د.مصطفى عطية جمعة
تمثّل قضية التثقيف أو المثاقفة -في الفن المسرحي- أولى العتبات في فهم سبل تنمية الوعي والذائقة، فالمثاقفة وإن كانت تعني الحوارية الثقافية بين ثقافات عديدة، أو بين روافد ثقافية تغذي الإبداع المسرحي، إلا إنها يجب أن تشتمل على فكرة المشاركة العادلة، وهذه المشاركة نظرا لقيامها على مفهوم الاعتراف فإنها تحمل أبعادا معرفية وأخرى قيمية أخلاقية، إلا أن الواقع يشير إلى فكرة النسبية التي تؤثر في هذا المفهوم وتحدد وجهته، مما يفسح المجال لاختلاف المعايير المناسبة والتي تختلف في مضامينها من طرف إلى آخر، مما يصعّب من تحديد مفهوم المثاقفة الإيجابية والواعية، والتي تفترض انتفاء التفاوت وعدم احتكار الرؤية واقصاء المنظور الأحادي الجانب. فالمثاقفة مع الآخر هي جسر بين ثقافتين مختلفتين، يتم التواصل بينهما، وتكمن الأزمة في طغيان إحدى الثقافتين على الأخرى، فتعلو عليها، وتخضع الثقافة المنهزمة لرؤى الثقافة المستعلية ومكوناتها. وهنا تكون ما يسمى المثاقفة السلبية، محتكرة الرؤية، التي تقصي الثقافة الأخرى الأضعف، وتتمسك بالثقافة المهيمنة، أما المثاقفة الإيجابية الواعية، فتعني فكرة التعادلية التي هي أقرب إلى الندية في البعد النفسي، فتمنع الاستلاب، وتدعم الاحترام وقبول الآخر، وتتعاطى بالإيجاب والاستفادة. وهذا بعد نفسي في الأساس لدى القائمين على المثاقفة أنفسهم، بمعنى أن حالة الاستلاب النفسي والحضاري والثقافي تكون مسيطرة على الطرف الأضعف، لصالح الطرف الأقوى، فترى أن النموذج المثالي المسرحي في الغرب، وعليهم احتذاؤه، والسير على هداه. وبالطبع قد يكون مقبولا في البدايات، ولكنه غير مقبول بعد استواء الفن المسرحي، وسموق شجرته لدى الثقافة الأقل، فبدلا من التحول إلى الندية التي تعني تعاطيا إيجابيا؛ تظل على حالة الاستلاب والانبهار.
وتقدم تجربة المسرحي الكبير بيتر بروك نموذجا رائعا في المثاقفة، طبقه بالفعل في تجربته المسرحية التي امتدت لأكثر من خمسة عقود، فقد اعتمد مبدأ أن المسرح هو حدث، ومن ثم فهو لا يقوم على صورة أو سياق خاص، وتعريف الحدث أنه وجود الممثل حقيقة على الخشبة وهو ما نقرأه في كتابه “النقطة المتحولة: أربعون عاما في استكشاف المسرح (1991)، مما يعني أنه نظر إلى المسرح بشكل مجرد عن أية انحيازات مسبقة، وتعامل معه بوصفه حدثا وفنا وأداءً وتمثيلا، وهذا ينم عن احترامه لكل الثقافات والأفكار والرؤى.
فالمسرح عند بيتر بروك وجهة نظر متحولة، وليست متأرجحة أو متذبذبة، فهي تعني الكشف عن الجديد في الأداء والحركة، من خلال أنماط محددة من أشعة أكس – مثلا – فيؤدي إلى تغيير المنظور، ثم إلى خلق وهم بالكثافة، فيصبح المسرح في أعماقه تجربة حسية مثيرة ومؤثرة وممتعة.
سنلاحظ أنه ينظر إلى جماليات الأداء المسرحي، وما يمكن استكشافه من خلال العروض المسرحية، وتفاعل الممثلين مع النص، ومع الجمهور، ومن أجل ذلك، دخل في عملية مثاقفة واسعة، فقد خاض تجارب مسرحية مع ممثلين من جنسيات مختلفة، ومن أطر ثقافية متباينة، وقدّم عروضا في وسط أفريقيا، وأطراف استراليا، وفي أماكن أخرى مختلفة في آسيا وأمريكا، ولا توجد أية مشكلة بالنسبة إليه في تغيير طاقم العمل، والنص، وإفساح المجال لأي رؤية مبتكرة تطرأ على الممثل أو المخرج أو أي شخص في فريق العمل معه، أو حتى من الجمهور المشاهد. وهو حين يقترب من تلك الإبداعات الصادرة من ثقافات أخرى، فهو لا يقترب منها بأفكار مسبقة، أو بقوالب جاهزة، وإنما باحترام ومحبة، ورغبة صادقة في فهم منطقها الداخلي، والوظيفة التي كانت تؤديها في الثقافة التي صدرت عنها. وعلينا الانتباه إلى أن الجمهور لا يستجلب إلى المسرحية، وإنما يحضر بمحض إرادته، وتكون البراعة في إحداث تفاعل كيميائي، يعتمد على ردة فعل الجمهور نحو الأداء المسرحي المقدم أمامه، فهم خليط من الناس غير المعروفة متجمعين على قلب مركزي وهو المسرحية المعروضة أمامه.
