شوقى عبد الحميد يحيى
بعد حربين عالميتين، وقع في الأولى منها نحو 16 مليون إنسان قتيل، وفى الثانية نحو 50 مليون إنسان أيضا. وتنامى أخبار القتلى في الحروب الناشبة بين الكثير من الدول، وغيرها، يقع الأرقام الكبيرة للقتلى، حتى ما تردد حول “المليار الذهبى، والذى تسعى فيه الدول المالكة لأجهزة الدمار، أن يصبح العالم مليار فقط، أى انه مطلوب قتل نحو 7.1 مليار (إنسان)، حيث تفيد آخر إحصاء لسكان العالم في العام 2024 إلى 8.1 مليار إنسان. وأمام التقدم الرهيب للعلم، وقدرته، أصبحنا نقرأ ونسمع عن تخليق الفيروسات القاتلة، والعبث بالمناخ، وخلق الأمراض الفتاكة، وأقربها ما أثير حول فيروس الكورونا والمعروف في العالم بكوفيد 19 قد حصد نحو 352 مليون إنسان، وبينما أصبحت أخبار الحروب تطغى على ما عداها من أخبار، أصبح الإنسان يشعر بالقلق والخوف الذى يدمر المستقبل، وما على الإنسان، الفرد الضعيف، إلا أن ينتظر دوره فى “المفرمة”، التي لابد قادمة.
ولا شك أن أكثر الناس، شعورا بذلك القلق والخوف، هم الباحثون عن المثالية، والرافضون لموت الإنسان، سواء كان موتا طبيعيا، أو معنويا، وهم المبدعون، الذين يتقوتون على وجود الإنسان على الأرض، وتفاعله بين كل العناصر الموجودة عليها، من بشر أو حيوان أو طيور، أو حجر. منهم من ينغمس في صخب الحياة ليستخرج مادة إبداعه، ومنهم من يعتزل الحياة، ويتأمل سيرها، ويتصور ما ينتظرها، من خلال ما عاشه عليها. وأصدق مثل لهؤلاء في إبداعنا العربى، والروائى تحديدا، هو الروائى محمد الفخرانى، الذى اختط لنفسه تأمل العالم من بعيد، واختط لنفسه، نهجا تجريبيا، تميز بشاعرية الرؤية، فكانت النظرة النابعة من الذات، وكانت الرؤية المبطنة، والمتخفية وراء الظاهر، وكان التكثيف، غير المخل.
ففى رواية “ألف جناح للعالم” ، نرى الإنسان فيه سعى إلى عالم، لا يرى فيه إلا الموسيقى، ولايسمع إلا الأنهار، ولا يشعر فيه إلا بالزروع، وبالخضرة. عالم يتسع للخيال وللحرية. وتتجلى دعوة الفخرانى في روايته الناطقة منذ عنوانها “لاتمت قبل أن تحب” . وفي روايته “غداء في بيت الطباخة” ، سنجد التقاء جنديين يتحاربان، لكن التقارب بينمهما يُحول الرغبة في القتل إلى دعوة للغداء. وهو ما يوضح لنا رؤية الفخرانى للعالم، وما عبر عنه في إبداعاته، التي كان أحدثها “حدث في شارعى المفضل” .
