الحب كرصاصة أخيرة.. قراءة في “مذكرات قاتل عاطفي”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مهيب البرغوثي

هي ليست مذكرات لقاتل عادي، أو قصة حب رومانسية أراد من ورائها الكاتب أن يصبح مشهورًا، وأيضًا ليست من تجارب القتل المتسلسل لقاتل محترف.

هي بكل بساطة رواية تقع في 80 صفحة، قد تنهيها في جلسة واحدة، رواية تحاول أن تحكي قصة قاتل مأجور في مهمته الأخيرة ثم اعتزاله.

“مذكرات قاتل عاطفي” ليست بالحرف والمعنى الذي قد نفكر به منذ سماع العنوان للوهلة الأولى. أمامنا قاتل لا يعترف بالعاطفة، وتكاد تكون ممحية من قاموسه. الذي يحرّكه ليس العاطفة، وليس الحب أيضًا. الشيء الوحيد الذي يحرّكه ويحرك مشاعره هو الفضول.

الفضول، نعم، هي الكلمة المناسبة لقاتل مأجور، كلّ همه بعد أن تأتيه الأوامر، وقبل أن يبحث عن المسؤول، أو الهدف، أو عن القيمة المادية، أو العنوان، أو شكل ونوع الضحية، يكون السؤال:

“لماذا عليه أن يقتل؟”

هذا الفضول الذي بقي في روحه زمنًا طويلًا، يلح عليه منذ أن بدأ مهنة القتل دون طرح الأسئلة، وهذا الشرط الأخير كان المحرك وراء خلق الفضول لديه، ليعصف به الفضول إلى إنهاء عمله وتقاعده.

تشعر وأنت تقرأ الرواية أنك تتمنى أن تجد اسم القاتل في إحدى الصفحات، أو مخططًا ما لوجهه. الفكرة الوحيدة التي تبقى معك حين تنهي الرواية: لماذا القتل بكل هذا الحب لمهنة القتل فقط؟

تسارع الأحداث، رغم سرعته، إلا أنها أحداث تعتبر سطحية، وأسلوب الكتابة يمتاز بسخرية مغرية لتتمة الرواية. إنها رواية مشوقة، وفضول القارئ لا يقل عن فضول القاتل.

وقد نجح الكاتب في كتابة الرواية وسط غموض غريب. تقرأ رواية كاملة دون أن تعرف عن بطلها سوى عمره، وكأن الكاتب هو القاتل المأجور، كأنه يخاف أن يُفشي سرًا خاصًا. السرد فيها عالٍ جدًا، وقد يصدم القارئ في بعض المشاهد.

رواية مذكرات قاتل عاطفي للكاتب التشيلي لويس سبولفيدا، صدرت في بيروت عن دار الآداب، وقد ترجمها الشاعر والمترجم اللبناني من أصل فلسطيني، اسكندر حبش. وهذه إحدى أجمل رواياته، إلى جانب رواية العجوز الذي يقرأ الروايات الغرامية.

وقد عاش سبولفيدا تجربة سياسية قاسية في ظل الأنظمة الدكتاتورية. يقدم لنا هنا رؤية عن عالم يحوّل البشر إلى أدوات قتل باردة، حيث يصبح العنف مجردَ خدمة مدفوعة الأجر، والإنسانية شيئًا يمكن التخلص منه بضغطة زناد.

فقد اختار البطل مهنة القتل حتى وصل إلى مرحلة من مراحل الإتقان والإخلاص في عمله، لم يُخطئ أبدًا، ولم يتوانَ في تنفيذ مهمته، وكل حلمه أن يكمل حياته بعد التقاعد في السفر والاستمتاع مع جميلته الفرنسية، التي تعرّف إليها في إحدى مهماته المعتادة وهو ينتظر ويراقب ضحيته.

 

يظهر بطل سبولفيدا قاتلًا محترفًا، ينتمي لجماعة سرّية، يتنقل بين تركيا والعالم، يختار فندقًا (شيراتون)، وينتظر وسيطه ليزوده بتفاصيل حول ضحاياه: صور، عناوين السكن، أماكن إقامة. وكل شخص يقتله “هو مجرد عقد عمل”، في فلسفته: القتل مقابل المال.

كُتبت الرواية بلسان القاتل المأجور، ما يمنح القارئ نظرة داخلية إلى عقله، ويورّطه عاطفيًا مع القاتل، رغم علمه بطبيعة عمل البطل الإجرامية. تتداخل في السرد أحداث الماضي والحاضر، حيث يعيد البطل استرجاع بعض اللحظات الحاسمة في مسيرته الطويلة والاحترافية في القتل.

يعيش البطل عزلة مترفّعًا عن الناس، كأنهم كلهم من الضحايا، يكرههم وينتظر الأوامر لقتلهم، كما لو كان في لعبة افتراضية. وبحسب تعبيره: “يحيا القاتل المحترف وحيدًا: يصل، يقتل، يرحل”. كانت كراهية الناس والعزلة سلاحه الوحيد.

ضمنيًا، تأسره الفاتنة الباريسية الصغيرة ذات الفم الأحمر، رغم إدراكه أن الحب يقوّض عالمه المنكفئ فيه. الحب ينقله من الغموض إلى السطح.

هل الحب قاتل؟

مع اقتراب يومه السادس من تنفيذ المهمة الأخيرة، يجد القاتل نفسه مترددًا لأول مرة في حياته.. بينما يراقب ضحيته من بعيد، تخطر بباله صورة فتاته، ويتساءل إن كان عليه أن يذهب لمقابلتها بدلًا من تنفيذ مهمته.

لكن القدر يحسم الأمر حين يرى طفلًا يخرج من المنزل المستهدف، حاملًا علبتَي سجائر من النوع نفسه الذي تدخنه فتاته!

عندها، يدخل المنزل ليجدها هناك، تجلس بجوار هدفه، ودموعها تملأ عينيها. في لحظة خاطفة، ينفذ المهمة ويتخلص من هدفه، ثم يأخذ الفتاة بين ذراعيه.

“خذني من هنا”.. قالت له. أجابها: “بالطبع”، قبل أن يطلق رصاصة في صدرها.

كان ذلك قراره الحتمي. فالقاتل المحترف لا يخلط العمل بالعواطف. ربما أحبها، لكن الحب نفسه كان خطرًا عليه، وكان لا بد من القضاء عليه.

إنها قصة قاتل محترف، اكتشف أن أكثر ما يخشاه ليس رصاصة عدو، بل ضعفًا بشريًا يتسلل إليه عبر قلبه. وفي النهاية، يختار أن يبقى قاتلًا حتى آخر لحظة، لأن البديل الوحيد هو أن يصبح إنسانًا عادياً.. وهو شيء لم يعد يعرف كيف يكونه.

مقالات من نفس القسم