د. حمزة قناوي
“إحدى أهمِ النقاط التي يبحث عنها الناقد في أي عمل إبداعي السمات الأساسية التي تميزه عن غيره من الخطابات الأخرى”[[1]]، وهو ما يحقق لكل عمل أدبي أسلوبه الخاص من ناحية، ويحدد موقعه في منظومة الأدب بين سائر النصوص والمجالات الإبداعية الأخرى، ولا تستحث كل الأعمال الإبداعية الناقد للكتابة عنها، فالكثيرُ من الأعمالِ الأدبيةِ قد لا تثير في الناقد روح الكتابة، ورغبته في التحليل والمقاربة، لعوامل كثيرة، ربما أهمها، عدم امتلاك النص روحه الخاصة به، فللنصوص أيضاً روح وسمات، وبقدر ما يفرض النص ذاته على روح الناقد، تكونُ لديه الرغبة الحثيثة في الكتابة والتحليل.
ومن هذا المنطلق استشعرتُ عند قراءة المجموعة القصصية المعنونة بـ«رغبات بيضاء» للقاصة السورية (فاديا عيسى قراجة)، بروحٍ خاصة بها، وسمت إبداعي جديرٌ بالتحليل لكي نقرّب للقارئ إمكانية التواصل مع النص، ويبقى المتلقي في النهاية صاحب الكلمة الأخيرة في طريقة تلقي النص الذي يقرأه، والسؤال الأساسي: ما السمات الإبداعية المميزة لهذا النص؟ هو جوهر ومحل اهتمام الإجابة هنا،خاصة اللغة الشاعرية التي حلقت فيها قصص المجموعة.
نبدأ في تحليل المجموعة من خلال العنونة، وهي إحدى أهم العتبات النصية، فالعنوان: «كيان أوسع من مجموع القراء، لأن العنوان ممكن أن يرتحل على ألسنة أشخاص لم يقرؤوا الكتاب.»[[2]]، والعنونة مستمدة من عنوان القصة العاشرة من بين قصص المجموعة، ومبدئياً فإن كلمة «رغبات» عندما يتم إدماجها مع «بيضاء» تستدعي في ذاكرتنا فكرة «فستان الزفاف الأبيض»، ويتوقع القارئ مع كون المؤلفة أنثى أن تكون مثل هذه الأفكار لها علاقة بالزفاف، وبالتقارب بين الرجل والمرأة، وعيشهما معاً في ظل منظومة الزواج.
تبدأ القصة باقتباس من الكاتب التركي (عزيز نيسين)، فتقول: «إذا رزقنا بنتاً يا حبيبتي.. فلنسمها ضحكة» ص81، وهنا يشير هذا الاقتباس إلى أن القصة تحمل نوعاً من الوجع يجعل الضحكة شيئاً عزيزاً، ومطلباً نادراً، ونلاحظ كثرة الاقتباسات في المجموعة القصصية مما يعد تناصاً مع كتابات أخرى يتم توظيفها في ثنايا النص، ونمضي مع القصة فنجد أنها تدور حول (قاسم)، وبخلاف ما كنا نتوقع فلا توجد فتاة أو فارس أحلام في هذه القصة، الرغبات البيضاء هنا بعيدة عن فكرة ثوب الزفاف الأبيض، بل إن الفكرة هنا قريبة من معاناة الإنسانية نفسها، فنجد طياً كبيراً للزمان، واختزالاً للأحداث، وهي إحدى أهم سمات القصة القصيرة بالطبع، لكن نتوقف أمام طريقة التعبير، فنقتبس هنا قولها: «غابت روحه عن المكان وهرعت لاستقبال أمه التي أقبلت من وراء الأفق تجر أمامها عربة ملونة بالمثلجات، انتفض كديك ذبيح على حركة الصبي الذي سرق العلب المكومة أمامه، لكن الأوان فات، فقد ابتلعت الأزقة الملتوية الصبي وأصوات العلب. مشى تلسعه سياط القهر والجوع وعاد يفتش كدجاجة مريضة في الحاويات إلى أن التهم الليل آخر مساحات النهار» ص83 .
يرى (إيزيك أندرسون إمبرت): «أن العمل الأدبي بناء وخطة يعيد القارئ خلقهما.» [[3]]، ومن ثم فإن الفكرة أحد أهم العناصر التي يولي المؤلف لها الاهتمام، والفكرة هنا هي المعاناة من الفقر والقهر والجوع التي أصابت (قاسم) في حياته، ولا يعنينا في الأدب مجرد الفكرة، بل نهتم أيضاً بالطريقة التي تم بها التعبير عن هذه الفكرة، وهنا نجد المشهد يأتي معكوساً، فهو يحيل إلى اللحظة التي استطاع فيها (قاسم) – على نحو ما – أن يتغلب على فقره وجوعه وقهره، وأصبح – على ما يبدو من إيحاءات الحكي – قادراً على شراء ما يريده، وبدلاً من توجهه للاهتمام بنفسه ورغباته الخاصة، يحاول أن يتوجه لإسعاد الأطفال الصغار، وأن يجعلهم يتذوقون المثلجات التي لا يستطيع أهلهم أن يوفروها لهم في ظل قدراتهم المادية المحدودة.
