التطهر وضرورة الفن عند عبد العزيز دياب فى “ضرورة الساكسفون”

abd alazeez diab
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مجدي جعفر

   تتلاشى المسافة أو تنعدم ما بين الفن والتطهر، لأن الفن فى ذاته فعل تطهر، يتأكد هذا الطرح فى المجموعة القصصية “ضرورة الساكسفون” لعبد العزيز  دياب” الصادرة عن الهيئة العامة المصرية للكتاب 2017م، إذ تبدأ المجموعة القصصية بقصة “ضرورة الساكسفون” وتنتهي بقصة “تطهر”، لذلك تأتي القصص ما بين هذا وذاك، إما هي ضرورة من ضروريات الفن المعادل الموضوعي للساكسفون، أو هي فعل تطهر. هذا وتتسع مساحة القصص التي تركض فى مضمار واحد مع قصة ضرورة الساكسفون، فيما تضيق مساحة القصص التي تطرح نفسها كفعل تطهر. يكفي قصة تطهر المدونة فى نهاية المجموعة القصصية، إذ يتقيأ بطلها- كفعل تطهر- مفردات كونية وغير كونية.

   “تقيأت شجراً ونخيلاً، أحجاراً وأرصفة، وكلبة جرباء كشّرت عن أنيابها التي نهشت بهم ساقي ذات مساء.. تقيأت قنابل وأعيرة نارية، جثثاً وخرائب- ص 101”

   هذا من ناحية التطهر، أما مساحة الفن فتتسع مع حضور الفنون الأخري فى قصص المجموعة. في صدارة هذه الفنون تأتي الموسيقي، يتحقق حضورها من خلال عناوين بعض القصص: ضرورة الساكسفون، أوركيسترا قصصي، حكي الرباب، وَوَرَدَ فى متن القصص أسماء كثيرة لآلات موسيقية مثل: الطبلة، الجيتار، الكمان، الساكس، الدف، المزمار.

   فى قصته “أوركيسترا قصصي”، نري تداخل وتناغم مدهش بين القاص والرسام والموسيقي، فالقصة الناقصة يكملها الرسام السكير:

   “هو من سيلتقط قصصك الناقصة، يقوم بإكمالها، سيفعل ذلك عندما يكون فى أروع حالاته”

   “الأمر فقط يتطلب الوصول إلى النغمة التى تعزفها القصة، سيظل يبحث عنها، وعندما يمسك بها يكون قد حقق كل شىء”

   “لا يبقي أمامه إلا تحديد الآلة الموسيقية المناسبة لنغمة القصة”

   “يرسمها فى المساحة البيضاء المتبقية من الورقة التي كتبت فيها قصتك الناقصة، بمجرد أن ينتهي ستسمع وأنت فى مكانك النغمة التي كان ينبغي أن تكتمل بها- ص 12و13”

   من خلال هذه الاستشهادات من النص يستطيع القارىء أن يستشف الرؤية الموضوعية الفنية للكاتب.. بهذه القصة يضيف الكاتب مساحة من ضرورة الفن/ضرورة الساكسفون.

   النغم فى رأي بعض الفلاسفة هو فضل بقي من النطق لم يقدر اللسان على استخراجه، فاستخرجته الطبيعة بالألحان مع الترجيع، لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس وحنت إليه الروح.

   والكاتب يحتفي فى قصصه بالنغم والصوت الحسن/الموسيقي والغناء، كما فى قصته “حكي الرباب”، فالأبحاث العلمية الطبية أثبتت أن الصوت الحسن يجري فى الجسم مجري الدم فى العروق، فيصفو له الدم وتنمو له النفس، ويرتاح له القلب، وتهتز له الجوارح، وتخف له الحركات، ولهذا أحببنا “صفية” التي جعلتنا كما يقول الكاتب:

   “نعرف طعم الغناء، نمرض ونغني، نموت فنغني، نتشاجر ونغني، يشح الزاد فى بيوتنا فنغني- ص20”

   كتب عبد العزيز دياب قصة “حكي الرباب” فى خمسة مشاهد، وضع بعض العناوين الدالة مثل: رعشة الرباب، نغم متصل، شطح الرباب، نواح الرباب، فرح الرباب.. هذه العناوين الموسيقية جاءت كمدخل لنص مُبهر يوظف فيه الكاتب/الراوي/الحكاء الشعبي.

