ترجمة: بدر الجهوري
في أحد المشاهد المفصلية في مستهل فيلم «لورانس العرب» يقوم (توماس إدوارد لورانس) وقائده الكولونيل (برايتون) بزيارة للمخيم الصحراوي للأمير فيصل زعيم الثورة العربية، وكانت الخيمة عبارة عن أقمشة قديمة لكن فاخرة تتدلى من السقف المنخفض، بها إناء نحاسي كبير يتلألأ مع ضوء الشموع، ولا يوجد أي أثاث سوى سجادة غنية سميكة يجلس عليها الرجال. ويبدو (برايتون) – ببدلته الأنيقة وحزامه المصقول من ماركة (سام براون) وحذاء الفروسية – متعبا بوضوح يمد ساقيه أمامه بشكلٍ محرج. ويبدو (لورانس) وهو برتبة ملازم أقل رسمية في لباسه وأكثر راحة في جلسته مائلا بساقيه إلى جانب واحد. أما الأمير الذي كان يرتدي بشتا داكنا وغترة بيضاء فيتكئ على كومة من فرو الغنم، بينما يتكئ زميله الشريف علي بلا مبالاة على عمود الخيمة. كل هذه الوضعيات المختلفة سينمائيا تتفق على نقطة أساسية واحدة وهي أن البدو يشعرون بالراحة في هذا المكان – الصحراء – بينما العقيد الإنجليزي المتزمت يبدو دخيلا، أما (لورانس) فيجد نفسه في المنتصف بين العالمين.
ينقسم العالم لفريقين، فريق يجلس على الأرض والآخر على الكراسي، وفي دراسة كلاسيكية للهيئة الجسمانية حول العالم حدّد عالم الأنثروبولوجيا (جوردون دبليو هيوز) ما لا يقل عن مائة وضعية جلوس مختلفة، حيث لاحظ أن «ربع سكان العالم على الأقل يريحون أجسادهم من خلال جلوس القرفصاء العميق (المنخفض) سواء للراحة أو أثناء القيام بعمل ما». وبينما يفضل الناس في جنوب شرق آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية القرفصاء العميق، نجد أن الجلوس على الأرض مع ثني الساقين شائع أيضا. ويقوم العديد من سكان جنوب آسيا بالطهي وتناول الطعام والعمل والاسترخاء في هذه الوضعية، وتجلس بعض قبائل الأمريكيين الأصليين في الجنوب الغربي بالإضافة إلى سكان جزيرة ميلانيزيا على الأرض مع فرد الساقين بشكل مستقيم أو متقاطعتين عند الكاحل. ووصف (هيوز) هيئة الجلوس مع ثني الساقين إلى جانب واحد – وضعية (لورانس أعلاه) – على أنها وضعية أنثوية في العديد من المجتمعات القبلية.
ويمكن نسب اختلاف وضعيات الجلوس حول العالم لاختلاف المناخ أو الملبس أو نمط الحياة، فمن شأن الأرضيات الباردة أو الرطبة أن تعيق الجلوس على الأرض والبحث عن بدائل مرتفعة، كما تصبح جلسة القرفصاء صعبة مع الملابس الضيقة، أما البدو الرحل فقد لا يستخدمون الكثير من الأثاث مثل المجتمعات الحضرية، وهلم جرا. ولكن هذه العلاقة السببية لا تفسر لماذا ظهرت الكراسي القابلة للطي في مصر القديمة، وهي منطقة ذات مناخ دافئ وجاف، أو لماذا يجلس اليابانيون والكوريون على الأرض بينما لديهم فصول شتاء باردة، أو لماذا سافر المغول الرحل بأثاث قابل للطي، في حين أن البدو الرحل لم يفعلوا ذلك.
