء جديد.
– ما الذي أستطيع أن أبدأ به؟ قال هو.
آه نعم، هذا ما يعلمه الله. هنا فقط البطالة والغلاء. جميع الناس يروحون بلا عمل. وأنه لمكلف جدا أن تعيش، فظيع الغلاء بحيث أني و”إتى” نتدبر أمرنا بشق الأنفس. فإذا لم تستطع الحصول على عمل ما، فأنا لا أعلم.. السيدة همبل أخرجت قطعة قماش وبدأت في ترقيعها. الساعة أصبحت التاسعة. بدأت في التثاؤب.
– سوف أرتب لك السرير. قالت هي. دخلت إلى غرفة النوم وعادت مرة أخرى مع بطانية وملاءات ووسادة وبدأت في الترتيب فوق الأريكة.
– هل سوف أنام هنا؟ سأل هو.
– نعم. في الداخل ننام أنا و”إتى“.