وقبل الدخول في الشارع المفضل للفخرانى، فإنه يجب أن نشير –لمن لم يقرأ له أيا من أعماله السابقة-أنه لا يكتب الرواية التقليدية، التي تعتمد على حدث وشخصيات، وتطور تلك الشخصيات، وفقا لتطور الحدث عبر الزمان، والتي تتصل بشكل أو آخر بقضية محددة الأبعاد، وفى زمن محدد، وإنما هو –في كل أعماله، يذكرنا بالكاتب التشيكى فرانز كافكا (1883-1924)، الذى جعل كل همه “الإنسان”-مثلما فى روايته “التحول” حيث يظل الابن (غريغور سامسا) سيدا طوال ما هو يقوم بإعالة العائلة، بينما عندما يتحول إلى حشرة، ويفقد القدرة على العمل، يكون سعى الأسرة هو التخلص منه بداية من الوالد، وانتهاء بالأخت. باعتبار أن الاقتصاد هو ما يعطى الدور الأساسى للإنسان. بينما الحروب والدمار، وما يعيشه العالم اليوم، هو ما يؤدى إلى دمار الأرض ونهاية الإنسان في رواية الكاتب المصرى محمد الفخرانى، وإن كان الاقتصاد لا يبتعد كثيرا عن الهدف الأساس وراء الحروب والاقتتال بين البشر. وهو ما نستطيع معه القول بأن الإنسان هو البطل، والمحرك للأحداث-إن وجدت-وهو الموضوع الأساس في كل رواياته، والتي تجلت بصورة أكبر في عمله الأحدث” حدث في شارعى المفضل” والتي يوحى عنوانها بأن أحداث أو فعل الرواية كلها، قد دار في الماضى “حدث”، بينما الرواية كلها تدور في أفق المستقبل –القريب-. غير أن المستقبل، هو الابن الشرعى للماضى والحاضر. كما أن الرواية، يتماهى فيها الزمن، فلا نعرف ماض من حاضر من مستقبل. فضلا عن أن كل الشوارع تاهت وغابت، خاصة ذلك الشارع الأليف، أو الشارع الخاص، أو المفضل، غاب في مكان وزمان غير محددين، فكأن الكاتب أراد أن يدخلنا في لعبة الزمان والمكان، ويدخلنا في عالم اللاموجود، منذ البداية، وكأنه يتناول أشياء وأحداث عادية، وكأننا أمام تحذير مما يحدث اليوم، وكأنه الطبيعى والعادى، بينما هو يؤدى إلى ما ليس بعادى.
وإذا جاز لنا أن نتحدث عن قصة الرواية، فلا قصة فيها غير أن الأرض اختفت، ولم يعد فيها غير امرأة وحيدة، تعيش في بيت طينى، وخارج هذا البيت، هو الهاوية، والمجهول. ولنا أن نتصور أن يبحث الإنسان عن بيته، فلا يجده، رغم علمه أنه موجود في مكان ما، كما أن كل وسائل الاتصال –الحديثة- قد توقفت {في اليوم الثالث انقطعَتْ كل وسائل الطاقة، ومات الإنترنت والموبايل والكمبيوتر، هو نفسه اليوم الذي بدأ فيه الحَدَث الكبير: اختفاء وجه الأرض.
وقد يكون من المفيد أن نترك الكاتب يصور ما حدث، بلغته، وتصوره {ما يحدث ليس حرائق ولا زلازل ولا ذوبانًا للجليد ولا براكين ولا فيضانات ولا إعصارًا ولا ارتفاعًا شديدًا في درجات الحرارة ولا انخفاضًا، نَجَونا كلنا، البشر، من هذا كله مرَّات كثيرة، تَذكرون؟ وكانت الأرض تساعدنا، نحتمي بها، تُوَفِّر لنا مكانًا آمنًا دائما كان لنا عندها مكان، حتى الأجسام الفضائية، مثل النيازك وغيرها، لم يكن بإمكانها أن تُنهي حياة الأرض لَمّا ترتطم بها نادرًا، أو كانت تغير طريقها دون ارتطام، حتى جاء وقت لم نَعُد نقلق لَمّا نعرف أنَّ جسما فضائيًّا في طريقه إلى الأرض، فهو لن يصنع أكثر من حفرة أو سيغير طريقه، لكن هذه المرَّة، الأرض نفسها ترحل، تتناقص، تذهب، تختفي، ومعها تتناقص الأماكن وترحل وتختفي، الأرض بذاتها تُقرِّر الرحيل، لن يكون لأيٍّ منّا مكان يذهب إليه أو يأتي منه أو يبقى فيه. وكنّا نَصِفُ ما يحدث بأشياء مختلفة: “الأرض تنهار”، “الأرض تغادر”، “الأرض تختفي”، “الأرض ترحل”، “الأرض تذهب” .أنا اخترْتُ “الأرض ترحل”.} ص45، 46.