فجوهر تجربة بيتر بروك هي التحيز لكل ما هو إنساني وإيجابي وخيري، فهو منفتح العقل والفكر والنفس أمام مختلف الثقافات، مثل انفتاحه على مختلف الأداءات المسرحية، وما يمكن أن يبدعه الممثل في تجربته على الخشبة، وينظر إلى كيفية تفاعل الجمهور اللحظي، ومن ثم يراكمه في الخبرة الجمالية، ويضيفه إلى المسرحية نفسها أو في مسرحيات أخرى. هذا النموذج يضاده نموذج متحجر عند قناعات إيديولوجية أو دينية أو ثقافية، يستقبل من خلالها أي ثقافة، فيصبح أسيرا لها، وتكون تجربته أشبه بالترويج المباشر لأفكارها.
بمعنى أن تحليل التثقيف أو المثاقفة في الفن المسرحي، لا يقتصر على تحليلات النصوص، بل يشمل مفردات العرض المسرحي المقدم من ناحية أخرى، وكما يقول الناقد الأدبي الكبير “مورون” بأن العنصر المهم في كل مسرحية ليس الشخصية (الممثل) بل العلاقات المتأزمة بين (عنصرين) تشكيلينِ على الأقل، أي الموقف الدرامي بحد ذاته وهنا يركز مورون على الحد الأدنى في تحليل مفردات العمل المسرحي مثل : الحدث والصراع، أو الشخصيات وعلاقاتها، فمن خلال تحليل النص المقدم دراميا، يمكن أن نضع أيدينا على أبعاد التحيز، بل إن صناعة الشخصية المسرحية : نفسيا واجتماعيا وفكريا وحركيا، فيه الكثير من التحيزات المبطنة، ناهيك عن الغاية الفنية والفكرية التي يحملها العمل المسرحي ككل.
ويضيف مورون مصطلح التشكيل ويعرّفه بأنه الذي تتقاطع فيه كافة العلاقات، والقصد منه كافة المفردات والعناصر النصية والجمالية والأدائية المتمثلة في الفن المزمع دراسته. وهذا متوقع من “مورون”، بوصفه أحد أعمدة مدرسة النقد النفسي، ومفهوم سعيه إلى ترسيخ النظر والدراسة لمجمل التشكيل في الإبداع المسرحي، فلكي نفهم العمل الفني حق الفهم، علينا النظر الفاحص والمتأمل للمواقف الدرامية، وما يحيط بها من عناصر تشكيل : كالموسيقى والغناء والأداء الحركي الراقص..، فهذه كلها صانعة العمل الفني، الذي يصهر في بوتقة واحدة، ولابد من تحليل هذه العناصر ومعرفة خلفياتها وتأثيراتها النفسية.
فالمسرح – وكما يقال – هو أبو الفنون، وفيه تتكامل عناصر الظاهرة المسرحية: الكلمة / النص، الممثل، الإطار التشكيلي، الديكور، الملابس، الأقنعة، الإكسسوار، الإضاءة، الجمهور، كل ذلك داخل ضمن الإطار المعماري للعرض، وسنلاحظ أن الجمهور يقع ضمن منظومة العرض المسرحي، من حيث دراسة طبيعة الجمهور المشاهد / المستقبِل للمسرحية المقدمة له، والوقوف على مستواه الاجتماعي والثقافي والجمالي، وأيضا معرفة الأفكار والقناعات التي يؤمن بها. كما يُنظر في هذا الصدد إلى كيفية تلقي الجماهير للعمل المسرحي وتفاعلهم معه، والتأثير النفسي المتولد في نفوسهم بعد عرض النص أمامهم ؛ فيما يسمى بفكرة الاستجابة المتوقعة عند إنتاج النص، والاستجابة المولدة بعد عرضه، والتي تساهم في تغيير فكر صانعي المسرحية، من أجل الحصول على المزيد من رضا الجمهور، فالممثل مثلا حريص على تجويد أدائه، من خلال ردة فعل الجمهور كل ليلة، ونفس الأمر مع سائر المشاركين معه.
يضاف إلى ذلك، أن العرض المسرحي يمكن صياغته بطرق عديدة، فهو غير جامد كما يظن البعض، حيث يمكن أن تكون هناك عدة طرق لإخراج المسرحية، بما لا يؤثر على جوهر الفكرة. وتلك نقطة مهمة، إذا قرئت في إطار التثقيف، فإنها تفسر كثيرا من التغيرات التي تطرأ على نص المسرحية المؤدَّى، وطرق أداء الممثلين أنفسهم، فهناك ضغوط عديدة تمارس على صانعي المسرحية، تجعلهم يسلكون مسالك بعينها، ويقولون جملا محددة، بعض هذه الضغوط من المنتج وآليات السوق، وبعضها من السلطة والرقابة، وبعضها من الجمهور نفسه.
وعلينا أن نأخذ في الحسبان وجود نصوص مسرحية ذات صبغة أدبية واضحة، بمعنى أنها موجهة للقراءة (المسرح الذهني مثلا)، وقد لا يتم تمثيلها، وفي هذه الحالة، فإن المؤلف المسرحي هو صانع كل شيء فيها، فنحن سنحلل نصه، دون أية عوامل أخرى تتداخل معه، فهو صاحب الفكرة والرؤية والتحيزات، وهو مبدع النص الدرامي، ومبتكر شخصياته وأحداثه، وصائغ حواراته وإشاراته.