   يستهل الراوي الحكاية.. “إلى بمزمار، وحصان، وصندوق خشبي، ورباب..” هذه أدوات ومفردات الحكاية التي سينثرها الراوي مع ابطال حكايته، ويطالب الجمهور بالاصغاء جيداً “حتي يستطيع كل واحد أن يراهم بعين خياله”

   وكأن الكاتب اراد من البداية أن ينبه قارئه إلى ضرورة إعمال خياله وإجهاد عقله حتي يتلقى نصه، فنصوصة لا تمنح نفسها للمتلقي من القراءة الأولي، لكن مع كل قراءة تبوح بسر من أسرارها، وتكشف عن طرف خفي من جمالياتها، ففيها من الموسيقي والشعر والرسم، فيما ترك فضاءات ومساحات واسعة، على المتلقى ان يملأ هذه الفراغات بإعمال عقله وشحذ خياله. فهي نصوص لا تُكْتَب للتسلية وتَمْضِية الوقت وسد الفراغ، نصوص بحاجة إلى متلقي إيجابي يعيد إنتاجها كما يقول “رولان بارت”

   الكاتب يسعي جاهداً لخلق أسطورته مستفيداً من الأساطير الموجودة فى المخيلة الشعبية، فتتماس أسطورته مع هذه الأساطير أحيانا وتتقاطع معها مرة أخري، يحاول فى “حكي الرباب” أن يصنع أسطورة “زينون”

   “فهو ليس زيتوناً فقط، إنما هو زيتون ونور ونوار، ومهيار وعمار. أسماء كثيرة جلبها معه عندما حط فى قريتنا وبحوزته الجوال المكدس بالكتب الصفراء- ص 14و15”

   هذه مساحة أخري من ضرورة الفن/ضرورة الساكسفون.

   يقول أفلاطون: من حزن فليسمع الأصوات الحسنة، فإن النفس إذا سمعت ما يطربها ويسرها خمدت نارها، وكانت الناس قديما تُلْهي المحزون بالسماع، وتطبب به المريض وتشغله عن التفكير.

   وفي قصة “ضرورة الساكسفون” يكشف الكاتب عن أثر الموسيقي ودورها وأهميتها:

   “ينفلت ساكس فى رشاقة، يذهب إلى المرضي فى المصحات النفسية، يمشي على مؤخرته، ينبت له ساقان رشيقان، وذراعان، يرقص رقصة غجرية وسط عشرات الطبول الغليظة بين المجانين فينتبهوا- ص10”

   “يسافر الساكس إلى بلاد بعيدة، بلاد تنطق الشين سين، والقاف جيم حتي يلتقى بقوم نفوسهم خربة، فيرقص الساكس رقصته الغجرية، يخر منه النغم فيظل يرقص ويرقص.. لا يكف عن الرقص والغناء إلا بعد أن يعودوا اشخاصاً صالحين للحياة، لا يسخرون من أى واحد يلفظ بهذا الاسم: ساكس…- ص10”

   وفى زعم البعض ان العرب ما جعلت الشعر موزوناً إلا لمد الصوت والدندنة، ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور.

   وانظر الى الام التي تناغي ولدها فيقبل بسمعه على مناغاتها، ويتلهي عن البكاء، والإبل تزداد فى نشاطها وقوتها بالحداء، فترتفع آذانها وتلتفت يمنة ويسرة وتتبختر فى مشيتها.

   والراعي إذا رفع صوته ونفخ فى يراعته تلقفته الغنم بآذانها وجَدَّت فى رعيها، وقالوا أيضا إن بعض الصيادين يبنون فى جوف الماء حفائر ثم يضربون عندها بأصوات شجية فيجتمع السمك فى الحفائر فيصيدونه.

   والكاتب يحاول القبض على معاني مراوغة وموضوعات زئبقية مستخدماً كل الفنون البصرية والسمعية، وافادته هذه الفنون قى تخليص القصة من اللغو والثرثرة، ومن المباشرة، واتسمت بالاختزال والتكثيف.