وقد قسم الكاتب روايته على خمسة أقسام:
القسم الأول: مجموعة من اللوحات، تحمل الدهشة والترقب، والاشارة، والتي تلعب دور الحركة الأولى من سيمفونية بيتهوفن الخامسة، والمسماة بالقدرية، والتي تمهد لحدث كبير. وإن كانت معطيات الرواية سوف لا تختلف بذلك التحول، خاصة أن بيتهوفن معروف عنه أنه كان (متمهل غير متعجل) في سيمفونياته، وهو التعبير الذى كان لازمة من لوازم الرواية، الأمر الذى يخلق الرابط بين الرواية والقدرية. ففي هذا القسم تتخبط الأشياء، وتتداخل المعانى، وكأن شيئا يحدث، غير طبيعى {بعد اختفاء اللون الأصفر تغير العالم، لا أقول فَقَدَت الكائنات لنُّطق، أو تكسَّرَت الأشجار بمكانها، لكن.. تغير العالم .. الألوان مَثَلًا، ارتَبَكَ حالها، خاصةً الأحمر والبُنِّي والبرتقالي} ص15. فإذا كانت الألوان تمنح الإنسان أحاسيس معينة، فإن تغير ناموس الكون، وتغير الألوان، فقد حدث ما يشبه الاضطراب والقلق.
القسم الثانى: محاولة لتحويل الدهشة إلى العادى، حيث نرى أن الساردة، المجهولة الاسم، وكأنها المرأة في كل العصور، وفى أي مكان على الأرض، تعيش الحب –الروحانى-، وتعيش الحب –الجسدى – كى تكون إنسانة. ففي الحب العذرى الذى تعيشه، او تخلقه كحلم يعيش في جوانيتها، فتناجى الرسام تقول الأرضية للموهوب {وأنا لا يمكنني إلا أن أحب كل شيء فيك} ص46.
{“فقط قولي لي إنكِ تُحبين طعمي”، “أقول لك اسكُت..”، تضغط أنت أكثر ,وتُحبين قلبى، طبعًا أحب قلبك، أحب كل شيء فيك، لكني لن أقولها في حوار كهذا، وأنت يا شرير لا تتوقف، تُواصِل ضغطَك عليَّ: “قولي إنك تُحبين قلبي، يا أرضيَّة”، “قُلْتُ لك إني أكرهك”، “لكنكِ تُحبين قلبي”، لا أرُدُّ وبداخلي كلام كثير} ص50.
{فأومئ وأنا أمسح دموعي، “أنا أحبكِ في الأصفر”، “وأنا أحبكَ في كل شيء، وأحب كل شيء تكون فيه”، تبتسم في عينَيَّ، وتقول: “خذي قلبي معك.”، وتظلُّ تنظر في عينَيَّ بكل ما تبقَّى فيك ومنك، وأنا أنظر في عينيك، أنت يا أكثر شخص أحبه} ص58.
كما أن للجسد احتياجه، والحبيب غائب، فتناغى الجسد، وكأنها تمارس معه لدة اللقاء {أقول له، لجسمى،”نعم، أعرف، اِبكِ. قُل ما عندك، لا تخجل”، ونبكي معًا، وألمسني، أُمَرِّر أصابعي، ألمسني بورقة شجر، ألمسني خفيفًا، بلا دراما، فقط لأحصل لنفسي على لذَّة شفيفة، فلا ينساني جسمي ولا أنساه، ونبتسم، لا دراما كما اتفقنا} ص151.
القسم الثالث: عودة إلى الحياة البدائية والعيشة الأولى على الأرض {وعند منتصف أحد الجدران موقد صغير، عبارة عن أربعة قوالب من الطوب فوق بعضها بعضًا، توازيها أربعة مثلها، وبينهما فراغ رُبع متر لإشعال النار، وبجوار الموقد كومة مرصوصة من قِطَع الخشب}ص75, غير أن الكاتب استفاض في وصف تلك الحياة، في الوقت الذى كان يمكن فيه الاكتفاء بالإشارة إلى بعض تلك الحياة، حيث بدا القسم وكأنه توصيف لكل ما كان في هذه الحياة، مثل وصف الرحى، وتفاصيل شكلها، وما تقوم به من أعمال في طحن الحبوب للاستخدام الشخصى، وغيرها { أنا أعرف طُرُق قَطف الزيتون اليدويَّة والميكانيكية، وطُرُق عصره، وقبل أن ترحل الأرض كنت مع شجرة الزيتون في المساحة الخلفية لبيتي، أستعمل الطريقة اليدويَّة التقليدية جدًّا للقَطف، هي المُفَضَّلة لي، ولم أكن أعصر زيتونها، فقط أصنع منه بعض المخَلّل لي وللرسَّام الموهوب، وأبيع المُتبقّي} ص91.
