الجن لا يسكنون المجانين

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد رحيم

أنا بحاجة إلى شيخٍ سُفلي… أو إلى علاجٍ نفسيٍّ صارم.

لقد جننت. أو ركبني عفريت.

أنا طبيب نفسي، متمرّس في رصد الهلاوس والانكسارات العقلية. عقلي مدرَّب على الشك، يعرف متى يُشخَّص المرء بالجنون، ومتى يكون الأمر شيئًا آخر شيئًا غامضًا، دافئ النفس، ثقيل الجسد.

وأعترف: لقد ركبني العفريت.

متى بدأ يُراودني؟ لا أذكر التاريخ بدقة، لكنه بدأ مع بداية تردد سلوى على عيادتي الخاصة. لكني أذكر اللحظة… أول مرة وضع بطنه على ظهري، وأنفاسه الثقيلة تلفح عنقي، وسهمه الناري يخترقني حتى العظم. ومن يومها وكأنه ظل التصق بي.

سلوى…

الاسم وحده صار يرهبني، يرتج في ذهني. لم تكن مريضة عادية.

دخلت في مساء شتوي، والمطر يقرع زجاج العيادة كطبول حصار. كانت ترتدي معطفًا رماديًا طويلاً، ووشاحًا أسود يلتف حول عنقها كعقدة مشنقة. كانت رائحة عطرها خليطًا غريبًا من زهرٍ مُرّ ودخانٍ قديم، وحين أشعلت سيجارتها ارتعشت لهب الولاعة لحظة، كأنها تخشى أن تكشف سرًا.

جلست قبالتي دون أن تنتظر إذنًا، نفخت الدخان ببطء، ثم قالت:

“أنا لا أؤمن بالعلاج النفسي… لكنني جئت.”

كان في عينيها سواد عميق، ليس سواد لون، بل سواد هاوية، كأنك إن نظرت طويلًا ستسقط فيها.

قدّمت نفسها بجملة مقتضبة:

“أنا أستاذة جامعية… أدب فرنسي.”

ثم ابتسمت ابتسامة قصيرة وهمست: “ولكن لا تجعل هذا يخدعك، فأنا من أصول ريفية بسيطة ولك أن تتخيل امتزاج شعر رامبو وقصص دوساد مع حكايات الجدات عن الجنية العاشقة والمارد الساكن تحت الأرض.”

كان كلامها يمزج الرائحة الثقيلة للمكتبة الفرنسية القديمة بدخان المواقد الطينية، وكأنه يفتح نافذة على عالمين لا ينبغي لهما أن يلتقيا… لكنهما التقيا.

أثارت سلوى في داخلي شغف الطبيب كما لو كانت حالة لم أرَ مثلها من قبل. غالبًا ما يأتي المرضى النفسيون من ثقافة غريبة منفتحة، أو من ثقافة شعبية متحفظة. أما أن يجتمع العالمان في جسد واحد، وعقل واحد، وروح واحدة… فهذا كان جديدًا تمامًا عليّ.

إن المزج بين العالمين، في الغالب، يخلق شخصية مرنة قادرة على التكيف… لكنه أحيانًا يخلق كائنًا لا يعرف أين ينتهي العالم الخارجي وأين يبدأ داخله.

ذكرت عرضًا اسمين: رامبو… دو ساد.

رامبو… الفتى الذي خرج من بيت كاثوليكي شديد الانضباط، وتلقى التعاليم الدينية، ثم فجأة، في مراهقته، قلب الطاولة، وسخر من الكنيسة، وهاجم رجال الدين كما يهاجمهم كل الشعراء المجانين.

دو ساد… لم يكن متمرّدًا بالمعنى الرومانسي، بل خصمًا لرب العالمين نفسه. لم يكتفِ برفض العقيدة، بل جعل من الجسد لافتة سياسية ضد السماء، ومن الرغبة سلاحًا يحطم به كل ما هو مقدس. كان الإلحاد عنده ليس فكرة… بل شهوة، عقيدة من لحم ودم.

هذه الأسماء، في حياتي الأكاديمية، كانت آمنة، مؤطرة بين أغلفة الكتب. لكن على لسان سلوى… لم تكن كذلك. كان وقعها يشبه طرقًا بطيئًا على باب قديم في داخلي، باب كنت أظنه مغلقًا بإحكام.

شعرت لوهلة أنني أنا الجالس على الكرسي المقابل، أنا الذي تُشخّصه، لا هي. كنت أراها، وأتساءل: أيّ منهما يسكنها أكثر؟ شاعر يبحث عن معنى في فوضى الكون، أم فيلسوف يهوى هدم كل المعاني؟

ربما كلاهما… وربما شيء ثالث لا أعرفه بعد.

نظرتُ إليها مستفهمًا، وحاثًّا لها على أن تتابع. اقتربت قليلًا، وقالت بابتسامة غامضة:

“أنت مستمع جيد يا دكتور، مثلما قالوا عنك… لكن أعتقد أن مشكلتي أكبر من قدراتك.”

كانت كلماتها أشبه بيدٍ باردة وضعتها على صدري، ضغطة واحدة أربكت أنفاسي، وأيقظت شيئًا في داخلي…

ابتسمتْ وكأنها قرأت ما مرّ في رأسي، ثم أزاحت سيجارتها جانبًا، وأمالت رأسها قليلًا نحو الضوء الخافت، وقالت بصوت كمن يسرّ سرًا:

— «بدأ كل شيء… منذ أن رآك».

 

للحظة لم أفهم… رآني؟! من هذا الذي رآني؟

في عينيها شيء مترصّد، يتنفس معي، يراقبني من مكان لا أعرفه.

تشخيصها تردد في ذهني:

فصام… اضطراب ذهاني مؤقت… اضطراب هوية… اكتئاب ذهاني.

لكن شيئًا في أعماقي كان يقول: لا، هذه ليست حالة… هذه مرآة.

كلما نظرت إليها، لمحت في داخلي ظلًّا يقترب، أنفاسه تلامس أذني، وحرارته تثقل كتفي… حتى خُيّل إليّ أنني إذا التفت، سأراه جالسًا بيننا.

اليوم، لست متأكدًا من المريض ومن الطبيب… أو من العفريت.

وأخشى أن الإجابة… لن تريح أحدًا.

أنا الطبيب.

لكنني لم أعد أعلم متى بدأ يقيني العلمي يتزعزع،

ومتى توقفت عن أن أكون طبيبًا حقًا.

هل أنا من يكتب هذه الكلمات، أم من يراقبني من الظل؟

أملك شهادة معلقة على الحائط، ممهورة من جامعة ما،

لكنّي بدأت أشك أن ذلك الحائط نفسه قد خُدع.

أعيش في غرفة تشبه العيادة، لكن روائحها لم تعد تنتمي للطب.

شيء ما يسكن الهواء، له أنفاس، وإن لم أر وجهه قط.

قال لي أحد المرضى ذات جلسة:

“الجن لا يسكنون المجانين يا دكتور… يسكنون من يظنون أنهم عقلاء.”

ضحكتُ حينها.

والآن، لم أعد أضحك.

 

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
نور الهدى سعودي

أذن الضوء

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

العقرب