قيس مجيد المولى
ظل رامبو ينظر إلى الظواهر الخارجية على أنها محض زيف وهي بذاتها لم تستكمل وجودها ولن تستطع التعبير عما يمكن التعبير عنه ضمن حاجة الشعر للموقف الذي يتسع للغة وللعاطفة وللإشكالات النفسية، وأن تعامل الشعر مع هذه الظواهر فأنه لن يستطع أحداث متغيرات جذرية في طبيعة البناء الشعري على مستوى الشكل والمضمون كما أن موقف الحواس سيكون موقفا أحاديا ومنظما وهو ما يعني بأنه أي الشعر لن يأتي بالجديد سوى أجراء عملية استنساخية للصور الجاهزة وهزات بسيطة وغير موفقة لشيء من المدركات الحسية،
الإضطراب البصري والنفسي:
سعى رامبو إلى مفهوم (بلبلة الحواس ) وباليقين كما نعتقد أن تلك البلبلة في الحواس أو مايمكن تسمية بالاضطراب البصري والنفسي سيدفع الشاعر للتخلي عن أي من المقومات الظاهرية التي تستند عليها الوقائع وأنساق التشكيلات من الجمل الشعرية وإشكالات التوقعات المفهومة والمتوقعة مسبقا في رسم مسار النص الشعري فالاعتقاد هنا أن تلك الظواهر ستتحول إلى مجاميع من الرموز والإشارات وهذه الرموز والإشارات ستعطي للنص مرونته في تهيئة مساحة أفضل للتجريب للتعامل مع الخاصية الأحادية التي لايخضع لها منطق العقل الواعي وهو توجه في شكل من أشكاله نحو الإلتباس والغموض وهذا الغموض في الشعر إن تشكل كنتجة للخبرات المعرفية والثقافية أو تشكل نتيجة للتجربة الإنسانية الحية فلاشك أن هناك عامل تجاذب لا كما يرى بعض النقاد ومنهم خالدة سعيد والتي تميل إلى المطلق للخبرات المعرفية والثقافية فالتجربة الإنسانية هنا لاتعني التجربة الفردية بل باعتقادنا تعني المؤثرات الكيانية والكونية مجتمعة في مواجهة أبناء البشرية لحاجات وجودهم ورغباتهم وأحزانهم ويقينهم بالزوال،
التكنيك الجديد للبناء الشعري:
تُشكل الوقائع والأحداث تشكل عاملا مهما بموجبه يتحرى الشاعر أسباب مخيراته النفسية وأسباب تشتته لينسجم هذا التأمل مع القدرات المعرفية والثقافية والتي تساعد على توغل الشاعر في أبعاد أخرى كانت غير مرئية له لتساعد ثم تطيح في طريقة مواجهة النص أو في تأسيس علاقته مع شخوصه وتناول أبعاده المكانية والزمنية خارج المحددات المألوفة، ويبدو أن العمل هنا يقوم على تجارب متعددة أتصلت بعضها بالبعض بعضها تلك التجارب المرئية التي ربما لم تكن ذات يوم ذات أهمية في المكونات الشعرية للشاعر وبعضها في القدرة التخيلية والقدرة على تحريكها باتجاه ما يجنبها الوقوع في الصياغات المباشرة والشحن الموسيقي ضمن ذلك النداء الفطري مابين النص وموسيقاه وهو السعي الذي يراه الشاعر لإغناء النص للخروج من شكلية عصر ما وخلق عصر جديد يتقبل فيه تلك الهزات العنيفة تحت أي نمط من أنماط الصراعات والتناقضات وهو مايتم بموجبه تخطي العديد من المفاهيم القديمة عن النظرية الشعرية ووظيفة الشعر فقد كان الهم الشعري للمحدثين أن لم يكن جلهم إحياء ذلك الخليط من الإلتباس الذهني وتسخير الماضي الرمزي والأسطوري بشكل يبتعد عن إعادته بهيئته وكشف قوته الجديدة لينسجم والتكنيك الجديد للبناء الشعري الذي يعتمد في جوهره على الانتقالية ضمن النص الشعري من مغزى لأخر ومن متحول متحول لثبات متحول بعد أن يترك للحواس حريتها في اصطياد وتنظيم وأكتشاف الصور المختلفة والمتناقضة والتي تبوح بأكثر من دالة وتمثيل جمالي إن أتى النص تحت تأثير اليأس أو تحت تأثير تصوير الجانب الممتع للحياة،
مِنَ السِّماع إلى التشكيك:
لقد جعلت الحداثة الشعرية كما ذكرنا سابقا جوهر العملية الانتقالية الذات الإنسانية ومحوّرت حولها ذلك البؤس وذلك الجمال الذي تزخر به الطبيعة عبر ذلك انتقلت من السماع إلى التشكيك من قبل الإحساس الخفي والذي بدأ يَكونُ أكثر اضطرابا وأعمق تأويلا بدلا من ذلك الإحساس العادي والذي بني في معظمه على توترات خارجية ليست ذات قيمة ضمن عاطفة شديدة التأثر ولكنها بطيئة الإستجابة سرعان مايتناوب ذلك الإحساس فيها بين الرضا واستمرار البقاء في مناطق الخيال ولربما فُسر ذلك شكلا من أشكال المناورة للبقاء في المناطق المعلومة ذات التأثير في موروث المتلقي ولعل ذلك التفسير يؤ شر لدى البعض من رواد الشعر القديم قبل الحداثتين الغربية والعربية افتقارا للعديد من الأشياء الغير مرئية والتي لاغنى للشعر عنها وانحباسا في البعد الذي لايدنو من المغامرة.
