د. محمد المسعودي
ما تجليات التصوير السريالي في “شبابيك زيانة”؟ وكيف تتشكل المفارقة في هذه القصص؟ وكيف تسهم في بناء التصوير السريالي؟
هذه أسئلة ستكون منطلقنا لقراءة بعض النصوص القصصية القصيرة التي اشتمل عليها كتاب “شبابيك زيانة”، وهي نصوص تمتلك جماليتها الخاصة، وقدرتها على إمتاع المتلقي وإثارة انتباهه من زوايا فنية ودلالية عديدة، لكننا ارتأينا التركيز على الجانب الذي حددناه في العنوان أعلاه.
يطالعنا التصوير السريالي المستند إلى المفارقة منذ النصوص الأولى في المجموعة. ففي نص “القصير والطويلة” (ص. 11) نرى هذا البعد السريالي يتشكل من حالة افتراضية وأفق متخيل يكشف رغبات شخصية رجل قصير لم يقبل تزويجه أحد، وحينما نحت على حائط غرفته عروسا جعلها طويلة القامة، وعندما هم بتقبيلها لم يعثر على الكراسي التي أسعفته على رسمها ونحتها.
هكذا نرى المفارقة بين الحلم والفعل جلية واضحة، ونرى التشكيل السريالي لصورة الرجل القصير ومنحوتته الطويلة تكشف لنا عن أثر اللاوعي فيما قام به الرجل، ومن ثم استمرار خيبة أمله واقعا وافتراضا. وعبر لعبة المفارقة، وانطوائها على السخرية تكشف القصة عن تصويرها السريالي الذي منح للنص حيوية وقدرة على تشخيص معاناة الشخصية المحورية في هذه القصة القصيرة جدا.
في قصة “كوميدينة ليلى” (ص.20) نجد تصويرا سرياليا من زاوية لا تتصل بالنحت والتشكيل هذه المرة، وإنما باتخاذ الصورة الفوتوغرافية أفقا لبناء متخيل القصة، وخلق المفارقة، ومن ثم تحول مجرى أحداث القصة إلى سياق سريالي متجاوز لحدود المعقول وارتباطه بالغرابة.
تحكي القصة عن صورة لليلى وهي تسبح في البحر، فكان نصفها سماء ونصفها الآخر ماء لم يبد منه سوى رأس ليلى في المنتصف. وفجأة دخل الهواء غاضبا من النافذة ليُسقط الصورة من فوق الكوميدينة، وليُسبب في كسر بزاويتها انساب منها ماء البحر حتى كاد يفرغ، لولا أن أسرعت ليلى لترفع الصورة وتقلبها على وجهها داخل رف الكوميدينة وتسده تماما. ولبست البحر الذي انسكب من الصورة لأنها كانت بدون مايوه، كما أنها لم تكن ترتدي الملابس التي جاءت بها.
بهذه اللمسات السريالية المحلقة في أبهاء الخيال المجنح تصنع القاصة عوالمها القصصية المكثفة في حمولتها الشعرية البينة. ففي النص نرى التحول في اللقطة القصصية يحدث مع الشرخ الذي يقع في الصورة وارتباطه بحلم بين لدى الشخصية في الحرية والارتفاع إلى أبهاء لا محدودة من الحلم يعكس كسرها الداخلي بسبب انعدام الحرية وربما الحرمان من عيش الحياة في شكلها الطبيعي. وبذلك تكشف القصة عن توق بين إلى استرجاع لحظة أثيرة لحظة ارتداء زرقة الماء والانسياح فيها. وهكذا كانت المفارقة بين واقع الشخصية الحبيسة الغرفة الآن، وبين لحظة تنبثق من عمق الحنين والرغبة في استرجاع زمن ولى عبر تداعيات لامعقولة وصور غريبة من أهم عناصر بناء متخيل هذه القصة الطريفة.
وعلى هذا الإيقاع السردي والبناء الفني تمضي أغلب قصص “شبابيك زيانة” القصيرة جدا؛ ففي نص “كتف أبي” نلقى نفس الاشتغال تقريبا، تقول الساردة:
“ما كانت تحب صورة أمي وهي تسند رأسها على كتف أبي. مذ دخلتْ بيتنا وهي تحاول أن تنزع الصورة من الجدار.