القسم الرابع بداية كتابة التاريخ من جديد. ويلاحظ وجود الرسام بصورة أكبر من القسم الثالث. حيث الدعوة -المبطنة-للحب، وفيه يتم التأسيس لعمران الأرض من جديد، عندما تعود. وإن أنهاه الكاتب بما يشبه المذكرة التفسيرية لما سبق تقديمه، وتوضيح ما انغلق أو ما يمكن أن يكون قد انغلق على القارئ.
القسم الخامس وفي هذا القسم يفجر الكاتب المفاجأة، التي تُحدث التحول الكامل في مسيرة الرواية. فبينما تسير الرواية وفق رؤية تأثير ما يجرى على الأرض من حروب ودمار، والرؤية، الكونية، نجد الرواية تتحول إلى الرؤية الذاتية البحتة، حيث نقرأ هذه الفقرة التي تأتى في نهاية الرواية، بعد الحديث عن العمر، ونسبية النظر إليه {وأراه. أراه خارج النافذة.
أرى حُبِّي السَّهل، الرسَّام الموهوب، أخي الصغير، أراه يَمُرُّ أمام النافذة، متمهِّل، غير متعجِّل، ينظر إليَّ بابتسامته السَّهلة، وبيده دفتر الرسم والقلم الرصاص، أراه في عُمْر 14 سنة، العُمْر الذي مات فيه بين يدَيَّ وأوصاني أن آخُذ قلبه، القلب الحبيب، زرعْته في حضن شجرة زيتون} ص204. حيث تتحول الرواية بكاملها إلى الحزن العميق الذى غَيب الأرض ومن عليها عندما مات الأخ وعمره أربعة عشر عاما فقط، وكأننا أمام سلسلة من التأمل أمام الفجيعة، وكل ما مر منها –بالرواية-ليس إلا لحظة تأمل للموت حين وقوعه على من نُحب. أو أن الكاتب يمارس لعبة مع القارئ، فيسير به في شارع يؤدى به في النهاية إلى النهر، فيجد القارئ نفسه في النهاية أمام الصحراء.
وإذا كان وجود الإنسان على الأرض، محكوم بعدد من السنين، المتوقفة على دوران الأرض حول نفسها (لخلق اليوم) والدوران حول الشمس (لخلق العام، بفصوله المختلفة). فكلاهما –اليوم والعام-يمكن أن يكونا نسبيا، فإذا كان اليوم عندنا، على الأرض، يُحسب بأنه 24 ساعة، فمما لا شك فيه أن ذلك خاص بأهل الأرض، بينما نرى القرآن الكريم يتحدث غير ذلك، فاليوم عند الله كألف سنة من أيامنا، وهو ما يعنى التأنى، وعدم العجلة، وهو التعبير الذى تكرر كثيرا في الرواية، وكأنها إشارة إلى خلق الأرض، فضلا عن الآية الخامسة من سورة السجدة {يُدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون}. فالزمن إذن شيء نسبي، تعرض الرواية له في كثير من المواضع منها {تعرفون طبعًا أنَّ تقديراتي للوقت أثناء رحيل الأرض، قبل وصولي إلى البيت الطيني، ليست صحيحة بشَكلٍ كافٍ، كنت أُقَدِّره حسب شعوري الشخصي به، وعلاماتٍ غير أكيدة} ص98. وأيضا {دخلْتُ، وشعرْتُ أني كنت “هنا” من قبل، أو أني “هنا”، أو سأكون “هنا”، أو الثلاثة معًا، هل شعرْتُ أم عرفْتُ؟} ص69. فالوقت ليس شيئا مؤكدا في ذهن ورؤية الساردة.
وتبدأ الساردة في عملية تأريخ جديد، وفق مفهومها هي، وإن كانت لا تزال تعيش حياة الأرض الأولى، فعدم اليقين هو المهيمن {“أيّ تاريخ أختار؟”، قُلْتُ لي، وشعرْتُ بشيء من رهبة وزَهو خفيف، لن أُنكر، فأنا بنفسي أختار تاريخًا هو بطريقة ما بداية جديدة للبشر والأرض، أنا في هذه اللحظة أُمَثِّل كل البشر، أنا كل البشر فِعلًا، انتظرْتُ ثواني حتى رحلَتْ رهبتي ومعها زَهوي، كيف لا يرحلان.. الأرض نفسها رحلت.} ص106.
