إبراهيم مشارة
دار العشاق رواية حديثة للروائي المصري ناصر عراق في 356 صفحة من القطع المتوسط صادرة عن الدار المصرية اللبنانية عام 2018، تصنف هذه الرواية ضمن الروايات التاريخية، ولكنها تستعين بالخيال لمقاربة ما سكت عنه التاريخ لغرض ما، وبهذا التخييل تعيد النظر في قراءة التاريخ ذاته وفق رؤية فكرية وجمالية محددة.
تتطرق هذه الرواية إلى الفترة الأولى من حكم محمد علي باشا والي مصر وتحديدا بعد مذبحة القلعة الشهيرة عام 1811 لتتنهي الأحداث عام 1816 بالحملة على الحجاز مرة أخرى من قبل إبراهيم باشا ابن محمد علي.
وتطرح الرواية أسئلة هامة وتثير إشكاليات سياسية وفكرية وثقافية من قبيل لمن الأسبقية للعدل أم للسيف؟ ما جدوى حاكم بني القناطر والمصانع والمستشفيات في مقابل تخريب الإنسان وامتصاص عرقه ودمه معا؟ و ماذا عن الامتيازات الأجنبية؟ ما هي الآلية التي يبسط بها المستبد نفوذه حتى يتحكم في رعيته، ولم تسكت الرعية وتستكين؟ العلاقة بين السياسة والدين،الآخر المختلف (الأوروبي) وغيرها من القضايا والإشكالات التي طرحتها هذه الرواية التاريخية والخلاسية معا.
سرد مشوق فرغم طول الرواية نسيبا إلا أن عنصر الإثارة والتشويق يدفعان القارئ إلى الاستزادة من أحداث الرواية وكأنه يرى التاريخ ماثلا بين عينيه في كدح الفقراء وشظف عيشهم واستماتتهم في تحصيل قوت عيالهم في مصر المحروسة في بداية القرن التاسع عشر،ثم تدفق الباحثين عن الثراء والمغامرة والمتعة من الغربيين حيث وجدوا الفرصة لمراكمة الأرباح مادام الوالي محمد علي حريصا على مصالح دولهم مقابل التغاضي عنه ومساعدته في بسط نفوذه بالحديد والنار، لكن التذمر الشعبي لا يهدأ فهناك الزعيم الشعبي عمر مكرم الذي نفاه محمد علي إلى طنطا يثير الناس بأفكاره الثورية ووجود فئة شعبية مخلصة له ولمصر ترفض جبروت محمد علي وامتيازات الأجانب معا وتنادي بمصر للمصريين.ويمثل هذه الفئة الواسعة بعض بسطاء الشعب المصري مثل أيوب السبع الذي قتلته زبانية محمد علي تعذيبا وتنكيلا في سجن القلعة وتسير أحداث الرواية وفق خطية تاريخية لا يكسر خطيتها إلا استعادة نضال عمر مكرم واستشهاد أيوب السبع.
تبدأ الرواية بحادثة مقتل اليوناني أندرياس صاحب حانة بالحي الإفرنجي قرب بركة الأزبكية وسعي محمد علي وزبانيته إلى التعرف على القاتل إرضاء لقنصلي فرنسا واليونان غير أن البحث لا يمكن أن ينتهي إلا بإدانة مصري بسيط هو سليمان الحداد صاحب ورشة حدادة كان يتردد على الحانة نهاية الأسبوع فيشرب تسرية عن نفسه ونسيانا لهمومه ولا يخلو من شهامة وطيبة ثم يموت تعذيبا ولكن المؤلف بإيحاء ما يجعل القارئ يعتقد من خلال الأحداث ببراءة سليمان وهو ما يكشف عنه فعليا قريبا من النهاية حيث لم يقتل أندرياس سوى عشيقته آماليا للاستيلاء على ثروته وهي نفسها تدير بيتا لرواد المتعة عبر تشغيل فتبات أجنبيات في هذا البيت الذي يتردد عليه الأجانب وحتى قناصل الدول الأجنبية للشرب والقصف والاستمتاع.
إن الفكرة لا تموت وما ضاع حق وراءه طالب فأيوب السبع خلف ولدا صغيرا هو رمز الاستمرارية والنضال عبر تبني عصفور الحداد ابن سلميان الحداد الشهيد وبمعية الأصدقاء من الكادحين والوطنيين كالنبوي سرحان وعويس الفرارجي وشارل الرسام الفرنسي الذي بنى مدرسة لتعليم الأطفال القراءة والحساب واللغة الفرنسية وامتد نشاطه إلى تعليم المكفوفين وكان شارل قد نزل مصر المحروسة قبل الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت عام 1798 وتعرف على مسعدة حجاب وأحبها وولد له منها ولد لكنه غادر مصر بعد طرد محمد علي له لبثه فكرة مقاومة حكمه الجائر والامتيازات الأجنبية وضرورة حكم مصر من قبل المصريين أنفسهم وعاد إلى مصر بتدخل القنصل الفرنسي بعد أخذ عهد منه بعدم التطرق إلى السياسة.