ذات صباح استيقظت أمي بعنق ملتوٍ، بينما كان أبي في الصورة بلا كتف” (ص.28)
بهذه السردية المكثفة الإيقاع، ومن خلال عوالم لامعقولة، وأحداث لا تخضع للمنطق العقلي تشكل القصة أفقها السريالي، وهي تكتنز بين طياتها مفارقة بينة. إن زوجة الأب تغار من صورة الأم التي تسند رأسها على كتف الأب، ومن شدة غيرتها، وكرهها لضرتها، لوت عنقها، وأزالت كتف الأب.
من خلال هذا المشهد الذي تقدمه القصة نرى أن المفارقة تكمن في الفعل الذي قامت به الشخصية فظنت أن لوي عنق غريمتها لن يخدش “صورة” الزوج، وأنه سيظل سليما لها، بينما تعكس الصورة الظاهرة حقيقة باطنة، وهي أن الكراهة تؤدي إلى أذية حتى من نريد أن نستأثر به ونمتلكه. وهكذا تكشف القصة عن معاناة هذه الشخصية وهي تصارع ضرتها حتى وهي مجرد صورة على جدار. وبهذه الكيفية يتحول المشهد إلى حالة سريالية واضحة.
وكتنويع آخر على التصوير السريالي واستنادا إلى المفارقة في بناء دلالة وفنية القصة القصيرة جدا تقول الساردة في نص “فراشات” مشكلة أفقا آخر يختلف نوعا ما عن الانطلاق من الرسم والنحت واتخاذ الصورة الفوتوغرافية منطلقا للاستثمار القصصي:
“تفر فراشة من فستانها كلما لبسته وخرجت إلى الفناء، فقررت أن ترجعه إلى خزانتها حتى لا تفقد المزيد من الفراشات.
ذات صباح فتحت الخزانة، فتفاجأت بتناثر الفراشات الميتة أسفل الخزانة” (ص.38)
هكذا نرى في هذه القصة المكثفة صورة سريالية مكتملة القسمات، ضاربة في أبهاء المتخيل الغريب. وهكذا نرى المفارقة تشكل نسغ هذه الصورة القصصية السريالية. إنها مفارقة حب الحياة والحرية، والموت المتصل بالسجن ومنع الحرية. وهي الدلالات التي نجدها تتصادى في قصص كثيرة من قصص هذه الإضمامة الجميلة من النصوص القصيرة جدا.
وقبل أن نختم هذه القراءة لا بد من الوقوف عند نص أخير يتميز، نسبيا بالطول مقارنة بالنصوص الأخرى في الكتاب، ولكنه ينطلق من أفق واقعي يتحول إلى عالم سريالي ومتخيل ينحاز إلى الغامض والمجهول وغياب المنطق، إنه نص “عندما تضيع المحفظة”، بحيث يجد القارئ نفسه أمام شخصيتين لا يدرك من منهما الواهمة، ومن التي ترى غير ما تراه الأخرى، إذ يجد حالة الالتباس تلف تفاصيل ما يحدث. وهذا الالتباس يولد المفارقة بين ما تعيشه الشخصية الساردة وما تتوهمه. ونظرا إلى شفافية هذا النص وكثافته التصويرية السريالية نترك للقارئ أن يتملاه ويتدبر تفاصيله.
وما يهمنا في نهاية هذه القراءة النقدية هو تأكيد أن التصوير السريالي وسم قصص “شبابيك زيانة” القصيرة جدا بميسمه الفني وبأبعاده الدلالية المختلفة التي تتولد عن توظيف المفارقة واتخاذها أساسا لهذا التصوير الفني. وقد تمكنت الكاتبة من منح نصوصها نكهة متميزة عبر هذا الاشتغال الجمالي والاختيار الإبداعي. ولا شك أننا سننتظر منها أعمالا أخرى تضيف إلى رصيدها القصصي وتجربتها بما يطور هذا الاشتغال أو يغنيه في قادم الأيام. وبالله التوفيق.
……………………………….
*- بشاير حبراس، شبابيك زيانة، كتاب نزوى، الإصدار 45، يناير 2020.