- البُّناة العظام
الحبُّ من لوحة: رواية «مادونا صاحبة معطف الفرو» لصباح الدين عليّ
ممدوح فرّاج النّابي
ولد صباح الدين عليّ في مدينة كومولجينة في الإمبروطورية العثمانية، وهي تقع الآن في دولة بلغاريا،عام 1907، وتوفي في جريمة قتل غامضة في كركلارلي وسط ظروف غامضة عام 1948. عمل مدرسًا لفترة من الوقت في مدينة إسطنبول، ثم أوفدته وزارة التعليم عام 1928 في بعثة إلى ألمانيا. قضى عامين في ألمانيا ثم عاد ليمارس تدريس اللغة الألمانية في مدن أيدن وقونيا وأنقرة، ثمّ في تحول مفاجئ انتقل إلى مؤسسة النشر، وعمل كنائب مدير معهد الموسيقى الحكومي.
أسس في أسطنبول مجلة ساخرة تحمل عنوان “ماكروباشا”، وهو ما عرّضه للصدام مع السلطات فتمَّ اعتقاله وسجن لمدة ثلاثة أشهر، وأثناء هروبه قتل، وقيل إن أحد المهربين قتله. من أهم أعماله “يوسف الكويوجاكلي” (1937)، و”الشيطان في داخلنا” عام 1940، وهي العمل الذي يقوم بترجمته الصديق أحمد زكريا مع ملاك دينيز دمير الآن. وأخيرًا رواية “مادونا صاحبة معطف الفرو”، وهي الرواية التي اكتسب منها شهرة كبيرة.
نشرت هذه الرواية أوّل مرة عام 1943 بواسطة دار نشر رمزي، وكتب عنها الشاعر ناظم حكمت. الغريب أنه أرسل له نقده وهو في السجن.
ينتمي الكاتب التركي صباح الدين عليّ إلى الواقعية التركيّة، وإن شئت الدقة «واقعية القاع» التي تحتفي بالهامش وترصد البؤس الاجتماعيّ، والحياة البدائية بكل ما تصوّره من شقاء ومعاناة لأصحابها، ففي أعماله القصصية أو الروائيّة دائمًا نموذج لهذا الإنسان التركيّ البسيط المطحون، كما هو ظاهر في شخصية «يوسف الكويوجاكلي» في الرواية المسمّاة بذات الاسم، فيوسف نموذج للطفل المشرَّد بعد وفاة والديه في جريمة قتل بشعة، ويبقى الطفل في مواجهة لأقداره التي تدفع به من سوء إلى أسوأ.
وبالمثل رائف أفندي بطل رواية «مادونا صاحبة معطف الفرو» التي صدرت ترجمتها إلى العربية مؤخّرًا عن دار نشر أثر بتوقيع جهاد الأماسي، نموذج للبطل التراجيدي / المهزوم القادم من التراجيديات الكلاسكيّة في الآداب العالميّة كما في نموذج إيفان ديمتريفيتش تشرفياكوف بطل رواية «موت موظف» كما عند أنطوان تشيخوف أو «إيفان إيليتش» عند ليو تولستوي، أو حتى نموذج «كامل رؤبة لاظ» عند نجيب محفوظ في السّراب، فيسير إلى حتفه، حاملاً مأساته وهواجسه ويندفع بكلِّ رضا إلى نهايته باستسلام مقيت.
