الثورة الصناعية الخامسة في فلسفة روسو

جان جاك روسو
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. نعيمة عبد الجواد

التاريخ ما هو إلا حقب متتالية شبه متطابقة، وفي كل حقبة يصل فيها الإنسان لقمة من التقدُّم والازدهار، والتي لن تصبح، للأسف، بداية لدروب أفضل لمسيرة الحياة البشرية، تتحوَّل إلى نقطة إنطلاق لإنهيار إنساني غير مسبوق من شأنه تمهيد الطريق لحقبة أخرى تصير أكثر تقدُّمًا ورفاهية. وأمَّا الخسائر البشرية والنفسية والاجتماعية التي تتكبدها البشرية حينئذٍ، لا تفيها صفحات التاريخ ذكرًا، بل تسطر ما حدث في اقتضاب وتركِّز على دروب التقدُّم حديث النشوء. ولقد لاحظ الفيلسوف والمفكِّر الفرنسي “ميشيل فوكو” Michel Foucault (1926-1984) ما يطرأ على مسيرة التاريخ، ووصف إيَّاها بأنها حلقات مفرغة من القوَّة epistemes of power تشبه الزنبرك، إلَّا أن هذا الوضع من الأحرى وصفه بأنه حلقات من الانتخاب الطبيعي لن ينجو منها إلَّا من يكن مفعمًا بقوَّة ذهنية تؤهِّله لبلوغ المرتبة التالية من الانتخاب الطبيعي الذي يفرضه التقدُّم.

ويغزو العالم في الوقت الرَّاهن تغيُّرات عنيفة على جميع الصُّعد، سواء أكانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، ولربما كان السبب الرئيسي في ذلك هو النهضة العلمية الغير مسبوقة متمثلة فيما قد يطلق عليها مجازًا “الثورة الصناعية الخامسة” والتي بطلها في تلك المرحلة هو الذكاء الاصطناعي.

وما أشبه اليوم بالبارحة، فلقد ولد الفيلسوف والمفكِّر والكاتب ومؤلِّف الموسيقى الفرنسي الأصل والجنيفي المولد “جون جاك روسو” Jean-Jacques Rousseau (1712-1778) في حقبة سادتها تغييرات عنيفة في كل المناحي. فلقد كان العالم يسير إزاء الثورة الصناعية الأولى التي غيَّرت تاريخ البشرية، لكن مهَّد لحدوثها تغيير المنهاجية الفكرية الشعبية التي كانت خانعة لنفوذ كل من الملك والكنيسة؛ ففي خضم الصراع الفكري الذي يسود أوروبا، بدأ العامة في مساءلة الكنيسة ودورها، ومن ناحية أخرى مساءلة شرعية الملك، وتضمن ذلك رفض سلطته بأنه ممثل الخالق على ظهر الأرض. ولقد ساهم في إزجاء ذاك الصراع الفكري الانفتاح على ثقافات أخرى من خلال التوسُّع التجاري الذي أضحى بمثابة نشر ثقافات جديدة. وفي نهاية القرن الثَّامن عشر، اجتاحت الثورة الصناعية الأولى جميع أرجاء أوروبا، فزادت من حدَّة نشوب الصراع الفكري الذي كان مصدره القلق من تفوُّق الآلة على الإنسان، والذي قد يُفضي الاعتماد عليها تقليص دور البشر، وبالتالي بروز خطر فناء البشرية. لكن، ذلك أفضى في نفس الوقت إلى التفكير في صيغة للتكيُّف مع تلك المتغيِّرات للاستفادة من التقدُّم العلمي، مما دفع البشرية نحو حقب تالية أعنف تقدمًّا وأشدّ قسوة.

ومن أوائل المفكرِّين الذين تم نعتهم بالحداثيين في فجر التقدُّم البشري كان الفيلسوف “جون جاك روسو” الذي كانت أفكاره لا تتبع النمط الفكري السائد حينذاك، بل كانت تقدُّمية لدرجة ترقى لانتمائها إلى قرن لاحق من الزمان. ولعل أبرز ما أثرّ في تكوين شخصيته وأفكاره نشأته ورحلة حياته منذ الطفولة. فلقد ولد في مدينة جنيف، التي أصبحت عاصمة السلام في سويسرا في الوقت الحالي، لكنها كانت حينذاك بعيدة عن التقدُّم والرفاهية. و”روسو”، ابن الطبقة المتوسطة، كانت والده يعمل صانعًا للساعات، وبحثًا عن حياة أفضل، انتقل إلى فرنسا بينما كان “روسو” لا يزال في الثانية عشرة من العمر فقط. لكن الطفل اليافع منذ ذاك الحين أصبح مراقبًا لذاك المجتمع الجديد، الذي انتقد ما يسوده من سطحية فكر وتفاهة، والانغماس في الرفاهيات والملذَّات، فكان ذلك مؤشرًا لضعف النمو الفكري في المجتمع الفرنسي؛ لأنه كان يظن التقدُّم العلمي يصاحبه تقدُّمًا في عقلية المجتمع، وليس فراغ وتفاهة اجتماعية أدَّت إلى اختفاء الرحمة وتحجُّر قلوب جميع طبقات المجتمع، مما جعل “روسو” مؤمنًا بأن التقدُّم يبتلى المجتمع بعواقب سلبية.

شغل عقل “روسو” التفكير في إيجاد سببًا لذاك التأثير السلبي للتقدُّم، وخاصة وأن البشر فطروا على حب الخير وطيبة القلب. ولتفسير ذاك التحوُّل استخلص أن الإنسان مجبول على ما بسمى “اعتبار الذَّات” amour de soi وفي تلك المرحلة يحاول إرضاء متطلباته الذَّاتية، لكنه في نفس الوقت يتعاطف مع الآخرين. لكن نهج “اعتبار الذَّات” غير قادرًا على مجاراة التقدُّم والمتغيِّرات المتلاحقة، مما يصيبه بالضعف وأحيانًا بالشلل، وعندها يتحوَّل إلى “حب الذَّات” amour propre والذي ينشأ بسبب التقدُّم والازدهار التكنولوجي. فما يحدث أن الإنسان تكسوه قشرة خارجية تزداد صلابتها وسمكها مع محاولة مجاراة الآخرين وتقليدهم، والتسابق معهم من أجل تحقيق الثروة وبلوغ مناصب رفيعة، علمًا بأن ما يطرأ على الفرد من تغيُّرات هي بالفعل ظاهرية وقشرة خارجية تتوافق مع الأولوية الأولى للمجتمع المتقدِّم؛ وهي تفوُّق المظهر والبعد عن مساعدة الآخرين، مما يساعد على توحُّش الأنانية. ولذلك أطلق “روسو” على تلك الطبقات “النبلاء المتوحِّشون”.

ولحل تلك المعضلة نشر “جون جاك روسو” كتابه “العقد الاجتماعي” Contract Social في عام 1762، الذي ألَّفه ليكون بمثابة ميثاق لتنظيم الحياة الاجتماعية في ظلّ التقدُّم العلمي والمتغيِّرات المصاحبة التي تكون بمثابة سلاسل تستعبد الإنسان الذي خُلِق حرًّا لكن تحيله المتغييرات إلى تابع خانع، أو كما يقول: “ولد الإنسان حرًّا، لكنه في كل مكان يجرّ سلاسل الاستعباد”. ولطالما أكِّد أن القوَّة السلطوية لا تؤتي بثمار حميدة، فمبدأ البقاء للأقوى يفتح المجال للكثير من الصراعات والمزيد من “حب الذَّات”. وعلى عكس معاصريه، كان يسعى لوجود طبقة حاكمة لا تكون القوة الغاشمة شيمتها، بل تكون قادرة على مراعاة تقلُّبات البشر المتناقضة التي تشبه الانتقال من الريف للمدينة، والعكس.

ولهذا السبب، أكَّد “روسو” على أهمية كتابة ما يشبه “العقد” ليكون وثيقة اجتماعية تنظِّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم يتم فيها حماية الفرد والملك بطريقة يشعر فيها الفرد بالانتماء للمجتمع وأن يخدم طوعًا الآخرين دون أن يتنازل عن ولو ذرة من حرِّيته. وبالتأكيد، تلك معادلة صعبة تشغل المفكِّرين والفلاسفة من الماضي وحتَّى وقتنا هذا. لكن حلّ تلك المعادلة الصعبة بالنسبة ل”روسو” كان يقتضي أن يقدِّم الفرد كل ما لديه لأصحاب الأمر حتى لا يُثقل كاهل أحدهم بالهموم ويتجرَّع القسوة بينما يرفل آخرين في النعيم، ثم يدع الأمور في يد أصحاب الأمر لتنظيم خطوط المستقبل؛ لأن الفرد هو جزء من المجتمع، والمجتمع لا يمكن أن يصبح كينونة بدون الفرد، فكلاهما يكمل الآخر. وبالتأكيد، ذلك يتطلَّب قوَّة إرادة وعقلية متينة راقية. والتسليم لأصحاب الأمر هو الاعتراف بدورهم حينما توضع مجموعة من القوانين الثابتة التي تتحرى الدِّقة لتحقيق العدالة بين الناس. لكنه حذَّر من مغبَّة إجبار الفرد لأن يصبح حرًّا، وذلك يحدث حينما لا يستطيع التوافق مع التغييرات السائدة في مجتمعه.

وبالنظر إلى المجتمع في صورته الحالية في ضوء نظرية “العقد الاجتماعي” التي نادى بها “روسو”، يلاحظ أن الإنسان أصبح حرًّا، ولعل وسائل التواصل الاجتماعي تؤكِّد على ذلك؛ والسبب عدم توافر قواهد وقوانين تنظيمية رادعة على الصعيد العالمي تنظِّم العلاقة بين الفرد والعالم الافتراضي والتي تنعكس بدورها على علاقة البشر بعضهم البعض، فتفشى قانون الغاب، وأصبح مبدأ البقاء للأقوى سائدًا. وبالرغم من ذلك، أصبح الفرد تابعًا لكل مستحدث وصار من الصعب إرضاءه والوفاء بتقلُّباته بين عالم الواقع والعالم الافتراضي الذي أضحى ستارًا كثيفًا من الزيف.وبالنسبة للذكاء الاصطناعي، فهو يشكِّل مرحلة جديدة من الحُرِّية القسرية والتبعية لنظام رقمي قد تجسَّد في شكل آلة.

التقدُّم ضرورة حتمية، لكن يجب وجود عقدًا اجتماعيًا لتنظيم العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والإنسان، لضمان عدم رفض الإنسان للتقدُّم الذي قد يجعل منه تابعًا لا يستطيع الفرار من سيطرة الآلة، بالرغم من أن البشرية تؤكِّد بلوغها أعلى مراتب الحرِّية.

مقالات من نفس القسم