تعاني مسعدة حجاب بسبب فقرها في تنشئة الطفل الذي ولد من علاقتها بشارل ويغدو كفيفا بعد إصابته بالرمد لتعالجه عند حلاق فيذهب نور عينيه إلى الأبد وتحيل القصة المفبركة هذه من قبل ناصر عراق على نفس قصة عميد الأدب العربي طه حسين ورمزية ذلك في كون الأب فرنسيا والأم مصرية ثم بتلقيه تعليما مزدوجا عربيا وفرنسيا بفضل مدرسة شارل هذه الرؤية الخلاسية في تأمل العلاقة بالآخر الغربي فلا تدين من الغرب إلا الجانب الاستغلالي والاستعماري في حين ترحب بالأفكار التنويرية والانفتاح على الثقافة الغربية وعدم معاداة الأجنبي كونه مختلف الدين واللغة والوطن وهي النظرة التي تبناها من قبل شيوخ مصريون مثل الشيخين حسن العطار ورفاعة الطهطاوي ثم جماهير غفيرة من المصريين مع وجود فئة أخرى تشير إليها الرواية وهي من العوام أو من رجال الدين الذين يرفضون الآخر المختلف ولا يقبلون إلا المؤتلف تحت طائلة كونه خواجة، كافرا، حصب جهنم الخ.
والموقف الإيجابي الذي تبنته فئة واسعة من المصريين في القرن التاسع عشر في التعرف على الآخر المختلف والاستفادة من علمه وأدبه وثقافته توكأ ناصر عراق على التخييل عبر خلق شخصية الرسام شارل المسالم الذي يحب مصر وتاريخها ويريد بناء جسور تفاهم وتوادد وتعاون عبر الحلم لا بالسيف أو المدفع. هذه هي قيم التنوير الفرنسي من حرية ومساواة وإخاء في مقابل جحافل الطامعين والانتهازيين من السماسرة والمغامرون ومراكمي الأرباح من الأوروبيين والذين وجدوا في مصر فرصة للإثراء والتربح في وقت قياسي وحتى زوجة شارل هيلين ابنة اليوناني أندرياس المقتول تتحول عن قناعتها الجشعة والاستغلالية لتتبنى وجهة نظر زوجها شارل في ضرورة مساعدة الشعب على التثقف والتمدن بعد تصفية حانة والدها وتقديم المال اللازم لمشروع زوجها.
تعد هذه الرواية محاكمة لمحمد علي وإدانة له ولخلفه فهو الحاكم المستبد الذي غدر بعمر مكرم ونفاه وبطش وتجبر وسفك الدماء البريئة وتقرب من الدول الأجنبية وحفظ مصالحها في مصر بل لم يتردد هو في زراعة آلاف الأفدنة بالأفيون لبيعه إلى أوروبا وقد بسط نفوذه بآليات سلطوية ليس أقلها القهر وبث العيون للتجسس على المعارضين والسجن والنفي والتصفية واستغلال الدين لأغراض سياسوية بتقريب شيوخ موالين له لتزييف وعي الجماهير، وقد طبق محمد علي المقولة المشهورة “جوع كلبك يتبعك ” فجوع الشعب برمته وأذاقه ألوان الفاقة والفقر عبر السخرة ورفع الضرائب للإنفاق على الجيش في حملاته على الحجاز ضد الوهابية التي تمردت على حكم الآستانة ثم الحملات على السودان وغيره وعلى ملذاته الشخصية في بناء القصور وتأثيثها بالأثاث المستورد وملئها بالجواري ونفيس الرياش وقد اشتغل خيال عراق في الجانب الذي سكت عنه التاريخ أي الحياة السرية لمحمد علي ولم تبح السلطة الرسمية آنذاك وهي سلطة محمد علي الإشارة إليها وهي علاقة محمد علي بالنساء وهوسه بهن وقد تخللت الرواية مقاطع متخيلة لهذه العلاقة التي جعلت زوجته أمينة هانم تثور عليه مع حبه الشديد لها.
لاشك أن مواسم أوروبا تحولت في القرن التاسع عشر إلى موسم واحد هو موسم الهجرة إلى الجنوب عبر حملات الغزو مع جحافل نابليون بونابرت ثم حملة الجنرال الإنجليزي فريزر وجيوش المغامرين و الباحثين عن الأرباح، ومن المؤكد أن خيال ناصر عراق اشتغل بإيجابية لإثارة الأسئلة الكبرى عن العلاقة بالآخر وجراح الذاكرة الموجوعة ودهاليز التاريخ المظلمة ومشاكل الداخل التي انتهت إلى الاستعمار وعلى رأسها الفقر والأمية والطبقية وانحراف الفكر الديني من دوره التنويري التثويري إلى التزييف عبر رجال دين ظرفيين (مشايخ الوقت)كما سماهم عبد الرحمن الجبرتي. مع وجود رجال دين رافضين في الأزهر نفسه لجأ إليهم الناس حين ثاروا على ظلم المماليك وحتى على محمد علي نفسه وكانوا هم أنفسهم ضحايا البطش والجبروت.
