مثايل شافي الشمري
عليَّ أن أحصل على واحدةٍ الآن. قالها الأعزب الوحيد بينهم.
انفض الجمع في مجلسهم الذي ما استطاعت أي قوةٍ سابقةٍ أن تفعل ذلك فيه. كأن أحداً ما تسلل من الجزء المفتوح من النافذة وزرع في ظهر تلفازهم قنبلة. أثناء لعبهم “الكيرم” لا أحد منهم كان يفكر بأن خبراً كهذا سيحلُ عليهم. فبعد دقائق، في الشريط الأحمر المعنونِ بـ عاجل أُعلن موعد اشعال الفتيل الذي سيحول الإنسان إلى ذئبٍ لا يبلغ الفجر حتى يجر غزالتهِ بين نابيه، أو إلى جبانٍ كبيرٍ ووحيدٍ في المنفى.
صرحت الحكومة على لسان رجلِها الأصلع المتجهم عبر شاشة التلفاز:
شبابنا-غير المتزوجين الكرام. نأسف أن ننقل لكم هذ الخبر الذي أرغمنا البعض السيء منكم على اتخاذه. فنظراً للسنين القليلة الماضية، وبإرتفاع نِسب الأفعال غير الأخلاقية تجاه الشريعة والعرف وتقاليد هذه الدولة السامية. وبسبب تلاعب الشباب بفكرة شريك الحياة، والزواج، والحب.
تُعلن السلطات العليا أن توقف بشكلً نهائي جميع عمليات العبث في المسائل الغرامية غير الشرعية، وقررت أن تمنح مهلة أربعٍ وعشرين ساعة فقط لِمن أراد بجديةٍ أن يرتبط ارتباطاً شرعياً ومصدقاً من المحكمة بالفتاة التي يختارها زوجةً له. هذا وأنه سيتم إبعاد الرجال والنساء الذين لم يرتبطوا بشريك حياتهم إلى المحجر الذي أعدتهُ الحكومة على الحدود الشمالية للبلاد. مجهزاً وملائماً ومراقباً، ومسوراً بأفراد من الجيش، ومعزولاً عن المجتمع الداخلي. وأكدت الحكومة عن جديتها في تجريم كل من يحتال أو يخالف أوامرها.
تضاربت آرأؤهم حول الذي تفوه به الأصلع لتوه. ما الذي يمكن لأي شاب أن يفكر به أو يفعله إزاء خبرٍ كهذا؟
لم يصدق أي منهم الخبر، ليس بسبب ثغرة فيه تدعو إلى الشك، بل لأنهم جميعهم -عدا الأعزب- قد ضمنوا خط النهاية قبل صافرة السباق. كُانّوا صامتين لا يعلمون ما الفعلُ الذي ينبغي على الأعزب الوحيد بينهم أن يُقدم عليه. لم يُثر صمتهم سوى خروجه وهو يردد “عليَّ أن أحصل على واحدة الآن.. هالة.. سأذهب إلى هالة الآن الآن”.
خرجَ يسابقُهُ غضبه، وساقاه اللتان تقطعانِ الطريق كالمقص لا تنبئ بشيء جيد. لا شيء من الممكن أن يدور بينه وبين هالة. بعد الخبر، جمعيهم أدركوا أنها حتى هي لن تقدرعلى نفعه. لا مسافة تفصلهُ عنها سوى الباب الخارجي للمنزل، فتحه وخرج. زير النساء بدأ يُجهزُ دفاعه لجلسة الغد، ورغم أن الحكم قاطعٌ ظل ينادي باسمِ هالة. يطرق بابها ويدق الجرس في الوقت ذاته. خرجت هالة تتلحفُ عباءة الرأس السوداء، تمسك بها من أسفل وجهها، تشدها على جسدها. الشيبُ والشعرُ المحنى تناقضُ غريب يرواغُ حياءها ويظهرُ من مقدمة رأسها. مفزوعةٌ خَرجت وليس لها ألا تفزع. حالةُ الأعزب لا تختلفُ عنها إلا بأنهُ يعرف وهي حتى اللحظة تجهلُ الوضع. المعرفة والجهل كلاهما يقودان المرء للجنون.