- الرجل الجوف
نموذج شخصية رائف أفندي المسالمة إلى درجة النفور منه فهو على حدّ مديره في البنك الذي يعمل فيه كمترجم «رجل بسيط وهادئ، مشغول بنفسه، ولا يصيب ضرره أحدًا» يستدعى في الذاكرة بعد اكتمال قصته مع ماريا في رحلته بألمانيا، ثم عودته ومواجهة نسبائه الباردة والسلبية وهم يستولون على ميراث أبيه من مصانع الصابون، وحقول الزيتون، ولا يتركون له إلا الفتات، وسلبيته الموجعة في رحلة بحث أمه عن الكنز المدفون، وسط ضحكات نسبائه الساخرة؛ الرجال الجوف الذين ذكرهم إليوت في قصيدته الأرض الخراب وهو يقول: “نحن الرجال الجوف / نحن سقط المتاع / … فصوتنا يباب / بلا معان نحن خامدون / كالريح تعوى فى يابس الحقول والفجاج…إلى آخر الأوصاف حتى يقول: ونحن فى قبونا السراب / شكل بلا جسد / ظل بلا ألوان / عزيمة مشلولة بلا عضد / إيماءة بلا شعور أو حنان.”
هكذا خالني رائف أفندي الموظف المثالي الحريص على عمله حتى في أوقات مرضه، يطلب أن يؤدي ما عليه من ترجمات في البيت، ثم يرسلها عبر الساعي تارة وعبر صديقه تارة ثانية. حالة المثالية التي هو عليها في العمل يُقابلها معاملة سيئة من أقربائه في البيت، فصار هو والعدم سواء، لاوجود له إلا في تلبية طلبات البيت، هو وزوجته وكأنهما آلة تعمل من أجل تحقيق السعادة للآخرين، دون أن نعرف لماذا يقبل بهذا الوضع، رغم أن مدخراته لا تكفي لتوفير هذه الاحتجاحات المنزلية. كل هذا يهون وإن لم يكن هناك سببٌ لقبوله. الكارثة الحقيقة التي تُظهر هذه السلبية وأن الرجل بالفعل اختار طريق النهاية بإرادته، هو مشهد رؤيته لصديقته في المهجع في ألمانيا (فراو فان تيدمان) أثناء زيارتها لأنقرة هي وزوجها تاجر المستعمرات، كانت الحيرة بادية عليه هل يسألها عن ماريا بودر أم لا؟ وبين رغبته وتردُّده، يأتي السّؤال، وتأتي الإجابة المفزعة، أنها ماتت بعد أن قَضى الرَّجل عشر سنوات مِن عمره وهو في أوهام أنّها خانته، عاش عشر سنوات كارهًا للحياة وللناس يقمع نفسه بهذه الزيجة وهذه الأسرة التي تستغله ماديًّا وتقهره معنويًّا، كأنّه سجين ينتظر هذا اليوم. لكن الصّدمة الحقيقية عندما علم بملخص ما حدث لها بعد عودته من برلين إلى بلده، إثر وفاة والده، بمرضها عندما عادت إلى براغ، وحَمْلها ثمّ اعتلال صحتها ومحاولة الأطباء انقادها، لكنها فضّلت انقاذ الجنين على حياتها، كان كل شيء يقول إن هذه الفتاة التي تبلغ الثامنة أو التاسعة من العمر هي ابنته، لكن تحرك القطار دون أن يسأل عن اسمها، أو حتى ينظر في عينيها.
في الحقيقة لا يمكن لقارئ رواية مادونا أن يتعاطف مع بطلها، رغم ما مرّ به من مآسٍ سواء وهو يتذكر ماضيه ونشأته في إحدى مدن غرب تركيا، وطفولته وما شهدته من حالة اللا وفاق بينه وبين أبيه، فالمشاعر بينهما جامدة، ولا يعرف بماذا يجيب إن سأله أحد عن أبيه: هل هو جيد أم لا؟!
- الدفتر الأسود
لم تأخذ الرواية الاسم الأخير المعنونة به «مادونا صاحبة معطف الفرو» وهو عنوان اللوحة التي انبهر بها رائف أفندي في المعرض، إلا بعد مراحل. فالرواية كتبها صباح الدين عليّ وهو يقضي خدمته العسكرية، ومن المفارقات أنه أثناء الكتابة سقط من على حصان، وكُسرت ذراعه اليمنى، فكان ينقع ذراعه في ماء دافئ ويواصل الكتابة، حتي يستمر في النشر.