الحكم الأجنبي تحت أي مسمى والذي يرفضه ناصر عراق ويراه سبب بلاء مصر فهذا الرسام شارل في لقائه بالزعيم عمر مكرم في منفاه بطنطا يقول (كل الذين دخلوا مصر من الأجانب كانوا طامعين لا حالمين يرفعون السيف أو البندقية لا القلم أو الريشة لقد قرأت تاريخ مصر بامتداد القرون الذي سجله كل من ابن تغري بردي في “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة” وابن إياس في” بدائع الزهور في وقائع الدهور” واكتشفت أن المماليك والعثمانيين والفرنساوية بقيادة بونابرت والإنجليز وأخيرا الأرناؤوطي محمد علي باشا كلهم دخلوا غزاة ومحاربين وطامعين)ولذا يقترح عمر مكرم حلا رومانسيا هو نفسه الحل الذي يتبناه الروائي دخول مصر بالحلم لا بالسيف أو المدفع مثل شارل الذي حلم بمجتمع جديد متعلم متحضر يتواصل مع الآخر المختلف على قدم المساواة ونفذ هذا الحلة بإنشائه للمدرسة.
وهذا هو معنى العنوان وما يحيل عليه باعتبار العنوان عتبة أولى “دار العشاق”فليست الدار سوى مصر وليس العشاق سوى شارل وأمثاله أصحاب الحلم وحتى الصورة التي تزين الغلاف باعتبار الصورة واللوحة عتبة كذلك للولوج إلى عالم الرواية إنها سيف مكسور وليس مثلوما فهو سيف جميل مزدان برسوم الفن والجمال وكأنه تحول عن غايته الحربية إلى غاية جمالية فنية. لتعضد الرؤية الفكرية وموقف الروائي من التاريخ وإعادة كتابته ونظرته إلى الحاضر والمستقبل وفق نظرة شخصية تتأطر بالتاريخ والتخييل وبالموقف الأيديولوجي وتتأثث الذاكرة بالحوادث التاريخية التي تسرد وفق خطية زمنية وحوادث ملفقة يختلقها خيال الروائي لدفع الأحداث نحو التأزم والتعقد تحت تأثير نظرته وموقفه من التاريخ. وكان والتر سكوت الذي عاش في زمن محمد علي كتب أكثر من خمسين رواية تاريخية وكتب أن التخييل يمد يد العون إلى المؤرخ لتفسير وفهم حوادث التاريخ خاصة فيما سكت عنه من ألغاز تعد عتبات مظلمة وسراديب معتمة.
غير أن السؤال الذي يقفز إلى الذهن هو مدى المصداقية الفكرية والأمانة العليمة والتاريخية في تفسير التاريخ وتشريح حوادثه فلاشك أن محمد علي كان مستبدا وأذاق المصريين ألوان البؤس والفاقة وتعاون مع الخارج وحفظ مصالحه لتعضيد حكمة وتثبيت سياسته وتوريثها لخلفه ولم تتخلص مصر منهم إلا بثورة يوليو 1952 بإنهاء الملكية وطرد فاروق من مصر نهائيا ولكن المؤرخين يجمعون على إيجابيات كثيرة في حكم ومحمد علي أهمها بناء مصر الحديثة فهو بانيها كما أشاع هو نفسه عبر بناء الجسور والمصانع وتطوير الجيش وإنشاء المدارس وإنشاء الصحافة ثم البعثات العلمية إلى الغرب للإفادة من العلوم والمعارف وقد كان رفاعة الطهطاوي ثمرة هذا التوجه من محمد علي. كما أن فبركة حوادث في نطاق التخييل في إطار تطور الأحداث وتشابك العلاقات قد يصطدم بحقائق تاريخية مغايرة مثل تطرق الروائي لوفاة ابن محمد علي طوسون باشا وقد شاء الروائي له أن يموت بالشبق والإسراف في المتعة مع عشيقته الجيورجية صوفيا في قصر بالريف وقد لاذا به للاستجمام ثم هروبها بعد ذلك في حين يتحدث التاريخ عن وفاته بالطاعون أو الجراح التي عاد بها من الحجاز في حروبه ضد الوهابيين. وقد كتبت الكاتبة البريطانية صوفيا لين أخت المستشرق إداورد لين أنها التقت بها في قصر القلعة بعد أن غدت أرملة ورأت مبلغ توقيرها داخل القصر هذا وكأن الروائي يشرع لنفسه حق لي عنق التاريخ لتأكيد وجهة نظره وتفسير التاريخ على هواه.
رواية ممتعة وسرد شيق وأحداث متشابكة وإضاءة لعتبات معتمة وزايا مظلمة في التاريخ ودهاليز منسية أو متناسية في التاريخ المصري الحديث منذ نهاية القرن الثامن عشر تاريخ الحملة الفرنسية فهي رواية تطرح أسئلة على الماضي لتفسر الحاضر والمستقبل واللافت أن الروائي تخلى عن العامية في الحوار لصالح الفصحى دائما وعلل هو ذلك بخشية عدم الفهم من قبل القارئ العربي في غير مصر.