عبد السلام مسعودي
“وقال لي أفل الليل وطلع وجه السحر وقام الفجر على الساق، فاستيقظي أيتها النائمة إلى ظهورك وقفي في مصلاك”
محمد بن عبد الجبّار النفّري
ابتسامة خجولة تعبر بها حدود خوفها المتزايد، انكسارات خريف يمر على قسمات وجهها الثلاثيني تتوقف عندها عقارب الساعة دهرا تتسابق فيها الأفكار الجنينية ، تكتسح الصمت المريب.
سليلة المريدين و العاشقين تعرف أن المتكلمين و “المتكالبين” يحاولون اقتحام عزلتها المسكونة بالمكان ، تعرف أن المعرفة قاتلة أحيانا و أجيالا و لكنها مدار العابرين، العائدون فقط من وطن النجوم و الشموع يملكون سر هذا الصمت الطويل.
تراجع السكون في معبدها، دبت حركة خفيفة تهز روح المكان، من الوهلة الأولى اختارت أن تحتفل بالزائر الغريب حتى تشارك جوقة عبوره الاحتفال وهو يقتحم كيانها المتعب منشدة حكمة الخالدين – الكرنفال طقوس جماعية خاوية تختزل جرح الروح زمن الاحتراق –
كانت رائحة العطر الباريسي تكتسح أنفاسها زمنا آخر للخروج ، تشكلت بعض الخطوات البطيئة المثقلة بتاريخ حلمها الأول ، تكاثفت، تناكفت من وقع المفاجأة الواقفة أمامها.. إنه هو … قطعا هو..نفس الرائحة، نفس الملامح، نفس الأكسجين الذي تتنفسه، لم تخلف السنوات التسع التي مرت على آخر لقاء جمعهما في مقهى “مدام ماتيلد” أية أثر سوى بعض الشعيرات البيض “المتلصصة” أعلى الرأس.. لم تعد تتذكر تفاصيل هذا اللقاء العاصف، لكن وقع الكلمات الأخيرة رمت بها إلى هذه العزلة، إلى إكتشاف عالمها الجديد، كانت تدرك سره، سر طفولته المسروقة و المعدومة في حي “المشردين” و تدرك أفكاره ثم انخراطه في حزب العمال الشيوعي و هو لا يزال يرسم مشاغباته التلمذية على حائط المعهد لكن لم يستطع الفضول الساكن في وحدتها أن يتخطى حاجز الرهبة ،كان قديسا، مرآة عابرة لكل وصف تخشى أن تنكسر.
تداعت اللحظة شذرات من الذكريات و الأحلام و لكنها عادت قوية تحاول أن تعيد رسم اللعبة بنفس جديد.
توقفت و هي تحاول أن تلقي عليه عشرات الأسئلة المتهالكة، نظرتها الخافتة و هي تحاول أن تخفي سنوات القهر التي عاشتها على أطلال ذكرياته، تعرف جيدا تلازم السحر لموكبه كافيا إلى أن تقف عنده حركة دو ران الأرض.
تعالى الصوت بداخلها فجأة حتى أطلقت العنان لطاقتها المهدورة :
– مرحبا أيها الوغد، حل ركبك أخيرا..
– مبتسما كعادته و هو يطيل النظر في أرجاء المعبد، ممتلكا كل تفاصيل المكان
مخاتلا:
هل الصلاة في هذا المحراب الصغير تكفي بأن تحجب الرؤيا، أن تقتل الأمل أو أن تبعث الخريف بعد أفوله، قد تكون إرهاصات ولادة ثانية حيث تختلط الأحلام بالوسواس..
في المسافة الفاصلة بين الطرفين يستيقظ المجهول وهو يغتاب حيرة المهزومين ، تدرك أن لا جدوى من بسط الأوراق من جديد و أن هذه النظرة المسكونة بالحنين لم تكن سوى “تلصص” العابرين حيث يسجل كبريائه انتصاره المعتاد..
تجلت الكلمات وهي تحتفي بالنسيان:
– هل أنت سعيد في عالمك الجديد؟
-اللحظة السعيدة التي لا تتكرر، لا تنتج سعادة دائمة بل هي أضغاث أحلام.
– هل كانت حياتنا حلما مغتربا بلا أمل إذا ؟ في ردة فعل منهزمة ..
– و هل نعيش نحن الواقع حقيقة ؟ حياتنا كلها تفاصيل أحلام، ننتشي بها أحيانا و تنتشي بنا دائما..
كانت تدرك حيرته الوجودية، و أنها مجرد تفاصيل من هذه الحيرة، لكنها كانت تراهن على الزمن الذي تخلى عنها..في تلك المرحلة الحارقة كانت مخطوطات معلمه ماركس و تلميذه لينين تقطع كل صلة له بالعالم الرأسمالي النفعي، كانت الأفكار تتصارع في جزيئات حياته اليومية، أحيانا تراه خطيبا يختزل جميع مشاكل العالم و أحيانا أخرى ترى فيه روح دوستويفسكي و هي تقتات حزنها و آلامها.
في لحظة الذوبان، تسارعت بها الخطى نحو الباب، أدركته و هي تسدل الستار، ثم عانقته كما لم تعانقه من قبل بشيء من الريبة و الإنتضار، أدركت نبضات قلبه المتسارعة بشيء من الإرتياح، مسترسلة القول:
المعبد يغفر لك الذنوب إلى حين، و لكن عليك أن تشهد ميلاد عقدك الروحي من جديد حتى يباركك الرب.