{صار لديَّ تاريخ كامل، باليوم والشهر والسنة} ص107. {يومٌ واحد هو عُمرٌ كامل مثلما 1000 سنة هي عُمرٌ كامل} ص193.
وتلعب الألوان دورا رئيسا في الرواية، نظرا لارتباطها بالأرض التي يخرج منها النبات، بألوانه المتنوعة والمختلفة، وفيها ألوان قوس قزح المجمعة لكل أطياف الألوان، والمجمعة ل)الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرق والنيلي والبنفسجي). وهو ما يعنى أن الكاتب رغم البساطة والتجريدية التى لجأ إليها، نظرا لعدم وجود الأرض -الرمزى-وكأنه يعتمد عليها رغم عدم وجودها، حتى أنه أشار إلى الساردة والإنسانة الوحيدة الموجودة في الرواية، وفى الأرض، باللون الأصفر، والذى لعب كثيرا في أحلامها، وذكرياتها، حيث يشير اللون الأصفر إلى البهجة والثراء، فهو لون الذهب، ولون ضوء الشمس، وهى الصفات التي تتواءم مع صفات المرأة عموما. بينما وصف الرجل، الحبيب المصور الموهوب، باللون البنى، الذى هو لون الأرض، والذى يرمز للصلابة، والدفء والأمان. وهى الصفات التي تتواءم مع الرجل. ولذا نراها عندما طلبت من الرسام الماهر أن يناديها {اقترحْتُ لك: “نادِ الألوان”، ناديتَ لوني المُفَضَّل: أصفااااااااار”، كأنك تقدِّمه لي هدية. وناديتُ أنا لونك المُفَضَّل: “بُنِّييييييييييي”.} ص53.
فضلا عن طغيان استخدام الألوان في كل شيء، ففي حجرات البيت نقرأ:
{أشرت بإصبعي عن يميني إلى باب بدَرْفَتَين زرقاوَين إحداهما مُوَاربة سنتيمترات، وقُلْت: “غرفة
النوم”، وأشرت بمواجهتها عن يساري إلى باب بُنِّي بدَرفة واحدة مُوَاربة: “الحمام الكبير”، بعده بخطوتين أشرت داخل ممرّ: “الحمام الصغير”، وبعد ثلاث خطوات، توقفْتُ أمام باب أخضر عن يميني، له دَرفتان إحداهما مُوَاربة، وقُلْت: “غرفة الطعام} ص74.
وهنا نرى أن باب حجرة النوم باللون الأزرق، وهو ما يشير إلى الهدوء وتجنب الإزعاج. كما جاء باب الحمام باللون البنى، الذى هو لون الأمان، وهو ما يتطلبه المكان. بينما جاء باب غرفة الطعام باللون الأخضر، وهو ما يرمز للخير والأمل.
كما نستطيع أن نساير الساردة لنجد تدخل الألوان في الكثير من الأشياء، مثل المناديل، والشجر، وغيرها، حتى أنها عندما تقرر رسم خريطة العالم، توضح أبعادها على النحو التالى {سأختار لونًا محدَّدًا لكل مجموعة أرسمها، الأخضر للغابات والأشجار، الأزرق للأنهار والبحار والمحيطات والبحيرات، بُنِّي للصحراء بديلًا عن الأصفر، قرمزي لحدود الدول، البرتقالي للمُدُن والقُرَى، البنفسجي للشوارع، الوردي للبيوت والأكواخ} ص114. وهو ما يعنى أنه رغم عدم وجود الأرض، فإن الساردة-والكاتب-يستمدان مادتهما مما هو موجود على الأرض بالفعل، حتى أنها رغم معيشتها فى البيت الطينى الوحيد المتبقى على الأرض، استخدمت نفس الأدوات التي تُستخدم على الأرض، وقامت بعمليات الزراعة وإنتاج زيت الزيتون مثلما يجرى على الأرض بالفعل، وهو إن دل على شيء، فإنه يدل على التأكيد للبعد الرمزة الذى تسعى إليه الرواية، وهو ما سيؤدى إليه ما يتم عليها من عمليات تدمير، وتهميش للإنسان. في القراءة الأولى للرواية. وهو ما توضحه الرواية بالإشارة إلى الحب في {بدأت الحرب بأسرع ممّ توقَّعْتُ، أقصد الحرب بين