من الأمور اللافتة في القصة طريقة ولغة التعبير، حتى إننا نتعجب في هذه الفكرة الموجعة، التي تتحدث عن القهر والظلم والشعور بالخذلان من العالم الذي لا يكترث لدنيا الطفولة وآلامها، وتُحَوِّل الأطفال إلى جامعي قمامة ليجدوا ما يقتاتون عليه، من بين هذا الوجع تأتي لغة التعبير عن النحو التالي:
«كليالي الشتاء تمر الأيام طويلة.. باردة ويسكن شاب في أحد الأحياء .. لم يعلم أحد كيف عاش ولا عن الشوارع التي تقاذفته ولم يحصِ أيٌ منهم عدد الحاويات التي انهمر فيها كشعاع يسقط في الظلام، حتى أنهم لم يجدوا سبباً واحداً يجعله يفضِّل الياسمين ذابلاً ضارباً إلى السمرة.. كل ما هنالك أنهم أطلقوا عليه في ذلك الحي اسم “قاسم المثلجات”. لأنه كان يجمع أطفال الحي ويشتري لهم المثلجات ويجلس يراقبهم بكل حرمانه كيف يلتهمونها.» ص86-87.
نشاهد هنا قدرةً على امتلاك اللغة وتوظيفها بما يشبه الصنعة الشعرية، وكأن الكاتبة تريد أن تترك بصمة عبر لغة محلقة، وباستخدام طريقة خاصة في التعبير. ومهما كان الموضوع المعبَّر عنه مؤلماً أو موجعاً، فإنها لا تنزلق إلى شرك استخدام لغة موحيةً بالفحش أو الحِدة عند حديثها عن عالم من سماته القسوةُ والإهدارُ لحقِ الآدمية، فمن وسط جامعي القمامة، لا تأتي اللغة متأثرةً بألفاظ هذه المنطقة، بل تمر عليها مروراً يُعَف عن ذكرها، لتفضل التيكرز على جماليات الكتابة: «… فيبدأ العراك اليومي ويتبادل مع رفاق كلمات تخجل منها الطفولة…» ص85.
يتبين لنا هنا أن «الرغبات البيضاء» هي رغبات العطاء، وتخفيف المعاناة عن الآخرين حتى لو كان الشخص تعرض من قبل للقهر والإذلال، فإن بطل القصة استطاع أن يروي حرمانه بمشاهدة الأطفال الفقراء وهم يتناولون المثلجات، وليس بمزيد من القهر والحرمان للآخرين، ومن العناصر التي تلفت النظر في العمل أيضاً البعد المكاني، «فالذات البشرية لا تكتمل داخل حدود ذاتها ولكنها تنبسط خارج هذه الحدود لتصبغ كل ما حولها بصبغتها، وتسقط على المكان قيمها الحضارية. »[[4]]، ومن ثم كان وصف المكان يحتل أهمية خاصة في مجموعة القصص المقدمة هنا؛ فما بين البيت، وأكوام القمامة تتفنن (فاديا قراجة) في تفنيد المشاعر المتعلقة بالشخصية محور القصة، بطبيعة المكان الذي تتواجد فيه.
وإذا كنت قد حددت سمات التعبير القصصي بدايةً من العنونة، حتى خاتمة القصة، وطبيعة اللغة والمكان فيها، فإن ما نجده في قصة «رغبات بيضاء»، هو ذاته ما نجده في باقي قصص المجموعة كسمة أسلوبية، مع اختلاف الفكرة، واختلاف خطة تقديم حزمة المشاعر، وانعكاساتها الإنسانية، فكل قصة من قصص المجموعة تبدأ باقتباس، له علاقة بشكل أو بآخر بموضوع القصة، ويحرك المشاعر تجاه تلقي القصة، فهناك نوع من الذكاء الإبداعي الشديد في اختيار الاقتباسات التي يتم بها التقديم لموضوع القصة، ورغم أن القصة لسرعتها قد لا تحتاج إلى ثقلٍ إضافيٍّ عليها، إلا أن هذه الاقتباسات لعبت دوراً إرشادياً تنويرياً في توجيه آليات التلقي، وسبل فهم القصة بصورةٍ شديدة البراعة والتفرد.
………………………………………………..
[1] – راجع: محمد عزام: الأسلوبية منهجاً نقدياً، دار الآفاق، بيروت، 1989، ص 11.
[2] – جيرار جينيت: عتبات: من النص إلى المناص، ترجمة: عبد الحق بلعابد، تقديم: سعيد يقطين، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم، الجزائر، 2008، ص 67.
[3] – إيزيك أندرسون إمبرت: مناهج النقد الأدبي، ترجمة: الطاهر أحمد مكي، مكتبة الآداب، القاهرة، 1990، ص 84.
[4] – أحمد طاهر حسنين وآخرون: جماليات المكان، ط2، عيون المقالات، الدار البيضاء، الجزائر، 1988م، ص 63