ويوضح (هيوز) أنه لم يُدرج وضع الاستلقاء في بحثه لأنه لم يجد أدلة مصورة كافية، وهو أمرٌ مؤسف لأنه لطالما كانت وضعية الاستلقاء مريحةً للجسم، إذ كان لدى المصريين القدامى أسرة، وربما كانوا يتكئون على الأرائك بيد أن أيا من هذا لم يظهر في رسوماتهم، بينما أظهرتهم رسومات المآدب وهم يجلسون على الكراسي أو على الأرض. ويعود أقدم دليل مصور على تناول الطعام في وضعية الاستلقاء إلى القرن السابع قبل الميلاد في نقشٍ مرمري في المتحف البريطاني يطلق عليه «حفلة الحديقة» يبدو فيه ملكٌ آشوريٌ وزوجته يتناولان الطعام والشراب في الهواء الطلق وهما يحتفلان بعد الانتصار في إحدى المعارك. ويظهر الملك وهو يتكئ على أريكة تشبه أريكة استرخاء، بينما تجلس الملكة بالقرب منه على كرسي بذراعين، ويتشاركان طاولة محملة بالطعام. والأمر الغريب في ذلك الأثاث أنه مرتفع جدا، حيث إن الأريكة ترتفع خمسة أقدام تقريبا عن الأرض، بينما كرسي الملكة الذي يبدو ككرسي رجال الإنقاذ عند برك السباحة فيرتفع إلى منطقة الخصر ويتطلب مسند قدم للصعود عليه. والسبب في هذا الارتفاع هو رفع الجلساء فوق الخدم الذين يستخدمون مراوح تبدو كمخافق الذباب بمقابض طويلة لتهوية الزوجين الملكيين. ملاحظة غامضة: يبدو في النقش رأس عدو الملك المهزوم معلقا على شجرة قريبة.
عادة ما نتذكر المهندس المعماري النمساوي (برنارد رودوفسكي) وكتبه الاستفزازية مثل «هندسة معمارية بلا معماريين» التي يتحدث فيها عن معرض للفن الحديث عام 1964 حيث كان وقتها أمينا للمعرض ولكن كان يحب انتقاد التصاميم، فأشاد بعادة تناول الطعام في وضعية الاستلقاء ولاحظ أن الرومان في موائد الطعام لا يظهرون سوى بيد واحدة ولا يحتاجون لأدوات الطعام، وبالتالي يتخلصون مما أسماه فوضى المائدة. وكان (رودوفسكي) ناقدا ساخرا للأيقونات الفنية فاحتقر تصاميم الحمامات الحديثة على سبيل المثال، ولم تعجبه معظم الأدوات التي تسهل المهام المنزلية خاصة الكراسي، فقال: «مرهفو الحس بيننا يدركون الجوانب السخيفة للجلوس على الكراسي المخوزقة على أربعة أعواد أسنان أو مطوية كمحارة على ما يشبه نصف قشرة بالكاد يمكنها احتواؤها». ورغم تشنج وصف (رودوفسكي) إلا أنه كان تحديا محسوبًا لأولئك الذين يعتبرون الجلوس على الكرسي أكثر تحضرا من الجلوس على الأرض، وكان محقًا بالتأكيد في أن قلة الكراسي ليست علامة على التخلف أو الجهل، فلطالما كان النبلاء من اليابانيين والكوريين على دراية بأثاث الجلوس، لكنهم اختاروا الجلوس على المفارش بدلا من ذلك. وفي الهند لم تظهر وضعية الجلوس بشكل مستقيم إلا من قبل البريطانيين قبل قرنين من الزمان، ومع ذلك لا يزال معظم الناس يؤدون مختلف المهام من طبخ وأكل وعمل وهم يجلسون القرفصاء على الأرض.
ولاختيار وضعية جلوس على أخرى عواقب بعيدة المدى، فإن كنت تجلس على سجاد الأرضية سيتعين عليك تهذيب سلوكك من حيث خلع الحذاء قبل دخول المنزل، بل من المرجح أنك سترتدي نعالا بدلا من حذاء ذي خيوط، كما ستتخذ ملابس فضفاضة تمكنك من جلوس القرفصاء. ولا يحبذ من يجلسون على الأرض استخدام دواليب الملابس المرتفعة، بل يفضلون تخزين الأشياء في صناديق منخفضة تقترب من مستوى الأرض، كما أنه من المرجح أن من يجلس على الحصير ينام أيضا على الحصير، تماما كما ينام الأشخاص الذين يجلسون على الكراسي في الأسرة على الأرجح (باستثناء الهند، حيث إنهم ينامون على الأسرة رغم جلوسهم على الأرض). وتعمد مجتمعات الجلوس على الكراسي إلى صنع وتطوير أنواع مختلفة من الأثاث مثل طاولات الطعام وطاولات التزيين وطاولات القهوة والمكاتب، بينما نرى أثر الجلوس على الأرض جليا في الهندسة المعمارية، فالتجول في المنزل حافي القدمين يتطلب أرضيات ناعمة ويفضل أن تكون من الخشب الدافئ بدلا من الحجر، ويحتمل أن تكسو أماكن الجلوس الفرش الناعم أو السجاد المنسوج مع تحاشي عتبات النوافذ المرتفعة أو السقوف العالية.