سألتهُ غاضبة. ألا ترى الساعة أيها الشاب؟ لا أستقبلُ الآن أية طلبات، اسأل في وقتٍ آخر، أو ارسل خبراً مع أمك، لكن إياك، إياك أن تطرق بابي بهذا الشكل مرة أخرى. همّت بإغلاق الباب. دفعهُ الأعزب بكلتا يديه. شرح لها مختصر ما رآهُ على التلفاز. هلعت، لو قال لها أن وباءً ما عاودَ الظهور لما هلعت بهذا القدر. أخذ كل منهما يتفرسُ في وجهِ الآخر وكأنهما في اللحظة نفسها وجدا الحل. فَرك يديهِ الرطبتين ببعض، اخضعَ رأسهُ للأرضِ الجاذبة، وبدأ بصوتٍ يشبه المواء يقول:
أرجوكِ، ساعديني لا بد أن احصل على واحدةٍ الأن. لا يُهم من تكون أو كيف تكون، يكفي أنها امرأة وأن تقبل بي. أنتِ تجيدين مهنتك، من زوج جميع أخوتي؟ أنتِ. وليس أخوتي فقط، كل شباب هذا الحي قد لجأت أمهاتهم إليك. أرجوك، لحق الجيرة، ساعديني. أياً تكن الفتاة هي بالتأكيد في مِثلِ حاليّ. صلاحية الاختيار انقضت. أمر الزواج اصبح ضمان العيش هنا. أرجوكِ، الوقت لا يدير ليّ وجههُ والحظ كذلك. عليَّ أن أتزوج اليوم. هل ستفعلين ذلك من أجلي؟
كانت نواياه جليةً واضحة للجميع حين اتجه لبيت جارته الخطابة هالة. فقد كان الوحيد من بينهم الذي يُراودهُ الزواج كالكابوس، ينهض منه فقط ليستغفر لله مما رآه ثم يركضُ للنساء حافياً بكلتا رجليه. الرجل الوفي للمرأةِ وللحظةِ التي يكون معها حراً لا يُعرقل لذته أية قيودٍ أبديةٍ سخيفة. الدولة الآن تداهم لذته وتقيده بالكابوس الذي فر منه. تقايُضهُ حياته بامرأة واحدة فقط، اللعوب الذي ما تنازل يوماً عن واحدةٍ من نسائه.
نَظرت لهُ بشكلٍ مختلف، ثم ضحكت طويلاً حتى رنّت أساور الذهب في معصمها. بدت هالة كما حدس الجميع بأنها هي أيضاً ستعاقبهُ مثل السلطة وباسم كل النساء اللاتي خدعهن.
من منتصف الضحك. اكتسى صوتها جديةً مخيفة. قالت له:
آه أيها الشاب.. يبدو لي أنك تكرر خطأك. لم تفكر بأحد غيرك. إن الذي فهمتهُ من نقلك للخبر أن الدولة تسعى لأن تعيد لكل من الجنسين كرامته وأخلاقه، لكنها لم تفلح. إنك لم تفكر بي حتى. لم تخطر لك فكرة ما الذي ستمتهنهُ هالة بعد أن يتزوج الجميع، أو بشكلُ أبسط، ما الذي ستفعلهُ هالة لوحدها في شمال البلاد ما لم تتزوج.
أطلقت زفيراً. ثم أردفت بنبرةٍ ساخرة: أيها الأعزب المسكين.. إنك تفكر كيف ستنجو. أمرٌ صعب، لكن لا عليك، بما أنك أتيت ليّ أولاّ، لن أخذلك. سأتزوجك. من أجلك فقط.
……………..
*قاصة من الكويت