   واستكملا لشغل مساحة من مساحات التطهر إضافة الى أنه يحاول ان يثري فنه القصصي برؤي من الواقعية السحرية، سنتوقف عند احد المشاهد فى قصة رباعية للطير، يقول الكاتب:

   “فتنام على ظهرك فى أرضية الحجرة، ترفع كفيك كأنك تبتهل إلى سقف البوص، تغمض عينيك، تتخيلها تتزاحم بأعداد كبيرة وأنت تسمع عزفها الجميل. تدخل خلال الشباك وهي تزقزق، تشقشق، تحط على جسدك، كفيك، صدرك، بطنك، رجليك حتي تغطيك تماماً، تبدو كأنك ارتديت جلباباً من ريش، ثم تنشب مخالبها الرقيقة فى هدومك وهي ترف بأجنحتها. تتخيل أن جسدك قد بدا يرتفع فى فضاء الحجرة رويدا رويدا- ص 91”

   هذا التحليق، الارتفاع والسمو يتجاوز به الراوي الواقع الحياتي المعاش، بهزائمه، وإحباطاته، وانكساراته، الكاتب بالاساس يضيف إلى المجموعة مساحة اخري من مساحات التطهر.

   على نحو آخر تأتي قصة “ابن النخلة” وفيها يحاول الراوي أن يتجاوز الواقع المأساوي فى زمن نكد وضنين، فى زمن السادة والعبيد، ولم يجد ابن النخلة من الناس من يرفق به ويحنوعليه غير النخلة التي آوته، وكانت له أما.

ولنقرأ تصوره للواقع المأساوي للراوي:

   “السيد الذى كنت أخدم فى بيته- منذ اكثر من مائة عام- وضع سرجاً على ظهري، تركني اقوم بأعمال لا تليق بى، يلسع ظهري بالسوط الحامي ويطرقع فى الهواء.. أهل القرية كلها ركبوا على ظهري، وبالسوط طرقعوا فى الهواء- ص92”

   قسوة السيد، وقسوة البشر، وقسوة الواقع المرير، ضاقت به الدنيا واسودت الحياة فى عينيه، فكانت النخلة الملاذ والملجأ، وكانت الأم الرؤوم.

   “قالت النخلة لا تحزن، شدني جذعها اليها، ….، روتني بمائها، اطعمتني شهدهان خرجت من بين اللحم والجمار، أتعلق بجريدها، احتضن جذعها،…..،- ص 93”

   فصة مركبة تضيف إلى مساحة الفن/ضرورة الساكسفون، وتضيف أيضا إلى مساحة التطهر من أفعال السيد واهل القرية باللجوء إلى جذع النخلة التي صارت أما له ووطناً، وهي قصة تتكون من قصتين متداخلتين ومتشابكتين، علاقة السيد بالراوي، وغواية المرأة، الغواية الأولية التي اسقطت آدم من الجنة، فالمرأة التي مات سادس أزواجها، وكانت تبحث عن رجل ليس كمثل الرجال.

   وتاتي قصة “الطير اذا هوى” فى مشهد مؤلم ومخيف فى مسار حركته، يظهر فيه البعد الحكائي عند الكاتب، تسير الحركة فى أربعة مسارات: مسار حركة الطائر، ومسار حركة الطفل، ومسار حركة الأم، ومسار حركة الرجل الذى يحمل بندقيتة.

   مشهد مركب ومكثف يمور بالحركة، فيه حشد وضغط لحركة الزمان والمكان فيه تتكشف العلاقة بين الام والطفل والطائر والطائر والرجل الذي يحمل بندقية ولعلنا نكون قد عرفنا لماذا لن تتقبل العزاء…

   إضافة أخري للمساحة التي تتطلبها ضرورة الفن/ضرورة الساكسفون فى المجموعة.

  تحتشد المجموعة بالعديد من القصص التى تضيف إلى مساحة الفن إلى جانب مساحة التطهر، فيما تلتحم المساحتان، ليطرح “عبد العزيز دياب” فى مجموعته القصصية هذا التوجه بكل ما يكتنفه من قيم جمالية تجعلها حفية بالبحث والدراسة.

 

 

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم