هشام أصلان
لم ينته يناير 2012 إلا وأنا مشارك في عدد من جلسات تأبين إبراهيم أصلان. الاعتذار عن المشاركة غير مفهوم للعالم. بالكاد تستطيع، أحيانًا، أن تقنع المنظمين بإعفائك من الجلوس على المنصة. لا أحد يصدق أنك اعترفت بكل ما تعرفه عنه. لطالما هززت رأسي موحيًا بالاستجابة لنصائح ما علي فعله للحفاظ على التراث الأدبي الذي تركه لي: “المسؤولية اللي على كتفك كبيرة، مصر محتجالك يا رأفت”. كنت أفكر بيني وبين نفسي كيف تم الحفاظ على تراث أمل دنقل، مثلًا، وهو الذي لم ينجب أبناءً يحملون على أكتافهم ما تركه من أشعار.
في قاعة حزب التجمع تتحاشى عيناي التقاء بعيون كثيرة تجتهد لإبداء التأثر والتعاطف مع عبوس وجهي، بينما كانت مي تنظر لي مبتسمة. كانت تعرف أن ملامحي تحتقن بالملل والإرهاق وليس الحزن الذي لا تلائمه بالتأكيد قاعة الندوات في حزب التجمع.
كان هذا هو اللقاء الأول لنا بعد رحيله وشهور قضتها في عملها الجامعي بكندا. عندما انتهى التأبين، وبعد المرور بطبقات من الناس في الطريق لها، تصافحنا وفي غمضة عين تحولت ابتسامتها بكاءً مكتومًا مع كلمات متلعثمة تعتذر عن الدراما المفاجئة. لحظات عُدت معها إلى حالتي الطبيعية في محاولة التلطيف على القريبين ممن وجعهم رحيل إبراهيم بصدق. دور يلائمني أكثر من الجلوس على كرسي المحتاجين للتعاطف.
في الأعوام القليلة التي سبقت 2012، عام رحيل أبي، كنت قد بدأت أستوضح ملامح جديدة لعلاقتي بعالم المثقفين. ربما كانت خمسة أعوام مرتبكة وأنا في معركة عنيفة مع محاولة تشكيل نفسي مستقلًا عن تاريخ طويل من العلاقة مع هذا العالم عبر أبي. تعرفت على أبناء جيلي متأخرًا. معارفي من أجيال أسبق بطبيعة الحال. ورغم ما لدى مي التلمساني من صداقة ومحبة حقيقية بإبراهيم أصلان، تكونت بيننا صداقة مستقلة بمشتركات حساسة وحقيقية، شكلت مع اثنين أو ثلاثة آخرين دائرة من الأصدقاء القريبين الذين اعتبرتهم بارتياح أصدقاء مشتركين بيني وبينه، بالمعنى الحقيقي للتعبير، غير أنها تظل الأقرب إنسانيًا وفكريًا إلى قلبي وميولي العقلية. في المقابل، صادقت أسرتها الصغيرة، وليد وشهاب، باستقلال كبير عن صداقتي بها.
والعلاقة مع مي هي التعريف الصحيح للكلام حول أن الصداقة الحقيقية لا تؤثر فيها قلة اللقاء وابتعاد المسافات، وربما هو الحال مع باقي أصدقائها بسبب إقامتها خارج مصر. تغيب لشهور، وعندما تأتي نكون على موعد دائم مفتوح، لا يتم تحديده بزمن أو مكان، يحضره، في الغالب، صديقنا المشترك منتصر القفاش، الذي على قرب صداقتي به لا يهز طوله ويترك حدائق حلوان للسهر إلا عندما تأتي هي وتجمعنا لنواصل حديثًا مفتوحًا منذ كانت هنا في المرة السابقة، حديث كأنه بدأ بالأمس.
لا أتذكر أنني تحدثت مع مي في أي من مشاكل الحياة العويصة، إلا وفككتْ الأمر في جملتين، وهي في دهشة ساخرة من تكبيري للأمور. أعرف أنني دائمًا على موعد مع البساطة البالغة، التي على جمالها، تحتاج إلى تأكيد أن الأمر بالغ الخطورة وأن ما أقوله يعد سرًا. إذا لم أؤكد على ذلك ستتحدث عنه بعادية أمام الآخرين، ليس لأسباب سوى أن عقلها، فعلًا، لا يهضم تكبير الناس لأغلب أمور واقع لا يستحق إلا التعالي ومعالجته كتابة. نعم، الكتابة، وربما بعض الشؤون الأسرية، هي فقط ما يستحق منّا كل هذه الجدية “والباقي تفاصيل يا بيه”.
بصداقة مي التلمساني ستكون في أبعد مسافة عن معنى الطاقة السلبية. هي هذا الشخص المُغلفة خبرته الكبيرة ببساطة نادرة، واتساق مع النفس يشحن علاقة خاصة بالكتابة، مُبطنًا بثقافة عامة يفتقدها كثيرون في الفن والحياة. من هنا لم تخضع أعمالها لشروط ما نعيشه من لحظة زمنية ضربت في مفهوم احتياج الكاتب لأن يكتب. لم تخضع أيضًا لابتزاز وضع العوالم الأدبية في قوالب جاهزة تاريخيًا. هنا، أيضًا، كاتبة تعبر عن حالة المثقف العضوي الماهر في الفصل بحساسية بالغة بين أدراج انشغالاته. الهم السياسي، رغم صدقه، لن يمثل إغراءً كبيرًا في حشو الروايات بالأحداث الساخنة مضمونة التلقي، والعمل الأكاديمي لن يحولها إلى مُنظّرة روائية. هي تلك الجدية البالغة في كل ما تفعل وإن كان لهوًا.
لو أن هناك، فعلًا، من يُخرج أجمل ما في المرء، فإن مي تُخرج، بدون أن تقصد، أجمل ما في أصحابها. تحدق طويلًا في حب الحياة، فتحبها الحياة وتحدق بها. وأنا أبتسم كلما تذكرتها، وأحب أنها أقرب الأصدقاء.
عودة إلى الملف