كانت تنشر الرواية منجمة في صحيفة الحقيقة في الفترة الواقعة بين 18 ديسمبر 1940 و 8 فبراير 1941، تحت عنوان «حكاية كبيرة»، قبل أن تنشر في كتاب عام 1943، ثم اقترح الأديب جودت قدرت عنوان «الرجل عديم الفائدة» لكن صباح الدين ارتأى أن تُسمى «ثمانية وعشرون»؛ لأن بطلتها كانت في الثامنة والعشرين عندما تعرّف عليها، بعضهم يرى أنها إحدى عازفات الأوركسترا في إسطنبول، وآخرون يقولون إنها فتاة وقع في حبها في شبابه، خاصة أن أحداث الحكاية تدور في برلين، ومعروف أن صباح الدين ذهب إلى برلين لمدة عامين، وجاء ليعمل مدرسًا للغة الألمانية. صباح الدين نفسه يشير إلى حقيقة بطلة الرواية في إحدى رسائله لصديقته عائشة صدقي، بأنه كان عاشقًا لفتاة اسمها فروليان بودر، مثلت في أحد الأفلام هو “المغني المجنون”.
الرواية مكتوبة منذ زمن بعيد ما يقرب من خمسة وسبعين عامًا وإن كانت ترجمتها إلى العربية تأخّرت كثيرًا، لكن الملاحظ أن الكاتب يعمد في روايته إلى تقنيات حداثية، لم تكن معروفة في كتابات الروائيين الأتراك وقتذاك، وهو ما يضع الكاتب في قائمة المجددين، فالكاتب وزّع حكايته على حكايتين، وهو ما يدخل النص تحت بنية «الرواية داخل الرواية». فالجزء الأول يُسرد بلسان راو غائب هو صديق مدير البنك حمدي الذي يعمل فيه رائف أفندي ثمّ سيعمل به الراوي لاحقًا، يسرد عن مأساته الشخصية بعدما فقد عمله، إثر سياسية تقشف كاذبة، وبعدها يتصادف مع صديق المدرسة حمدي مدير البنك الذي يصطحبه إلى البيت ثم يلتقيه مرة ثانية في البنك، يكون عندها قد وفّر له فرصة عمل، هكذا يلتقي الاثنان في مكتب واحد، يبدأ الراوي في تتبع شخصية رائف أفندي في مكتبه وبيته بعد تعرضه للمرض، إلى أن يطلب منه رائف أفندي بعد أن اشتدّ عليه المرض أن يجمع أشياءه من المكتب، ومن ضمنها الدفتر الأسود الذي يطلب ــ في رجاء ــ رائف أفندي منه حرقه، إلا أنه يتوّسل إليه أن يسمح له بقراءته لليلة واحدة على أن يرجعه له في الصباح، يقبل، ومع فتح الصفحات الأولى يختفي الراوي الغائب ليحلّ الرَّاوي الأنا العائد على رائف أفندي، حيث نعرف أنه سجَّل هذه الأحداث بعد عشر سنوات من حكايته مع مادونا التي هام بصورتها قبل أن يتعرف علي صاحبتها ماريا بودر يوم أن ذهب إلى المعرض صدفة. وكأن الكاتب يستمع إلى نصيحة مارسيل بروست التي صاغها في الزمن المفقود، بأن الماضي لا يزال يكمن في نفوسنا، وبصورة محفوظة تمامًا،والحل الوحيد لاستحضار الماضي الذي هو أشبه بكنز مفقود هو استعادته بالكتابة عنه كتابة مفصلة، وهو ما كان القسم الثاني في رواية مادونا.
يستعير المؤلف في القسم الثاني تقنيات تيار الوعي، لاسترجاع الحكاية، فثمة منولوجات داخلية، ومناجاة للنفس وأيضًا تداعى حرّ أثناء سرده لحكاية طفولته لماريا بعد التعرف، في إجابة عن لماذا هو هذه الشخصية السلبية، وهو ما أعطى انطباعًا بأنه يحتاج إلى حنان الأم قبل أن تتورط في حبّه وتحمل منه.
