الجدار المهدّم نتكئ عليه حين لا نجد كتفًا آخر

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مروان ياسين الدليمي
1
لم أسأل المكان حين انسحب من قدميّ
كان يتدحرج مثل حجر خائف
يتصبّب غبارًا باردًا
ويترك على جلدي رائحة أزمنة سقطت سهوًا من دفتر المدينة.

المكان أيضًا يشيخ
يستيقظ ذات صباح فيجد جدرانه ترتجف
وتعترف له الطرقات بأنّها تعبت من حمل خطانا.

كنت أمشي وراءه
كأنّني أراقب صديقًا يهرب من ذاكرته
فيضحك بسخرية مهرّب يائس
ويقول:
خذوا صوركم
خذوا ضجيجكم
واتركوني أنسى كيف كنتم تتنفّسون فوقي.

لكنّ الذاكرة لم تكن تطيع.
كانت تتسلّق جسدي مثل قطة جائعة
تخمش صدري
وتطلب وجبتها اليومية من الألم.
والنسيان
ذلك المتشرّد الأنيق
كان يقف على الناصية
يلمع حذاءه بغبار الأمس
ويقول لي بعين نصف مفتوحة:
إذا تركته يدخل
فلن يخرج.

سألت نفسي:
حين يزول المكان هل نمحو ذكرياته حقًا
أم نمحو أنفسنا معه؟
لم يجب أحد.
حتّى الريح كانت منشغلة بترتيب نبرة صوتها
تجرّب ضحكة ساخرة تشبه ضحكتي
كأنّها تريد أن تذكرني بأنّ الأشياء التي نفقدها
تستمرّ في العيش داخل سخرية الهواء.

في تلك الليلة
صارت المصابيح تمشي على أطراف أصابعها
كي لا توقظ الشوارع النائمة
وكانت الشوارع تحلم بنا
تحلم بأن نعود
لنختبر هشاشتنا من جديد
لنرى كيف يتحوّل الجدار المهدّم إلى كتف حقيقي
نتكئ عليه حين لا نجد كتفًا آخر.

في تلك اللحظة
أحسست أنّ المكان لا يختفي
بل يغيّر جلده فقط
ينزع صورته القديمة
ويرتدي وجهًا لم نألفه بعد.
وأنّ الذكريات لا تُمحى
بل تنتقل مثل عدوى لطيفة
من حجر إلى حجر
ومن قلب إلى قلب
ومن خسارة إلى أخرى.

هذه هي البداية.
والباقي
سيأتي حين نواصل السير
داخل هذا الفراغ الذي يتنكّر
على هيئة باب مغلق.

2

أمشي وحدي
لكنّ الظلال تمشي قبلي
وكأنّها تعرف الطريق أفضل ممّا أعرفه.
كلّ ظلّ يحمل جزءًا من ماضٍ لم أعترف به
ويميل على كتفيّ
مثل صديقٍ يريد أن يهمس لي
بأنّ الأماكن التي نفقدها تربّي لنا أجنحة
حتى لو لم نجرّب الطيران يومًا.

أسأل نفسي مرّة أخرى:
هل نغلق الباب على الذكريات
أم نتركه مواربًا كي يدخل منه ضوء خافت
يذكّرنا بأنّ الحنين ليس إلّا كائنًا متعبًا
يتقافز على العتبات البعيدة
يرتدي قميصًا قديمًا
ويبحث عن صاحبٍ نسي اسمه؟ .

في الشارع المهجور كان الغبار يرقص
يعيد ترتيب خطواته كراقصة خجولة
تخبط الأرض بكعبيها
لتوقظ أحاسيسًا نائمة تحت الأسفلت.
وكنت أرى في تلك الحركة سخرية المكان من غيابي
كأنّه يقول لي:
ها أنت تمضي وتظنّ أنّك تركتني
بينما أنا من يتركك كلّ يوم بهدوءٍ متعمّد.

الأشياء تدبّ فيها الحياة حين لا ننتبه.
الحجر يتنهّد
والنافذة تعضّ على شفتيها من القلق
والباب يرمش بعينه الخشبية
في محاولة فاشلة لإخفاء ارتجافه.
كأنّ العالم كلّه يستعدّ لاعترافٍ كبير
لا يجرؤ أحد على قوله:
إنّ الذكريات لا تُمحى
إنّها تظلّ تتجوّل بين أنقاضنا
مثل سيّاحٍ ضلّوا الطريق
لكنّهم مستمتعون بالضياع.