في المركب السَّكران:
الصور الشعرية في المركب السكران ليست بالضرورة ان تخلق تماسكا بينها فالامتزاج هنا كما عبر عنه عبد الغفار مكاوي يأتي من تباعد الأضداد وتأتي قوة الدهشة لا من خلال قوة التراكيب بل من خلال قوة التصورات وقد شبه ذلك التضاد بالعماء الذي أطره التمرد واللامتناهي غير المحدود وتفجير الهدوء وصولا إلى الدمار، ومن الدمار الوصول إلى الحرية ذات الخيال الجبار والمغزى في ذلك النيل من الوحدانية وإيجاد تعابير لاتتعالى إلا على الأشياء القذرة لتمجيد الكلي الذي يقدم تقاربا مابين الإنسان ووسائله الأخرى، ولعل هذا الإغراء وهذا الربط يعني لدى رامبو إدراك الاتجاهات التي تخلق ذلك التعاطف والذي بني أساسا من تفكك اللامرئي وعزل لواحق المشاهد المرئية ضمن فواصل الاسترخاء الخيالي الذي يشابهه كوجه آخر لانعكاساته المتمثلة بالجنون،
وليس من شك أن التأمل في هذه القصيدة من قبل المتلقي سيكون كافيا لتقريب مايعتلج بالنفس وما يراد من سرعة أنية للشعور بالمتعة التي تارة متعة صريحة وتارة متعة تخفيها الحوادث وتحتاج إلى المزيد من التنقيب:
عندما هبطت مع الأنهار العصية
أحسست أن ملاحيّ
تخلوا عني
تركت الأمواج تسوقني
إلى حيث أشاء
السّرية المتعالية:
قدم رامبو في العديد من نصوصه شكلا أخر لمحاورة النفس عبر غياهب عديدة ومجهولة فيها وهو على يقين بأن مايطرحه من محاوراته تلك لمرتد عليه لامحالة، فالرضا لديه تم على أساس تبنى اللغة التي تنحو إلى الحسية التي تعني المجهول في تضاد تام مع الواقع الذي أسس عليه ذلك المجهول،وهو سلوك نمائي يحرص الشاعر فيه على أي شئ ولايلقي بتبعية تلك التضادات خارج قوانينها الكونية فالمكان المعلوم تسخر حوادثه خارج المساحات المعلومة وتتم الإشارة لتلك الحوادث عبر الأبعاد النفسية المحضة وكآن الصراع لدى رامبو فيه شئ من السرية المتعالية كون حشده الانفجاري قابلا للإتساع وأتساعه يكمن في تهيئة إبعادا أخرى لأشكاله الجمالية:
أتنام منفيا
في مثل هذه الليالي
العاصفة باركت صحوي في البحار
أخفُ من سدادةٍ
رحتُ أرقص فوق الأمواج
التي تُدحرج كما يقال ضحاياها إلى الأبد
عشر ليال غير أسف على وهج المصابيح السخيف
ورايت مايتوهم الإنسان أحيانا يراه
والقُبل تصعد في بطء إلى عيون الأمواج
إن خلق تشبيها من خارج لاتشبيه يعني تجديد عملية الخلق للأشياء غير المتشابهة وتحويل المتضادات الى مقاربات تميل صورها الى الغرائبية في تشكيل المعنى مع إدامة الإسترسال في المشهد الشعري دون ألإلزام بتتابع الصور وتكديسها في مناطقها المتوالية، وهذا التصور في الشعر يعود الى نشاط المتخيلة وفاعليتها في الدوران حول إتجاهات مختلفة وموجودات ليس بالضرورة أن تكون ضمن المناخ العام الذي يهئ له الشاعر ولكنه ضمن المتوقع الذي سوف يكون مضافا لما تأتي به المخيلة،وهذا النسق في القفز يعني التعمد في إقصاء الأشياء المرتبة والمتوقعة من المتلقي وبذلك تكون نصوصه إمتلكت سحرها الخاص وفعلها غير المتوقع وأنبهاراتها المتنوعة حيث لن تكون هناك نسبية في تقدير المنتج لأن عملية التحلل من الصور الايجازية الصريحة سارية المفعول في مجريات القصيدة ولن يبعث أي هدوء أو أي إستمالة مقصودة لماهو مكرر ضمن وصفه،إن القصيدة تفكك بعضها البعض لتبدأ عملية الخلق المكثف بعد هذا التفكك ثم تعاود هذه الإدامة فالمتنفس فضاء واسع لوجود الحدث الأوسع أي قدرة رامبو على خلق أنساق من الحوادث ضمن الحدث الواحد خارج مساحات الصور المألوفة.
الضوضاء الفاتنة:
ضمن مسارات أخرى هناك شيء من الألغاز أو شكل من أشكال الغموض لكنهما ليسا بالمصطنعين لدعم حركة القصيدة فهو إستحظار لأوصاف وشواهد موروثة سواء على صعيد الأشخاص أو على صعيد حوادث البحار أو على صعيد مواجهة القدر.
في هذا التوسع لدى رامبو نجد أن الإثارة لاتقف عند حدود قصوى وتقف عند تلك الحدود لكنها تثير إثارة أخرى وهذه تكشف عن إثارة أخرى ليتوالد في القصيدة ذلك العنف ذلك الصخب وتلك الضوضاء الفاتنة، الضوضاء التي تنمي المجهول بعد أن اكتشف مافيه، وقد إنطلقت من ذهن متحسس إلى مجهول إستطاع الشاعر أن يجد من خلاله كلَ شيء.