الدول، تتناقص الأرض يعني أنَّ الطعام يتناقص، يذهب وجه الأرض ومعه كل شيء، نتحارب نحن البشر لنحصل على مساحات من الأرض، ننتزعها من بعضنا بعضًا، هي نفسها المساحات التي لن تكون موجودة بعد قليل، نتحارب لأجل الطعام الذي يطلع من الأرض، كأننا نكتشف بعد سنين السنين أنَّ طعامنا يطلع منها. الجميع ضد الجميع، والأرض تنهار بشَكلٍ أسرع، ولم يكن ممكنًا لأحد أن يكسب الحرب أو يخسرها، انتهت في أقَلّ من سنة، مدة كافية لتدمير كل شيءِ} ص52. أي رؤية الحرب وما تسببه من دمار للأرض حاضرة في خلفية الرواية، ورؤيتها. علاوة على أن اللون(الأصفر) يحدد الكثير من معالم الأرض {ربما ننخدع للوهلة الأولى ونفكِّر أنَّ اللون الأصفر غير منتشر في العالم، لكنه سيُفاجئنا بالمساحات التي يغطيها، وأهمية الأماكن والأشياء والتفاصيل التي يتواجد بها، والجمال الذي يصنعه وجوده. الأصفر لون الصحراء، فقط لنُفَكِّر كَمْ تغطي الصحراءُ في كوكبنا، والأصفر حاضر جدًّا في لون الشمس عند أجمل أوقاتها، الشروق والغروب حقول القمح، وحقول دوَّار الشمس، لونها أصفر. النار في أحد تجليَّاتها الأساسية صفراء، وهي شريك أساسي في حياتنا، كما لا يمكننا تخيل غابة أو حديقة حقيقية وفيها الأصفر، في أعماق البحر سمكة وفي أعلى الجبل وردة .. صفراء} ص171.
وبعد أن قبضت الساردة على قلب الرسام، الذى لا يستعمل سوى الأقلام الرصاص، الأمر الذى يوحى بالبدايات، العمرية، والفنية، ثم حفرت حفرة في الأرض، او اللاأرض، وضعت فيها قلب الرسام، ليحدث التوحد بين الأرض والحبيب، وهى(الأرضية) مثلما كان يناديها الرسام، كما تتوحد رؤية الرسام الموهوب (الحبيب) والرسام الموهوب (الأخ)، ليعبر القلب عن المشاعر التي تكنها في الحالتين( الحبيب والأخ) {متمهل غير متعجِّل، وأنا أعرفه، ويعرفني، إنه قلب الأرض، نَبْض قلب الأرض، أعرفه ويعرفني، أبتسم له، أراه بعينَيَّ المغمضتَين وهو يقترب لي منِّي فيَّ، يلمسني وألمسه، يحضنني وأحضنه، وأسمعه داخل صدري وقلبي. قلب الأرض وقلبي ينبضان معًا.} ص203.
ويظل السؤال المطروح مترقبا، لماذا تخير الكاتب ساردة وليس ساردا؟
والرأى عندى أن الفجيعة تقع على المرأة [اشد من وقوعها على الرجل، فهى صفراء، وليست بنية.
كما أن المرأة هي من يبدأ الحياة، وإن كان آدم قد جاء أولا، فإنه لم يستطع أن يأتي بقابيل وهابيل، إلا بعد أن كانت حواء. ونحن أمام بدايات جديدة للأرض –الأم- وليست الأب، لذا فقد وفق الكاتب في اختيار المرأة ذات الأربع والثمانين عاما، وهى نفسها الفتاة ذات الإثنين والعشرين عاما، لتكون ساردة لرحلة اختفاء الأرض وبدايتها من جديد، بعد أن تتخلص من منغصاتها.
ولتظل “حدث في شارعى المفضل” رحلة فنتازية واقعية، دمج فيها المبدع محمد الفخرانى بين الخيال والواقع، فحملنا بالخيال إلى عالم لاواقعى، ليقدم لنا الواقعى، والمرئى والمعيش، جامعا الهم الكونى، مع الفن والإبداع، والجمال. والهم الشخصى عندما تنتهى الرحلة المعلومة وتبدأ الرحلة المجهولة داخل الأرض، مع الأخ، ويذهب بالأرض إلى المجهول، وكأنها بذلك قد أنهت تلك الرحلة الأخيرة، التي تسبب المرارة للإنسان، الفرد، وتسبب التشرد والضياع للإنسان في المجهول.