وفي لحظة غامضة اختلط صوتي بصوت المدينة
لم أعد أعرف أيّنا يروي حكاية الآخر.
كنت أشعر بأنّني أقف على الحافة
بين ذاكرة تتشبّث بي ونسيانٍ يلوّح بيده
كمن يعرض صفقةً أخيرة
لا يمكن رفضها
ولا يمكن قبولها.

تساءلت وأنا أرى الغروب يرتدي قبعته الحمراء
كعازف عجوز يستعدّ لآخر أغنية:
هل يموت المكان حقًا ؟
أم يموت فيّ
ذلك الجزء الذي لم يجد شجاعةً كافية ليقول له:
ابقَ قليلًا، فلديّ كلام كثير لم أقله بعد؟ .

هذا ما عرفته وأنا أعبر المسافة
بين ضحكة ساخرة وبكاء مكتوم.
والقصة ما زالت تتنفّس.

3

أجلس الآن على حافة المساء
وأشعر بأنّ الضوء يختبر صبري
يمدّ أصابعه على الطاولة
كما يفعل صديقٌ قديم عاد بلا موعد
ليرى إن كنت ما زلت أتذكّره.
الضوء كائنٌ حسّاس
يخاف من الأسئلة الثقيلة
ويغار من العتمة حين تتمشّى بخطى واثقة
كأنّها تعرف مكانها في العالم أكثر ممّا نعرف نحن.

أمسح الغبار عن وجهي
فأسمع همسة تأتي من مكانٍ لا أراه:
” لا تمحُ شيئًا…
كلّ ما يُمحى يعود بطريقةٍ أبشع ” .
كانت الهمسة دافئة
تخرج من فمٍ يشبه فم الذاكرة
لكنّها تحمل رائحة النسيان.
كلاهما كان يجلس بجانبي
كشقيقين متخاصمين
يتشاركان الملعقة نفسها
والماضي نفسه
والسخرية ذاتها
من محاولاتنا البائسة لترتيب الفوضى.

أتذكّر الأمكنة التي هربت منّي
كيف تركت وراءها الباب مفتوحًا
مثل فمٍ يريد أن يقول شيئًا ولا يجد اللغة المناسبة.
اللغة أيضًا كائنٌ حيّ
تتثاءب
وتتدلّى من حوافّ الكلام
كسحابة غير واثقة من موعد المطر.

كنت أراقب الأشياء وهي تندمج ببعضها:
الذاكرة في النسيان
والخطوة في الظل
والحقيقة في الكذبة الصغيرة
التي نرويها لأنفسنا قبل النوم.
ثمّ يحدث ذلك الشقّ الرفيع
حيث يتحوّل الواقع إلى كائنٍ يركض بسرعة هائلة
بينما تتعثّر الذات في ربطة حذائها.

قلت لنفسي وأنا أشعر بأنّ الشارع يتنفّس بصعوبة
مثل عجوزٍ يفقد أسماء أحفاده:
ربّما المكان لا يرحل
بل يدفعنا فقط إلى الاعتراف بأخطائنا.
ربّما كان يطلب منّي أن أعيد ترتيب روحي
وأحمل هزائمي برفق،
كما نحمل قدحا مكسورًا لا نريد رميه
لأنّه يشبه قصّة قديمة لم تكتمل.

ضحكت.
ضحكت كما يضحك ساخر
يعرف أنّ العالم لعبة مكسورة منذ البداية.
ثمّ سألت نفسي:
هل يجب أن نمحو الذكريات حين يزول المكان؟
أم يجب أن نتعلّم كيف نحملها في جيوبنا
مثل مفاتيح منازل لن نعود إليها
لكنّها تمنحنا إحساسًا صغيرًا بالطمأنينة ؟ .

وأنا أفكّر
كانت الريح تمرّ بجانبي وتربّت على كتفي
كأمٍّ فقدت أبناءها
لكنّها ما زالت تؤمن بأنّ الحبّ يعود دائمًا
ولو في هيئة دخان يتسلّل من نافذةٍ صدئة.

هكذا فهمت أخيرًا أنّ المكان لا يموت
بل يتحوّل إلى طريقة جديدة لنرى أنفسنا.

وها أنا أترك السؤال معلّقًا في هواء الغرفة
مثل مصباح لا يعرف إن كان عليه أن يضيء
أم أن ينطفئ.

مقالات من نفس القسم

rana altonsi
يتبعهم الغاوون
رنا التونسي

نصوص