ويتوجب على أي حضارة تقرر اتخاذ الكراسي للجلوس أن تتصالح مع حقيقة قاسية وهي الهيئة البشرية، وكان أول من أدرك العلاقة بين الجلوس وهيئة الإنسان الطبيب الفرنسي (نيكولاس أندري دي بواسريجارد) في القرن الثامن عشر، إذ كان (أندري) رائدًا في مجال جراحة العظام – بل هو من ابتكر هذا المصطلح – وفي أطروحته عام 1741 وصف العلاقة بين وضعية الجلوس الصحية والكراسي فقال: «عندما يجلس المرء وجسمه منحنيا للخلف يجب بالضرورة أن ينحني الظهر للداخل»، وأضاف: «وعندما يجلس المرء على مقعد أجوف، فإن الجهد الذي يبذله المرء بشكل طبيعي لضبط توازنه يجعل الظهر أكثر انحناءً». ويقصد بالمقعد المجوف تلك الكراسي ذات القاعدة المحبوكة والتي تترهل مع مرور الوقت. ولتحسين وضعية الجسد يقترح (أندري) إضافة برغي يساعد على رفع قاعدة الكرسي من الأسفل ليبقيها مسطحة.
وبعد أطروحات (أندري) بمائتي عام قامت (إيلين ديفيس كيلي) أستاذة التربية البدنية في جامعة أوكلاهوما بوضع ملخص دقيق للتحديات الفسيولوجية للهيئة الجسمانية في كتيب تعليمي، فقالت:
تشكل الهيئة أو الوضعية الجسمانية مشكلة فريدة للإنسان لأن الهيكل العظمي غير مستقر كليا في الوضع المستقيم، فالكرسي ذو الثلاثة أو أربعة أقدام يمكن أن يكون مستقرا، ولكن هل سمع أحدٌ بقطعة أثاث ذات قدمين؟ كذلك جسم الإنسان ذو الساقين يعاني من مشكلة دائمة في الحفاظ على التوازن، وما يزيد المشكلة تعقيدا أن للقدمين قاعدة صغيرة لا تستطيع دعم البنية الفوقية الشاهقة التي تحملها. وكما لو أن هذه المشكلة لم تكن كافية، تجد أن الجذع والرأس والذراعين مدعومة من الوركين إلى الأعلى بواسطة عمود فقري واحد (أي كأنها تقف على ساق واحدة).
وهنا يأتي دور الكرسي لتوفير راحة مؤقتة من عدم الاستقرار هذا، إلا أن الأمور تتفاقم – كما تصفها (كيلي) – عند الجلوس، حيث يتركز وزن الجسم على الحدبة الإسكية (عظام الجلوس) في قاعدة الحوض، وهذه العظام – التي تمثل سيقان كرسي هزاز – لا توفر سوى دعمٍ جانبي فحسب فتسمح للجسم بالتأرجح ذهابًا وإيابًا في الاتجاه الآخر. وفي حين يوفر ظهر الكرسي الدعم الذي يسمح للعضلات بالاسترخاء، إلا أن وضعه بشكل عمودي يؤدي لانزلاق الجسم للأسفل، بينما إرجاع مسند الكرسي للخلف يضع الظهر في وضعية مائلة غير طبيعية. وإذا كان المقعد صلبًا جدًا، سيكون غير مريح لعظام الجلوس، بينما إن كان ناعمًا جدًا، سيؤذي عضلات الأرداف ويضغط على عظم الورك مسببا مزيدا من عدم الراحة. ولو كان الكرسي منخفضًا جدًا، سيتركز وزن الجسم بالكامل على عظام الجلوس بدلا من الفخذين، بينما إن كان الكرسي مرتفعًا جدًا، فإن الجالس سيضطر للميل للأمام لجعل القدمين في وضع أكثر ثباتًا على الأرض، وهذا بدوره سيصعب التنفس وقد يؤدي لشدٍ عضلي في الرقبة.