الصدفة هي أحد العناصر المُشكّلة للأحداث بل تلعب دورًا مهمًا في إحداث الإثارة والتشويق داخل النص. فكل الأحداث المهمة في الرواية وقعت أو جاءت بعد مصادفات، فكتابة المذكرات جاءت بعد لقاء صديقته في المهجع في أحد المساءات في شوارع أنقره وهو يحمل الخبز ليلاً. والراوي الغائب يلتقي بحمدي الذي سيكون الخيط الذي يجمع بين الراوي الغائب ورائف أفندي في الشّارع ويوقف له السيارة، حتى لقاؤه بمادونا في المعرض كان بناءً على مصادفة، وبالمثل عودته إلى تركيا كان بعد مصادفة عثوره على البرقية التي تقول إن أباه توفي.
- رواية القاع
تتناثر ملامح الواقعية أو واقعية القاع في أعمال الكاتب الروائيّة الثلاثة، ولكن الرواية الأخيرة، رغم أن الكاتب بدأها متأثرًا بالواقعية في صورة شخصية رائف أفندي وعائلة زوجة التي يسكنون معه في بيت، ويعيشون واقعًا مزريًّا، وكذلك حياته العملية في البنك الذي التقي فيه الراوي في الجزء الأول، لكن تأخذ الرواية بعدًا رومانسيًّا في الحكاية الثانية، وهو ما أفقد الجزء الأول تأثيره على الأحداث، وجاء أشبه باستهلال باهت لم يحسن استغلاله، مع إن تأثيره أعمق من قصة الحب.
ومن هنا كنتُ أودُّ أنْ يهمل الكاتب قصة الدفتر الأسود ويواصل سرده عن شخصية رائف أفندي ومحيطة الأسري، وحالات الانكسار التي ظهر عليها، ولم يقف عندها الراوي كثيرًا؛ لكان قدّم لنا عالمًا ثريًّا عن حيوات هؤلاء البشر الذين ينتمون إلى القاع، بل لصار نموذج رائف أفندي واحدًا من الشخصيات النمط التي خلدتها الرواية العالمية، العجيب أن ما أرادته كان سببًا لغضب الشاعر ناظم حكمت الذي كتب أوّل نقد لها ، عن رواية أحبها وغضب منها، حيث يرى كما جاء في نهاية الرواية «أن القسم الأول كان على وشك أن يتوسع في تحليل الوجه الخفي لعائلة بورجوازية جديدة بطريقة عظيمة»
الهاجس السياسي الذي كان سببًا في دخول صباح الدين على السجن مرتيْن وأيضًا كان سببًا في مقتله أثناء هروبه في أحد الغابات، يمرره الكاتب دون أيديولوجيا أو شعارات زاعقة، فيتحدث عن تأثير الحرب العالمية والهُدنة على تركيا، وكذلك حروب تركيا ضد اليونان، وتحرير مصطفى كامل أتاتورك لهاوران من اليونانين بعد أن احتلوها لمدة ثلاثة سنين، أو على مستوى العالم، حيث تأثير الحرب كان فادحًا، وهو ما ينقله عبر حوارات المتواجدين معه في النزل فأجواء المعارك والمهادنات تنعكس على الجالسين تبعًا لموقفه من الحرب والاستفادة منها.
أحد أسباب الإقبال الذي ما زال يتجدّد لهذا العمل على مواقع القراءة (جود ريدز) هو القصة الرومانسية التي غلفت الحكاية رغم النهاية المأسوية لها، وإن كان ثمة سبب ثانٍ هو لغتها العذبة التي تميل كثيرًا إلى الشعرية، بل تتماشى مع الحالة التي عليها البطل، وتبدلاتها فنقلت اللغة الإحساس الداخلي للشخصية، وهو ما نجح في نقله المترجم إلى اللغة العربية ومع عذوبة الترجمة إلا أنها كانت تحتاج إلى ضبط أكثر في اللغة.