وفي عام 1884 وجد جراح العظام الألماني (فرانز ستافيل)، أن معظم الكراسي «بُنيت للعين أكثر من الظهر»، فاقترح مسندا منخفضًا يدعم منطقة أسفل الظهر، وأوصى ستافيل الذي أُطلق عليه لقب «والد كرسي المدرسة الحديث» بأنه عند الجلوس يجب أن يقترب الظهر بأكبر قدر ممكن من منحنى العمود الفقري على شكل حرف S مزدوج عند الوقوف في وضع مستقيم. وخلال القرن التاسع عشر عندما أصبح التعليم الابتدائي إلزاميًا وقضى الأطفال وقتًا أطول في الجلوس في الفصل، اقترح الباحثون مجموعة متنوعة من تركيبات الكراسي والطاولات تهدف إلى تحسين وضعية الجلوس. وتضمنت بعض التصميمات أحزمة أمان وكابحات جبهة ومساند للوجه، إلا أنه من الصعب تخيل أن مثل هذه الأجهزة شديدة القسوة قد تم استخدامها بالفعل.
في عام 1913 نشر عالم التشريح السويسري (هانز ستراسر) تصميم كرسي بمسند ظهرٍ علويٍ مائلٍ بعض الشيء، وبمقعدٍ مائلٍ لدعم الجانب السفلي من الفخذين بشكلٍ أفضل. وبعد خمسة وثلاثين عاما جاء الباحث السويدي (بينجت أوكيربلوم) ليؤكد فكرة (ستراسر)، حيث استخدم الأشعة السينية والمخطط الكهربائي للعضلات لدراسة ميكانيكا الجسم أثناء في الجلوس، وصمم (أوكربلوم) العديد من الكراسي التي أصبح مسند ظهرها المنحني معروفًا باسم «منحنى أوكيربلوم».
وبالإضافة لهذا فحركة الوقوف والجلوس هي تحدٍّ أيضًا، بل لقد عانينا جميعًا من تلك الصدمة عندما نخطئ في تقدير ارتفاع الكرسي، لأننا عندما نهوي على الكرسي فإننا لوهلة قصيرة نرمي بضعف وزن الجسم على العمود الفقري، ويكمن حل هذه المشكلة في مسند الذراع الذي يساعد على الاتكاء أثناء عملية الجلوس وأيضا للقيام من على الكرسي. وهذا أمرٌ مهمٌ جدا خاصة إذا كان الكرسي منخفضًا مثل كراسي الصالات، فالنهوض من على كرسي منخفض بلا مسند ذراع أمرٌ صعب خاصة بالنسبة لكبار السن، كما أن لمسند الذراع غرضا آخر وهو تخفيف بعض الضغط عن الكتفين عن طريق توفير شيء نتكئ عليه أثناء جلوسنا.
وصف عالم النفس البريطاني (بول برانتون) الشخص الجالس على أنه «ليس مجرد كيس عظام خامل ملقى لبعض الوقت في مقعد، وإنما كائنٌ حيٌ في حالة ديناميكية من النشاط المستمر»، فنحن لا نجلس متصلبين بل نتحرك وننقل وزننا من جهة لأخرى حتى ولو بشكل طفيف، نضع ساقا فوق الأخرى أو نضم سواعدنا ونحرك عضلاتنا المتوترة من أثر الجلوس. باختصار نحن نتفاعل مع كراسينا، نجلس عليها، نميل للخلف وللأمام، وغالبًا ما نجلس على حافة مقاعدنا، أو نلف ساقنا حول ساق الكرسي، نلقي بذراعنا خلف ظهر الكرسي أو نلف ساقنا على مسند الذراع.
نحن نجيد المشي والجري، ونستمتع بالاستلقاء أثناء النوم، لكن المشكلة تكمن فيما بين هاتين الوضعيتين، والمشكلة تظل قائمة حتى لو جلسنا على الأرض والدليل أننا نستخدم مختلف أنواع الوسائد ومساند الذراعين والمفارش التي تستخدمها الثقافات التي تحبذ الجلوس على الأرض. بل إن الأمر المشكلة أكثر وضوحا عند الجلوس على كرسي، فكل كرسي يمثل صراعًا بين الجاذبية والتركيبة البشرية.
الجلوس منتصبا تحدٍ دائم.
…………………………………………
*مقتطف من كتاب «الآن أنا أجلس: من كراسي الإغريق الخشبية إلى الكرسي البلاستيكي: تاريخ طبيعي» للكاتب (ويتولد ريبجنسكي)، وهو أستاذ فخري في الهندسة المعمارية بجامعة بنسلفانيا الأمريكية.
*بدر الجهوري مترجم وكاتب عماني.
*نقلا عن صحيفة “عمان”